احتدم النقاش بعد إعلان حركة النهضة التونسية تحولها إلى حزب مدني، وجاء هذا على لسان راشد الغنوشي الزعيم التاريخي للحركة، إذ قال للصحفيين “إن النهضة حركة تونسية تتطور مع تونس”، مضيفًا: “نتجه بشكل جدي، وتم تبني ذلك اليوم باتجاه حزب سياسي وطني مدني، ذي مرجعية إسلامية، ويعمل في إطار دستور البلاد، ويستوحي مبادئه من قيم الإسلام والحداثة”.
هي فرصة مناسبة لفتح النقاش، وبحث هذا الاتجاه، بوصف حركة النهضة من القوى الإسلامية التي أصبحت حاضرة بقوة ببلدها تونس إلى جانب اليسار، كما أن للإسلاميين واليساريين عمومًا وزنهم في الخريطة السياسية العربية والعالمية، تحسب لهم الأنظمة الاستكبارية ألف حساب، وترصد الميزانيات لدراسة حركتهم وسيرهم ومعرفة خباياهم وتفاصيلهم وعملهم المشترك إن وجد.
هل يطمح الغنوشي أن تكون حركته حزبًا سياسيًا بعد طول عناء ودماء وسجون، أي تنظيمًا سياسيًا محضًا له مطمح دنيوي، أم أنهم حركة إحيائية شاملة، همها الأول الدعوة والتربية وحمل الرحمة والمحبة والسلام للعالمين، وإنهاض الناس من رقاد الخمول والجبن والموات والتشتت والتشرذم، أي حركة تجعل من الجانب السياسي الضروري للتدافع المجتمعي جزءًا من المشروع؟ أم هو “إخراج” عصري لشكل الحركة، بحسب المتعارف عليه في بلد رضع العلمانية على أيدي بنيه زمانًا؟ حزب مدني تؤطره قيم إنسانية وأخلاقية كبرى في ممارسته وتميزه عن الأحزاب، مع تشابه الطموح العادي الموجود، يختلف الناس فقط في التفاصيل حين يصلون سدة التسيير والتدبير ويتمايزون بالممارسة والجدية والمسؤولية وما يخدمون به المواطن؟
كغيرهم، سيواجهون بالتخطيط على المدى المتوسط والبعيد إشكاليات العصر وديونه، يطلبون العلوم والفهوم، ويطوعون التقنية ويجعلونها وطنية تخدم البلد، يحررونه من التبعية، ويحسنون مؤشرات التعليم والصحة والسكن، يزوجون العزب، ويقضون على البطالة، ويرفعون مراتب الوطن في التنمية، ثم يحررون فلسطين.
فإذا اختزلت الحركة الإسلامية وجودها في هذا وطوت كل شيء، فما الفرق بينها وبين أي حزب أرضي خبزي محض؟ هذا ما توضحه الأيام والممارسة والنهضة حديثة عهد بالحرية، فلا نتسرع.
لا بأس أن نعود إلى كتابات بعض الإسلاميين والمنظرين تذكيرًا للبدايات، فنجد أن ما ينتظرهم، بحسب ما تركوه من طريق واضحة للعمل، أكبر وأعمق من هذا كله، كما كان يصرح كثير منهم ولازال، أي بناء الإنسان وتحريره الفردي من هواه وشياطينه.
يلخص الإسلاميون مهمتهم بأن ينقذوا الإنسانية من المادية الاستهلاكية التي تسحق المجتمعات وتجرّها إلى الابتذال واللامعنى، تسحبهم على بطنهم إلى الخواء والضياع والحيرة، تجرفهم بهوس الرقمية المتسارع إلى الأنانية والمصلحية والصراع الفارغ، لا يألون بالاً لغيرهم، فتتحول القيم تجارية، لمن يدفع أكثر ومن يملك أكبر.
نشدان الإسلاميين الأخوة العمرانية هي ما يميزهم، ويؤهلهم لأن يكونوا أصحاب رسالة “خالدة”، إلا أن دخولهم معترك السياسة امتحان صعب، قلما يجسر على الصبر فيه إلا الأشداء الأقوياء، يمينًا كانوا أم يسارًا، والنماذج أمامنا لا تحتاج سردًا، المطلوب منهم أن يكونوا يقظين لا يغريهم المنصب والمكسب، ولا تغيرهم الأحداث، وإلا فما بقي من الإسلام، ومن أيام الوثائق المؤسسة إلا الاسم والرسم.
بالوزن الأخلاقي والروحي السالب الغالب يعلون فوق المطبات والعقبات ويقتحمون، به يضبطون ممارستهم السياسية ألا تتردى وتسقط إلى السفساف والانحطاط ودرك المواقف والتنازلات المقيتة على رقعة الأحداث.
التحدي الحقيقي هو كيف تمسك الرؤية الصافية الأولى، قبل أن تلج مجال الحكم، وكيف تمسك زمام الأمور من دون أن تدفع بكل طاقاتها إلى الميدان، وأن تدير الوجود بمنطق مستقل، وإرادة واضحة لغاياتها النهائية، لإعادة المعنى إلى الإنسان وصياغة تربيته من جديد بعد مرحلة المسخ التي نعيش تحت وطأتها.
لا يذوب المشروع في الدولة فتنمحق كل البدايات والحماسات والتطلعات الجميلة النبيلة، فانعرجات السياسة ومقالبها وانعطافاتها، إن انعدم الأصل، تأتي إلى المعترك بعد قليل، فلا تكاد تجد إلا الخيال والمثال الماضي وأثرًا قد اندثر، لا قدر الله!