حدود طويلة تلك التي تفصل بين إيران وأفغانستان، وهي مصدر للمتاعب في إيران بشكل لا يقل عن الحدود العراقية وربما أكثر، فهي مماثلة للدور الذي تلعبه الحدود السورية مع تركيا من حيث تدفق اللاجئين (الأفغان في هذه الحالة) الذين تجاوزوا المليون لاجئ على مدار العقد الماضي، ومن حيث تجارة السلاح والمخدرات التي تهدد إيران بطبيعة الحال، وبالنظر لوجود القبائل الناطقة بالـ”باشتو” في جزء كبير من تلك الحدود، والتي تعد القاعدة الرئيسية لتنظيم طالبان، فإن المرء يتوقع أن تتضاعف تلك المتاعب بين نظام الثورة الإسلامية الشيعي وتنظيم طالبان السني المتشدد.
هي قاعدة بالفعل رسمت ملامح السياسة الأفغانية لسنوات طويلة، لكن العداء بين إيران وطالبان ينقشع على ما يبدو لصالح صداقة قوية ولو مرحليًا، سببها الرئيسي ظهور جيوب لداعش في أفغانستان تقدّر بحوالي ثلاثة آلاف مقاتل، وهو ما تعتقد إيران أنه جيب يخفي من ورائه دورًا سعوديًا للضغط على إيران وإن لم تكن هناك صلة قوية بين تمركز داعش الرئيسي في المشرق والسعودية، وبالنظر لتوجس إيران المتزايد من استغلال داعش لفوضى الساحة الأفغانية لخلق موطئ قدم، وما يمكن أنه يؤدي له ذلك التشابك الإقليمي، فإن طالبان وهي الطرف صاحب القاعدة المحلية والقبلية بالأساس يصبح أخف وطأة، وبالتالي يصبح التحالف معه خيارًا مناسبًا في المستقبل القريب.
الهدف الرئيسي لإيران حاليًا هو خلق حزام آمن بطول الحدود الإيرانية الأفغانية التي تتجاوز 900 كيلومتر، على غرار المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا في شمال سوريا، لكنه حزامًا لم تطلبه إيران من القوات الجوية الغربية، بل تبتغي نسجه بتحالفاتها الجديدة على الأرض كشبكة صلبة تمنع اختراق الدواعش لحدودها الشرقية، وهو هدف دفع إيران، ليس فقط للتنسيق مع طالبان ودعوة وفد من ممثليها لطهران عام 2011، بل وتزويدها بالسلاح، وهو تعاون يقلق الكثير من صناع القرار في الغرب ممن حاربوا طويلًا بالطبع لضرب طالبان في أفغانستان.
التعاون ليس سرًا
بدون الإفصاح عن هويتهما، تحدث مسؤولان من بلدين غربيَّين عن قيام إيران بدعم طالبان بالمال وبكميات صغيرة من السلاح غير المعقد كالرشاشات الآلية والذخيرة وقاذفات الآر بي جي، وهو اتجاه يُقلق واشنطن التي بدأت تكثيف حملاتها الجوية على معاقل داعش الجديدة في أفغانستان، لا سيما في مقاطعة نَنكرهار الحدودية مع باكستان، لكنها لا تزال بعيدة تمامًا عن خيار التنسيق المباشر مع طالبان، على العكس من بعض الأطراف الإقليمية التي فتحت باب الحوار مع طالبان سرًا مثل روسيا، القلقة هي الأخرى من تغلغل داعش إلى جمهوريات آسيا الوسطى ومن ثم إلى أراضيها.
الصين أيضًا فتحت بابًا للحوار والتنسيق، بل ودعت باكستان صاحبة الصلات الاستخباراتية القوية بطالبان إلى التوسط لإنهاء الخلافات التي نشبت في صفوف الحركة بعد إعلان وفاة الملا عُمر، والذي حظي في الحقيقة بعلاقات دافئة مع الصينيين منع أثناءها الحركة من تبني أية هجمات في ولاية تركستان الشرقية، معقل أقلية الأويغور المسلمة في غرب الصين، والذين لا ينتمون للعرق الصيني ويمتلك الكثير منهم نزعات انفصالية، وبعضهم كان ولا يزال على صلة بحركات إسلامية مختلفة في أفغانستان، أبرزهم الآن داعش التي يقول أحد المسؤولين الصينيين بالولاية أن العائدين منها إلى غرب الصين كانوا يخططون لهجمات بالفعل.
