تحويل النفايات إلى طاقة ليس اختراعًا حديثًا كما يتخيّل البعض، بل على العكس تمامًا فعمره أكثر من 200 عام، بل وربما 800 عام وأكثر، والفكرة ليست معقدة جدًا فيكفينا أن نفهم معنى “الهضم اللاهوائي” كي نفهم الموضوع بشكل أساسي، ونبدأ بإنتاج الطاقة من بقايا الطعام والمواد العضوية عمومًا، والأكيد أن العلم لا زال يتقدم في هذا المجال، ولعل من أبدع ما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال، أن العلماء باتوا يفكرون بتصميم مصانع لإنتاج الطاقة من النفايات العضوية تعمل بطريقة مميزة مستوحاة من “أمعاء البقر” كما سنقرأ في السطور التالية.
إنتاج البيوغاز: تقنية عمرها أكثر من 200 عام!
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الاستفادة من المخلفات العضوية تعود إلى فترة قديمة جدًا، فقد أشار الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو أنه شاهد الناس في الصين تجمع مخلفاتها وتغطيها في حاويات وتنتج منها “الطاقة” وكان ذلك قبل حوالي 800 عام.
وفي أوروبا بدأت دراسة فكرة الغاز الحيوي قبل حوالي 240 عامًا، في عام 1770 تحديدًا وذلك على يد عالم إيطالي يدعى Allesandro Volta بعد قيامه بمجموعة محاولات لاستغلال ما يسمى بـ “غاز المستنقعات” في عمليات الاحتراق، بعده بحوالي 100 عام قام العالم الفرنسي الشهير لويس باستور Louis Pasteur بمحاولة إنتاج الغاز من روث الخيل في باريس، ولعل هذه التجربة لم تشتهر كثيرًا بيد أن عملية “البسترة” اشتهرت أكثر، وقد أخذت من اسمه “باستور”.
في عام 1906 بدأت محاولات إنتاج الغاز من مخلفات مياه المجاري، ولكن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية شهدت تطوّرات كثيرة مهمة في مجال معالجة مياه المجاري وهو الأمر الذي ساهم في بحث إنتاج الغاز من المخلفات العضوية أكثر، ومع نشوب أزمة النفط في السبعينات حظي البيوجاز باهتمام لم يكن قد حظي به من قبل، وعرفت تلك السنوات بـ “Biogasboom” حيث وصل عدد منشآت إنتاج البيوغاز من المخلفات العضوية إلى حوالي 75 في ألمانيا وحدها، ليقفز العدد إلى 8000 في عام 2014!
كيف ينتج الغاز؟
فكرة إنتاج الغاز من المخلفات العضوية ليست معقدة جدًا، فيكفي للمهتم أن يتعلّم بعض المصطلحات الأساسية كي يفهم كيف يتحوّل الطعام إلى غاز للطبخ مثلًا.
هذه الفكرة تسمى علميًا بـ Anaerobic digestion الهضم اللاهوائي، ومنها نفهم أن هناك عمليّة هضم لا بد أن تحصل، ولكن من الذي سيهضم؟ الهضم سيكون من خلال “مخلوقات” صغيرة جدًا تسمى الكائنات الحية الدقيقة أو البكتيريا بأصنافها المختلفة، فعمليّة الهضم هذه تشترك فيها ملايين الكائنات من مختلف الأصناف، وللفهم الأولي فقط، فإن الأمر أشبه بمصنع، فيه سلسلة من العمليات، فهناك بكتريا مسؤولة عن تقطيع المواد وتصغيرها ثم هناك بكتيريا مسؤولة عن تحليلها إلى مركبات أصغر وهناك من تحللها أكثر حتى تأتي بكتيريا من نوع خاص قادرة على إنتاج الغاز من المركبات العضوية وتسمى “بكتيريا الميثان”.
ولأن البكتيريا هي كائن حي أولًا وأخيرًا، فإن لها ظروفها الخاصة التي تعيش فيها “بسعادة” وتنتج فيها الغاز أكثر من أي بيئة اخرى، تمامًا كالإنسان، فلو أتينا بشخص من الصحراء ليعيش في إسكندنافيا فمن المحتمل جدًا أنه لن يتكيف وربما يلقى حتفه سريعًا.
شاهد الفيديو هنا
هذه الكائنات الحية لا تستطيع الحياة حيث يوجد الأكسجين، تمامًا على العكس من البشر، بل إنها “تختنق” إذا وجدت الأكسجين ولذلك نقول “هضم لاهوائي”، أي انها تهضم بلا هواء، ولهذا نجدها تعيش في الماء ولا بد للماء أن يتوفّر بقدّر ما، غالبًا 50%، أما الـ 50% الأخرى فهي عبارة عن “بقايا الطعام” التي كنا سنلقيها في القمامة.
“بقايا الطعام” هذه يطلق عليها علماء البيئة والكيمياء اسم “مخلفات عضوية”، وهو مجرد اسم، ولكنه كذلك يقود إلى فهم الفكرة بشكل أعمق، لهذا من الأفضل أن نستخدم “مخلفات عضوية” بدل “بقايا طعام” لأن هذا سيجعلنا ندرك أن إنتاج الطاقة لا يكون من “بقايا الطعام” فقط، بل حتى من “البراز” وكذلك من “المستنقعات” و”مخلفات الحيوانات” وأي شيء “عضوي”.
