أنظر من نافذة الحافلة التي نستقلها أنا وصديقاي الوحيدان هنا في فيلنيوس، العاصمة الليتوانية في شمال شرق القارة الأوروبية، وأرى نهر النيريس الهادئ الذي يشبه حمامات السباحة الأولمبية وهي خالية من السباحين.
نهر هادئ دون أمواج تُذكر، يشعرك بسكونه أن مياهه راكدة منذ ألف عام وأنها حبيسة السدود من الناحيتين، إلا أنه وبالقراءة قليلًا عن جغرافيا تلك المنطقة تدرك أن هذا النهر يمتد لأكثر من خمسمائة كيلومتر جنوبًا من دولة روسيا البيضاء وحتى ليتوانيا في الشمال، أي أن قطرات المياه التي أمامي الآن قد قطعت أربعمائة كيلومتر، لكنها لا تظهر التعب، كيف لا والمياه دائمة عزيزة النفس؟
دائمًا أرى كل الأنهار باعتبارها “النيل”، حتى إنني كنت لفترة قريبة استخدم كلمة “نيل” بمعنى “النهر”، أي أن كل نهر نيل، فهناك نيل النيريس ونيل الأمازون ونيل دجلة ونيل الفرات وهكذا.
نهر النيريس
يكلمني مُحمد عن هذا النهر وكيف أن “النيل الليتواني” ليس كمثيله المصري، تعجبت من وصفه لكنني ضحكت وأخبرته بأن من الواضح أنني لست وحيدًا على هذا الكوكب، سألني مستغربًا: ماذا تعني؟ أجبت: دائمًا أرى كل الأنهار باعتبارها “النيل”، حتى إنني كنت لفترة قريبة استخدم كلمة “نيل” بمعنى “النهر”، أي أن كل نهر نيل، فهناك نيل النيريس ونيل الأمازون ونيل دجلة ونيل الفرات وهكذا، ضحك محمد وهو يؤكد أن المرض بالفعل منتشر!
…
في مادة التسويق، كانت الأستاذة تعرض لنا خططًا تسويقية لبعض المطاعم العالمية الشهيرة، أخذت تحدثنا عن اختلاف الرؤية التسويقية للأفرع المختلفة لنفس الشركة في بلاد مختلفة، ووصلت بحديثها إلى نقطة هامة وهي عشق الشعب الليتواني خاصة وشعوب الاتحاد السوفيتي السابق بشكل عام للحم الخنزير، وكيف أن هذه الشركة، وتماشيًا مع الذوق العام لأهل البلد، تستخدم لحم الخنزير في مأكولاتها ووجباتها الأساسية.
فتحت تلك النقطة نقاشًا حول الأطعمة المفضلة للشرائح المختلفة من المجتمع اعتمادًا على المرحلة العمرية، الجنس، الطقس، الثقافة وأخيرًا المعتقدات والديانات.
ولأن المادة بالأساس هي مادة تسويق في كلية سياحة وتراث، فإن الهدف الأساسي منها هو التسويق في القطاع السياحي، لهذا فوجود بعض الطلاب الأجانب ودراستهم لتلك المادة كان من حسن حظ الأستاذة التي كانت تستغل وجودنا كطلبة وسياح في نفس الوقت لتسألنا عن آرائنا نحو ما يتم طرحة لأنها كما تقول دائمًا “نظرتكم دائمًا ستكون مختلفة للمحتوى المقدم باعتباركم أجانب عن هذا البلد”.
بدأ النقاش عن الأطعمة المختلفة والتفضيلات المختلفة للبشر، وكيف أن هناك بعض البلدان تكون غير جذابة سياحيًا ويكون ذلك بسبب عوامل كثيرة منها نوعية الطعام المنتشر بها.
وكعادتها، نظرت الأستاذة إلينا أنا وزميلتي الهولندية، فلم يكن هناك طلاب أجانب يومها غيرنا، وبدورنا فهمنا أن السؤال القادم سيكون لنا، وقد كان، سألت زميلتي الهولندية عن الاختلافات التي تراها بين الطعام هنا وفي هولندا وماذا تفضل وما الذي لم يعجبها، وكانت الإجابات كلها نابعة من تفضيلات شخصية بالأساس تتعلق بالذوق الشخصي ولم يكن هنا أي سبب آخر.
الأسئلة نفسها وجهت لي، فبدأت الحديث بأنني أعاني كثيرًا بسبب الطعام في هذا البلد وأخبرتها “لقد فقدت الثقة في كل مطاعمكم”، فضحك كل من في الصف من الإجابة.
