تعتبر السياسات المالية والنقدية من أهم أدوات السياسة الاقتصادية وذلك لدورها في ضبط أوضاع المالية العامة والمحافظة على الاستقرار النقدي وتحقيق معدلات مُرضية من النمو الاقتصادي.
المراقب للوضع الاقتصادي في ليبيا سيلاحظ فشلاً واضحًا في السياسة المالية وعجزًا كبيرًا في السياسة النقدية في حلحلة الأزمات التي تعصف بالاقتصاد الليبي، كما سيتضح له عدم وجود تنسيق بين السياستين وتبعية السياسة النقدية للسياسة المالية.
فشل السياسة المالية
بعد ثورة فبراير واعتمادًا على تقديرات أسعار النفط المرتفعة في أعوام 2011، 2012، 2013، ونتيجة لارتفاع سقف الطموحات الشعبية بعد الثورة بسبب شيوع مفهوم خاطئ يشير إلى أن الاقتصاد الليبي اقتصاد غني، طرأت زيادة هائلة على جانب الإنفاق العام في الميزانية العامة وشهد العام 2013 أضخم ميزانية حكومية في تاريخ ليبيا في عهد رئيس الحكومة علي زيدان.
الزيادة في النفقات العامة لم تكن في باب التنمية، فهذا ما كان يفترض أن يكون، ذهبت معظم النفقات في هيئة مرتبات للعاملين في القطاع الحكومي التي فاقت مبلغ 22 مليار دينار، وباب الدعم للسلع والمحروقات التي وصلت إلى 11.6 مليار دينار! وعلى الرغم من الزيادة الهائلة في حجم النفقات إلا أن قطاعات رئيسية مثل قطاعات الإسكان والكهرباء والمياه والنقل والمواصلات والاتصالات لم تشهد أي تطور ملحوظ بل زادت ترديًا وتدهورًا، هذا من جانب النفقات العامة، أما من جانب الإيرادات فإن 93% من الإيرادات العامة لتمويل الميزانية هي إيرادات نفطية.
منذ منتصف العام 2013 أصيبت الإيرادات النفطية بانتكاسة كبيرة بسبب إغلاق موانئ وحقول النفط، حيث انخفضت الصادرات النفطية إلى أقل من 400 ألف برميل يوميًا في وقت كانت ليبيا تُصدّر (1.700000) مليون وسبعمائة ألف برميل يوميًا سنة 2010، إضافة إلى تهاوي أسعار النفط العالمية منذ يونيو 2014، والنتيجة عجز مالي كبير في الميزانية تم تمويله بالاقتراض من مصرف ليبيا المركزي.
الإيرادات غير النفطية (الضرائب والرسوم الجمركية ورسوم الخدمات والاتصالات وغيرها ) شهدت هي الأخرى انخفاضًا غير مسبوق في تاريخها وخصوصًا الإيرادات الجمركية التي كانت من أهم الموارد المالية غير النفطية للاقتصاد الوطني في العهد السابق.
على سبيل المثال وصلت الإيرادات غير النفطية في العام 2008م حوالى (8324.2 د.ل) أي ثماني مليارات وثلاثمائة وأربع وعشرون مليون ومئتي ألف دينار ليبي، مع العلم أن باب المرتبات في تلك السنة لم يتجاوز 8 مليارات دينار.
بينما وصلت الإيرادات غير النفطية في العام 2015م حوالي (1.2) مليار ومئتي مليون دينار في وقت وصلت فيه فاتورة المرتبات لنفس العام أكثر من (16.4) ستة عشر مليار وأربعمائة مليون دينار!
السياسة المالية في ليبيا لا تتحمل مسؤولية تدني الإيرادات النفطية في الميزانية العامة ولكنها تتحمل مسؤولية الفشل المزدوج في تدني الإيرادات (غير النفطية) من جهة، وعدم ترشيد النفقات العامة من جهة أخرى، وبالتالي تتحمل جزءًا من المسؤولية عن العجز المالي في الميزانية.
استشراء الفساد في القطاع العام وانتشار ظاهرة التهرب الضريبي وتقاعس الجهات العامة عن دفع المستحقات، إضافة إلى المبالغة في الإنفاق التسييري وتقديرات خاطئة عن أسعار النفط، كانت من أهم العوامل التي أدت إلى الفشل في السياسة المالية.
عجز السياسة النقدية
لا يُذكر للسياسة النقدية بأدواتها المتعددة دور فعّال في الحياة الاقتصادية في ليبيا طيلة عقود العهد السابق وخصوصا (الفوائد المصرفية)، ويمكننا إرجاع أسباب ضعف ومحدودية دور السياسة النقدية وعدم فعاليتها سواء في فترة النظام السابق أو في الفترة الحالية إلى عديد من العوامل التي كبّلت دور القطاع المصرفي من أداء الدور المناط به لحلحة الأزمة الحالية وهي:
1- سيطرة القطاع العام على النشاط الاقتصادي واقتصار السياسة الاقتصادية في ليبيا على استخدام السياسة التجارية الكمية وسياسة الرقابة المشددة على الصرف الأجنبي.