كلمة “عضوي” هي كلمة أساسية لكل كيميائي، فهي تعني أن المادة التي أمامه غالبًا ما تحتوي على الكربون، وفي كثير من الأحيان تحتوي على الهيدروجين، وهي التي نعرفها باسم “الهيدروكربونات” أو حتى “المحروقات”، وبالتالي فإن “اجتماع” الكربون مع 4 ذرات هيدروجين يعطينا مركبًا كيميائيًا جديدًا وقابلاً للاحتراق يعرف بـ “الميثان”، ويمكن أن يستخدم كغاز للطهي ويمكن أن يستخدم في إنتاج الكهرباء من خلال مولّدات الكهرباء.
الأكيد أن هذا ليس كل شيء، فهناك دراسات علمية كثيرة جدًا تبحث في كيفية الاستفادة من “بقايا الطعام” مثلًا بأقصى حد ممكن، لإنتاج أكبر كميّة من الغاز، هذه الدراسات تبحث مثلًا تركيبة المواد وتبحث الظروف التي ترتاح لها البكتيريا كالحرارة والحموضة ولهذا فإن هناك مساقات جامعيّة خاصة تشرح هذه العملية بشكل أعمق، فمثلًا هناك أنواع بكتيريا كثيرة لا تستطيع هضم “السيليلوز”، فما العمل؟
أحد أبرز الأبحاث والمشاريع الألمانية لتطوير إنتاج البيوغاز كانت في جامعة هنوفر وسط ألمانيا، حيث قام فريق من المهندسين وعلماء في الطب البيطري بتطوير هاضم حيوي مستوحى من الجهاز الهضمي للبقر ويتميّز هذا الهاضم بقدرته على تحليل مواد معقدة مثل السيلولوز والتي لا تتحلل في محطات المعالجة التقليدية تمامًا كما لا يتم هضم السيلولوز عند البشر، بينما يتم عند البقر والحيوانات المجترة بفضل مجموعة من الكائنات الحية الدقيقة التي تتحلى بقدرة مميزة على تحليل السيلولوز الذي يعتبر أساسًا من أبرز وأكثر المركبات العضوية انتشارًا في العالم والذي لم يكن مستغلًا بالشكل المطلوب في إنتاج الغاز الحيوي حتى الآن.
اطلع على البحث كاملًا هنا
حتى في مصانع الغاز الحيوي التقليدية فإن الكائنات الحية الدقيقة المتواجدة في الهاضم الحيوي ليست قادرة على تحليل مواد معقدة مثل السيليلوز، ولذلك يرى العلماء ضرورة توفير بيئة صالحة لكائنات حية دقيقة كالتي تعيش في “كروش البقر” بل واستجلاب هذه البكتيريا ذات القدرات الخاصة وتوطينها في داخل الهاضم الحيوي، وهذا يعتبر جزءًا من الحل بيد أنه ليس كل الحل فالمتأمل للجهاز الهضمي عند البقر مثلًا يجد أنها لا تحوي معدة واحدة ولكنها أربعة أمعاء ولهذا قام العلماء بفصل الهاضمين إلى مرحلتين، مرحلة تسمى “الكرش” وفيها يتم تحليل المواد الحاوية إلى سيليلوز ومرحلة أخرى تعيش فيها كائنات دقيقة منتجة لغاز الميثان، كما تم تصميم جدار للهاضم مشابهة لجدار كروش البقر وظيفته الحافظ في بيئة مثالية للبكتريا هناك.
هل البيوغاز هو الحل؟
الحقيقة أن هناك انتقادات كثيرة حول إنتاج البيوغاز، فالكثير من أصحاب منشآت إنتاج البيوغاز باتوا يعتمدون على “الذرة” في إنتاج الطاقة، لماذا الذرة؟ ببساطة لأن كميّة الغاز التي يمكن إنتاجها من الذرة هي الأكبر، فمن كل طن ذرة يمكن إنتاج 202 مترمكعب من البيوغاز مقارنة بـ 100 متر مكعب من الغاز يمكن إنتاجها من معالجة طن من النفايات العضوية المنزلية (بقايا الطعام) أو 45 مترًا مكعبًا فقط إذا ما عالجنا روث البقر، وهنا كل المشكلة، حيث إن إنتاج البيوغاز من “النفايات” هو أمر مقبول جدًا غالبًا، ولكن إنتاج البيوغاز من “الذرة” التي كان يفترض أن تكون غذاءً للبشر وباتت تزرع وتقطف لتصبح مصدرًا آخر من مصادر الطاقة فهو أمر غير مقبول على أكثر جمعيات أصدقاء البيئة حول العالم، فالأصل في الذرة وغيرها من الأطعمة أن تساهم في تغذية البشر ومكافحة الفقر.
وهنا نعود إلى البحث الذي أجراه العلماء في جامعة هانوفر حول تطوير مصنع غاز حيوي مستوحى من البقر في أن المصنع لن يكون بحاجة إلى كل تلك المساحات الشاسعة من الأراضي المزروعة بالذرة وغيرها من “نباتات الطاقة”، بل يمكن الاستفادة من مواد كتلك التي تتغدى عليها البقر كالتبن مثلًا ولكن الأهم والأبرز هنا هو إمكانية الاستفادة من الورق المستخدم والكرتون، وهذا من شانه أن يفتح آفاقًا جديدة في هذا المجال.