انتبهت الأستاذة أنني مسلم، لأنني واحد من أصل طالبين مسلمين فقط في الجامعة كلها، وشعرت في عينيها أنها وجدت كنزها الذي سيجعل محاضرتها أكثر حيوية فقالت: صحيح، أظن أنك بالفعل تواجه مشاكل كبيرة هنا خصوصًا فيما يتعلق بلحم الخنزير المحرم في دينك، هل جربت أكله من قبل؟ كانت إجابتي قاطعة: لا، فقالت فماذا تأكل إذًا، تحدثت عن تجربتي الأولى في أحد المطاعم وكيف أنني سألت عن نوعية اللحم المستخدمة هل هي من البقر أم من الخنزير فجاءتني الإجابة “لا أعرف”، واستغرب الرجل من سؤالي وقال لي عادة لا نُسأل هذا السؤال واللحوم التي تأتينا لصنع الهامبورجر تكون معلبة وجاهزة ولا نعرف نوعية أو نسب اللحوم المستخدمة داخلها.
قلت لأستاذتي إنني منذ ذلك اليوم لم أعد أثق في أي مطعم في تلك البلد الذي لا يتجاوز عدد مسلميه خمسة آلاف من أصل حوالي ثلاثة مليون نسمة، وحتى تلك الأقلية شبه المنعدمة تأكل لحم الخنزير أحيانًا، قالت الأستاذة إنها متفهمة كيف يعيش إنسان في بلد يأكل الخنازير ليل نهار وهو مسلم، إن الحياة تكون فعلًا صعبة.
كان ذلك النقاش بابًا للكثير من الأسئلة التي تعجبت من تلك الإجابة، كيف لا وهناك بعض الطلبة يقابلون أحد المسلمين للمرة الأولى في حياتهم، وجاء سؤال إحدى الطالبات الروسيات التي سألت إن كان هناك سبب آخر “غير ديني” متعلق بعدم تناولي للحم الخنزير أم لا؟ فأخبرتها أنني وبشكل شخصي لا أحب الخنزير كحيوان بسبب البيئة القذرة التي يعيش فيها وأنه يأكل أي شيء مما يجعل لحمه غير نظيف وصالح بشكل كامل للاستخدام الآدمي، فردت أخرى: لكن البقر أيضًا يمكن أن يُربى في أماكن غير نظيفة وأن هناك أنواع من لحم الخنزير غالية وتكون قادمة من بيئة نظيفة.
“إذًا فقد تربت في أكثر البيئات القذرة نظافة!” كانت تلك الكلمة التي سأقولها لكنني ابتسمت وأخبرتها أنه، ومع ذلك، يبقى لحم الخنزير أكثر ضررًا على الإنسان من غيره من الحيوانات العادية.
…
نشر موقع 9gag الشهير موضوعًا عن الأطفال الأذكياء الذين سيكون لهم شأن في الحياة، كان الموضوع عبارة عن مجموعة صور لبعض إجابات الأطفال على أسئلة معينة وكانت إجابات الأطفال ذكية بشكل لا يصدق وقد تحايلوا على الأسئلة وبعضهم أجاب من منظور مختلف تمامًا عن المطلوب من السؤال.
تجاوب الأطفال مع بعض الأسئلة ببعض الذكاء والعفوية وأحيانًا المكر، إلا أن الأكيد أن تلك الصور تحمل داخلها الكثير من الصفات الشخصية لهؤلاء الأطفال بالإضافة أنها عكست نظرة بعضهم للحياة.
في ذلك الموضوع جاءت صورة لإجابة، أغلب الظن أنها لطفلة، على سؤال ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟ قامت الطفلة بكتابة “عندما أكبر، أتمنى أن أكون مثل ماما” وقد رسمت مع إجابتها صورة تعبر عن فتاة في أحد ملاهي عروض خلع الملابس “strip club”.
…
القصص مختلفة ومثلها قصص أخرى لم تُحكى لكن العامل المشترك بينها كلها أنها تحمل انعكاسات أبطالها الشخصية والثقافية والتربوية على نظرتهم للواقع الذين يعيشون فيه والمواقف التي يمرون بها وكيفية تقييم أفعالهم وتصرفاتهم.