خريطة تواجد داعش في أفغانستان: معسكراتها، وأماكن تواجدها، ومواقع هجماتها، ومناطق الاصطدام مع طالبان
ما يجمع الإيرانيين والروس والصينيين مع طالبان هذه الأيام بالتحديد هي المواقف البراغماتية أكثر للحركة، والأبعد عن اللعب بخطاب العالمية الإسلامية ودعم المتمردين من الإسلاميين السنة هنا وهناك، وهي المهمة التي انتقلت لحركات أخرى منها داعش، وبكونها في نهاية المطاف، وبعد حرب أفغانستان الأمريكية عام 2001، طرفًا كان ولا يزال مناهضًا للوجود الغربي داخل أفغانستان، وهو ما يجعل التنسيق معه مناسبًا لكل من أراد ضرب عصفورين بحجر: داعش والتواجد الغربي، وهو ما يفسر أيضًا عدم وجود أي حماس لدى الدول الغربية بالتنسيق مع طالبان ضد داعش حتى الآن.
إيران هي أكثرهم حماسًا لطالبان وقلقًا من داعش نظرًا لقربها المباشر وحدودها الطويلة مع أفغانستان، وتورطها في الجهة الغربية من الصراع بسوريا والعراق بشكل يجعلها المستهدف رقم واحد من جانب الدواعش في أفغانستان، وإن كان البعض قد تصور أي إمكانية نظرية لحياد من جانب طالبان تجاه داعش، فإن داعش في قد قضت على تلك الاحتمالية تمامًا بهجماتها الحادة على طالبان، والتي تضمنت قطع رؤوس عشرة من مقاتلي طالبان واغتيال المحافظ المعيّن من الحركة في ننكرهار، وهي معركة خصصت لها طالبان ألف مقاتل من قواتها الخاصة.
لم يكن غريبًا إذن حين أعلنت الولايات المتحدة عن مقتل زعيم طالبان مُلا أختر منصور في غارة بطائرة بدون طيار في باكستان قبل أيام، إفصاحها عن تفاصيل وجوده في إيران قبل اتجاهه لباكستان، وكونه قد تمتع بحرية دخول وخروج إيران تحت سمع وبصر النظام الإيراني حتى التقطت الولايات المتحدة أنباءً عن وجوده مع مساعده في سيارة بباكستان وقررت ضربه.
ما قبل داعش: جذور الصداقة
تعود جذور التقارب في الحقيقة إلى سنوات عدة قبل ظهور داعش ولأسباب تتعلق بتعقيدات الساحة الأفغانية، فطالبان التي اتسم موقفها بالعداء الشديد مع الشيعة بشكل عام وإيران بشكل خاص، قامت عام 1998 بإعدام ثمانية دبلوماسيين إيرانيين بمدينة مزار شريف، وهي مدينة ذات قدسية لدى الشيعة كما يشي اسمها، وهو موقف دفع إيران في أوج عدائها مع الولايات المتحدة لتزويد الجيش الأمريكي معلومات استخباراتية عن مواقع مقاتلي الحركة عام 2001 بينما بدأت الحرب الأمريكية ردًا على حادثة 11 سبتمبر.
تغيّر ذلك عام 2007 كما يقول بارنِت روبين، دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى خدم طويلًا في أفغانستان، حين وقعت الولايات المتحدة اتفاقية مع الحكومة الأفغانية ليصبح من حقها التواجد العسكري في البلاد بشكل دائم، الأمر الذي أثار حفيظة إيران بطبيعة الحال، حيث رأت ذلك التحرّك جزءًا من الإستراتيجية الأمريكية لمحاصرتها بالقواعد العسكرية، لا سيما مع تزايد حدة خطاب الدولتين في عهد رئاسة جورج بوش الابن بالبيت الأبيض من ناحية، ورئاسة محمود أحمدي نجاد المحافظ في إيران من ناحية أخرى.
منذ ذلك الحين شرعت إيران في الحديث مع طالبان بفتح التواصل مع قياديي الحركة عبر دبلوماسييها بشكل سري، بل وتشجيعهم على استهداف معاقل الجيش الأمريكي بأفغانستان، وهو توجه دبلوماسي تتبعه الصين وروسيا المتوجستان الآن من خلق تمركز عسكري أمريكي على الأبواب في آسيا الوسطى ومن داعش على السواء، وإن لم يصل بهما الأمر بعد لتزويد طالبان بالسلاح وتشجيع قيامها بعمليات ضد الأمريكيين مثلما يفعل الإيرانيون حاليًا.
يستطرد روبين حديثه قائلًا، “لقد ذكرت تلك المسألة في اجتماع مع أحد الدبلوماسيين الإيرانيين رفيعي المستوى، لكنه أنكر تمامًا مؤكدًا أن إيران معارضة وبشدة لحركة طالبان، وحين قلت له أن الإيرانيين بالتأكيد لا ينظرون للأمور ببساطة بشكل يجعلهم ملتزمين بسياسة واحدة فقط في أي مرحلة، نظر إلى ضاحكًا ولم يحاول أن يرد مجددًا.”
*هذا المقال منقول من فورين بوليسي