2- ضعف المرتبات (الدخل الأساسي) لأغلب العاملين في ليبيا ووقوعه تحت طائلة القانون رقم 15 لسنة 1981 ولفترة تجاوزت العقدين ونصف جعل الفائض عن الاستهلاك والمفترض ذهابه إلى الإدخار محدود جدًا وفي كثير من الأحيان يساوي صفر أو بالسالب (إدخار سالب).
3- نظرة المجتمع الليبي المسلم إلى الفوائد المصرفية على أنها من الربا المحرم شرعًا، وبالتالي ضعف دورها في التاثير على عرض وطلب النقود لدى الجمهور ومعدلات الإدخار والاستثمار ومن ثم النمو الاقتصادي.
4- غياب الوعي الإدخاري في المجتمع وتفضيل الجمهور التعامل النقدي (الكاش) في المعاملات الاقتصادية اليومية وإبرام الصفقات نقدًا عوضًا عن التعامل بالصكوك والبطاقات المصرفية والخدمات الإلكترونية المصرفية.
5- صغر حجم القطاع الخاص الليبي واسئثار القطاع العام بالنصيب الأكبر في الاستثمار المحلي ووجود أنشطة اقتصادية (كالنشاط التجاري مثلاً) لها عائد مرتفع ومخاطرة أقل من إيداع الأموال بحسابات الإدخار والودائع لأجل خصوصًا في مثل هذه الظروف.
6- المخاوف الأمنية وصعوبة استرداد العميل لأمواله بعد تحديد سقف معين للسحب من قبل المصارف التجارية؛ ساهم في عزوف كثير من العملاء من إيداع أموالهم بالمصارف التجارية وتفضيل اكتنازها في البيوت.
7- تخلف البنية التحتية للقطاع المصرفي في ليبيا وانقطاع الكهرباء بشكل متكرر وبطء خدمة الإنترنت ورداءة الاتصالات؛ جعلت من عمليات تحديث الخدمات المصرفية ومحاولة إيجاد حلول مبتكرة ومستوردة من بيئات اقتصادية ومصرفية متطورة للتغلب على مشكلة نقص السيولة النقدية أمرًا في غاية الصعوبة.
اجتماع العوامل السابقة إضافة إلى تردي الوضع الأمني وتفشي الفساد جعلت السياسة النقدية في ليبيا عاجزة اليوم عن حل المشاكل والأزمات المالية التي تعصف بالاقتصاد الوطني واقتصر دور المصرف المركزي في إدارة الأزمة حتى الآن على منح الاعتمادات المستندية ودور المراقب على الصرف الأجنبي إضافة إلى الإقناع الأدبي.
انقسام المصرف المركزي إلى شطرين وعملية طبع أربعة مليارات دينار من العملة المحلية التي صدرت من مصرف ليبيا المركزي بالبيضاء للتغلب على مشكلة نقص السيولة بالمصارف التجارية مع وجود 24 مليار دينار خارج القطاع المصرفي واستمرار الوضع الأمني غير المضمون وضبابية الوضع السياسي والحروب الدائرة في بعض المناطق وحوادث الاعتداء على موظفي المصارف، إضافة إلى العوامل التي ذكرناها آنفًا، يجعل من إمكانية هروب العملة خارج القطاع المصرفي مرة أخرى واردًا وبقوة مهما كانت أسعار الفائدة التي ستمنح على الأوراق التجارية والمالية مرتفعة، وبالتالي المزيد من معدل التضخم وتدهور قيمة الدينار الليبي وزيادة حجم السوق الموازي.
ما الحل؟!
هناك طريق مؤلم ولا يخلو من المجازفة والمخاطرة العالية للتخفيف من آثار الأزمة ويكون عبر استخدام سياسة مالية انكماشية حادة تستهدف التقليل من العجز في الميزانية العامة بخفض الإنفاق العام وتشريع ضرائب تستقطع قيمتها من المنبع للحيلولة دون التهرب الضريبي، هذه السياسة ستتسبب في مزيد من معاناة المواطن وخصوصًا محدودي الدخل وسينتج عنها سخط شعبي كبير.
بالنسبة للسياسة النقدية قد يلجأ المصرف المركزي مضطرًا إذا طالت الأزمة إلى خفض قيمة الدينار الليبي أو تعويمه كحل أخير لامتصاص السيولة النقدية التي تسربت خارج الجهاز المصرفي وللحد من السوق الموازي.
خطورة هذا الإجراء أنه قد يستنزف ما تبقى من الاحتياطي لدى المصرف المركزي ونرجع للمشكلة من جديد وبتداعيات أكبر.
وعليه فإن الحل المضمون والسريع في مثل هذه الظروف لانتشال الاقتصاد الوطني من أزمته يكون عن طريق فك الحصار عن الموانئ والحقول النفطية واسئناف عمليات الإنتاج والتصدير، فالنفط هو شريان الحياة الاقتصادية في ليبيا، إن توقف سيُصاب الاقتصاد الوطني بالشلل التام وقد يحدث الانهيار في أي لحظة – لا قدر الله -.
المصدر: ليبيا الخبر