عندما كنا نتحدث أنا ومحمد عن “نيل النيريس” كان حديثنا نابع من الإطار الثقافي الذي نشأنا به، كنا، على الأقل نحن الاثنان، نتعامل مع نهر النيل أنه نيل وفقط حتى أصبحت كل الأنهار نيلًا واحدًا، كانت الصدمة الحقيقية في مادة اللغة الإنجليزية عندما تعلمنا أن “النيل” بالإنجليزية “Nile River”، كانت وقتها الخطوة الأولى للتفرقة بين الكلمتين، هناك نهر وهو المجرى المائي، وهناك النيل وهو اسم ذلك المجرى المائي في مصر، أي أن كل نيل نهر لكن ليس كل نهر نيل!
وزميلتي الروسية التي ترى في أن لحم الخنزير نظيف وأنه إن لم نأكله بدعوى أنه ليس نظيفًا فبالتالي لا يجب أن نأكل البقر لأننا أيضًا لا نعرف مصدر غذائه ولا البيئة التي تم تربيته فيها.
النيل الذي أصبح المقياس لكن أنهار العالم، الخنزير الذي أصبح نظيفًا، ومهنة الأم التي أصبحت حلم الطفلة، كلها معايير نتلقاها من البيئة والإطار الثقافي والمجتمعي الذي حولنا وستختلف تلك المعايير لو اختلفت النشأة والبيئة.
لم تتعارض كل المشاهد المصورة عن مزارع تربية الخنازير واتساخها مع ما تربت عليه زميلتي ولم يجعلها ذلك يومًا تفكر في الخنزير بشكل سلبي أو أن تفكر حتى في شم تلك الرائحة الكريهة للحمه التي أشعرتني يومًا بالغثيان والرغبة في القيء.
أما الطفلة، فقد كانت قدوتها في الحياة ومثلها الأعلى إحدى فتيات عروض خلع الملابس اللاتي يكسبن قوت يومهن بخلع ملابسهن بشكل مثير.
كانت الطفلة ترى في تلك المهنة الحلم والأمل، ليس فقط لأنها طفلة ولا تدرك بشكل كاف، لكن أيضًا بسبب المنظومة التي اتكسبت منها ثقافتها وأعطتها المعايير التي تحكم بها على الأمور، فربما تكبر الطفلة وتظل تلك المهنة شغلها الشاغل بدون الإحساس بأي شعور سيء عن نفسها أو عدم الفخر بمهنتها.
مثلها مثل العائلات التي رأيتها في أحد الحمامات في الملاهي المائية وقد كان كل الرجال كما ولدتهم أمهاتهم متجردين من أي ملابس، فهل من رأى والده، قدوته ومثله الأعلى، هكذا في حمام عام سيشعر عند الكبر بأي حرج في تكرار نفس الفعل؟
النيل الذي أصبح المقياس لكن أنهار العالم، الخنزير الذي أصبح نظيفًا، ومهنة الأم التي أصبحت حلم الطفلة، كلها معايير نتلقاها من البيئة والإطار الثقافي والمجتمعي الذي حولنا وستختلف تلك المعايير لو اختلفت النشأة والبيئة.
فلو استيقظ يومًا ووجدت نفسك في جسد مختلف وروح مختلفة لإنسان في أقاصي الأرض مع افتراض أنك على وعي بأنهم ليسوا لك، تأكد أن أحكامك ومعاييرك ستختلف، يمكن أن تقبل طعامًا أو عادة أو ملبسًا لا تقبله شخصيتك الأساسية، أحكامك على المواقف بالتأكيد ستكون مختلفة، معاني الكلمات الأساسية في قاموسك اللغوي أيًا كانت لغتك ستختلف، فالحب والكره والزواج والموت والحرب والبغاء والمال وكل تلك الأشياء وأكثر ستختلف نظرتك لها، وستبقى دائمًا تجيب إجابات جاهزة لأسئلة معروفة، فالأسئلة كلها من ثقافتك والإجابات كلها نابعة من معايير تلك الثقافة.
إن تفضيلاتك في الحياة واختياراتك البسيطة أو أحكامك على ما حولك ما هي إلا نتاج نشأتك وبيئتك، فما تراه أبعد ما يكون عنك اليوم قد تقبله في المستقبل، وما تمارسه في حياتك اليومية هذه الأيام يمكن أن تراه سخفًا أو تندم عليه أو حتى تندم على عدم فعله بالقدر الكافي بعد ذلك. لا تبالغ في الحكم ولا تقيّم العالم من زاوية واحدة، فالعالم والبشر أعمق بكثير من بيتك وتربيتك ومدينتك أو حتى دولتك التي تنتمي إليها.