مجتمع تطوير المبادرات المجتمعية .. “متمم”
بدون الخوض في تفاصيل التطور التاريخي للمفاهيم وحركة الحياة على مدى الأزمان، يبدو لي أن جهد غالبية الساعين للتحرر من الظلم كان يتوجه نحو السيطرة على السلطة في الدولة بما أنها الأداة الأقوى في الفعل والتأثير في المجتمعات الإنسانية والتي غالبًا ما كان يسيطر عليها طبقة من النخب التي كانت تمتلك حزمة من الأدوات التي تجعلهم قادرين على إيهام الناس حيازتهم شيئًا اسمه “السلطة” وتضمن خضوعهم طوعًا أو كرهًا.
ونتيجة لذلك كانت تنشأ صراعات شرسة وطويلة ومكلفة ومؤلمة، فإذا انتصرت النخب القديمة انتقمت وزاد الظلم بانتظار دورة تاريخية جديدة، وإن انتصر الساعون الجدد فسرعان ما انضموا إلى نادي النخب وأقصوا آخرين وسعوا للاستئثار بكل شيء تصله أيديهم، وهكذا تبدأ دورة صراعات جديدة.
تكاد تكون هذه خلاصة ما يقرأ عادة في كتب التاريخ عن المنطقة العربية، تاريخ الدول والصراعات، لكن حتى لو صحت هذه الأخبار فهي لا تخبر بالحقيقة كاملة، فهي تستبطن هذه النزعة التي تحدثنا عنها وتتجاهل طيفًا واسعًا من الحراك الإنساني الفردي والجماعي الذي أثر بأشكال كثيرة في حركة الحياة.
قبل عصر الدولة القومية الحديثة كانت هناك مساحات كثيرة في الحياة تكاد لا تصلها الدولة أو لا تتدخل فيها بشكل كبير، في هذه المساحات كان الناس أفراد وجماعات يتحركون ويديرون شؤونهم، كان ذلك نوعًا من التوازن بين المجتمع والدولة وعامل استقرار لبعض شؤون الحياة ومساحة لحيوية قطاع كبير من الناس بعيدًا عن صراعات السلطة، لكن مع التغييرات الكبيرة في بنية المجتمعات وطبيعة الدولة والتقنيات المتاحة ضاقت تلك المساحات بقدر ما سكت أو خضع الناس لتمدد الدولة فيها، حتى بدت الدولة الحديثة قوة لا تقهر، ومن أراد تحصيل حق أو رد ظلم عنه فعليه إما أن يذعن لما تفرضه الدولة عليه أو أن ينضم لطبقة النخب المسيطرة شبه المقفلة أو أن يصطدم معها محاولاً السيطرة عليها.
هذه الثقافة هي ابنة قيم العالمين الأول والثاني، ولم تبلغ حتى الآن قيم العالم الثالث من النفاذ والرسوخ لتقدم حلاً أقل سوءًا يساعد على توسيع طبقات النخب ويزيد المساحات المتروكة للمجتمع كما في تجارب أخرى في العالم.
في رأيي، عندما يكون الهدف هو تحرر الإنسان – فرد وجماعات – من الخضوع وطاعة كل من لا يستحق الطاعة، ليتعارف مع الآخرين ويشاركهم في عمران الحياة، سواء إذا كان ذلك فهمًا لحقيقة توحيد الله وعبادته من النصوص الدينية أو من التأمل الفطري الروحاني الأخلاقي، فإن الطريق إلى ذلك لا يبدأ بالسعي للسلطة ولا ينتهي عندها.
في رأيي، إن خيار الاتجاه والسعي لبناء المجتمع المتوازن القوي هو الأكثر اتساقًا مع مفهوم الإيمان بالله وتوحيده، وهو الأكثر اتساقًا وضمانًا لتحقق قيم العافية والعدل والحرية والرحمة لغالبية الناس.
كما ذكرت سابقًا في ملاحظتي بعد التجول في عدد من المجتمعات العربية التي حدث فيها حراك كبير، فعلى الرغم من حالة الإحباط التي يبدو أنها سائدة وعلى الرغم من التعدي المستمر للدولة على مساحات حركة الناس، فإن المجتمعات العربية تزخر بعدد كبير من المبادرات الصغيرة التي تحاول التفاعل والاشتباك وإيجاد حلول لكثير من القضايا الأساسية والمهمة.
لكن حتى الآن فإن هذه المبادرات ليس لها وزن في معادلات القوى ولم تستطع تحقيق إنجازات صلبة لعدة أسباب، منها أن الكثير من هذه المبادرات الصغيرة منعزلة طبقيًا وجغرافيًا وغير واعية بوجود مثيلاتها أو غير متواصلة معهم، وكثير من هذه المبادرات ضيقة الأفق أو ضعيفة معرفيًا أو تتبع أساليب غير فعالة.
والأهم من ذلك – في رأيي – أن هناك مساحات كبيرة وكثيرة للفعل والتأثير على القضايا الوجودية والأساسية والبنى التحتية اللازمة لنجاح أي حراك مازالت متروكة بدون أن يشغلها أحد أو أن يشغلها العدد الكافي، في الوقت الذي يجلس القطاع الأكبر من الناس في مجتمعاتنا في حالة سلبية مفوضين أمورهم لغيرهم ينتظرون الحلول من الدولة ونخبها أو الدول العظمى أو حتى من أناس آخرين في المجتمع استعادوا زمام المبادرة وتحركوا بما يعتقدون أنه الحق أو بما يرونه في صالحهم.
عندما يكون المشهد الحقيقي على الأرض كما تم وصفه في الأعلى، ففي رأيي ينبغي أن تكون الأولوية لتجاوز هذه الحالة هي إطلاق عدد من المشاريع والمبادرات لتكوين منصات تشبيك تساعد على بناء أنسجة/ تشكيلات مجتمعية جديدة مبنية على المبادرات الموجودة فعلاً وتطويرها وعمل التكامل فيما بينها وبناء رؤى مشتركة للحراك وحل المشاكل، وسيكون من المهام الرئيسية لمنصات التشبيك أيضًا تحفيز القطاعات المنتظرة من الناس لاستعادة زمام المبادرة ولتقديم المشورة لهم وإطلاعهم على تجارب المكافحين في بقية أنحاء العالم وتسهيل التواصل معهم لتبادل الخبرات وتنسيق الجهود في القضايا ذات البعد الإنساني العالمي.
الساعون لإطلاق هذه المبادرات والمشاريع هم ما يمكن أن نطلق عليهم لقب (مجتمع تطوير المبادرات المجتمعية “متمم”).
سيكون على “متمم” التعامل مع العوالم القيمية الثلاث السائدة في المجتمعات العربية بما يدفع ويساعد الناس ليعيش كل منهم عالمه القيمي بشكل صحي وبما يدفعه للوصول لحالة الانفتاح اللازمة للتعامل مع الأطياف الأخرى المكونة للمجتمع وللتغيير إلى قيم أفضل.
يصح في هذا المقام التساؤل عن معنى بعض المفاهيم التي تم ذكرها سابقًا، فما معنى مفهوم بناء أنسجة مجتمعية جديدة؟ وما معنى وأشكال مفهوم منصات التشبيك؟ وما هي الرؤى المشتركة التي يجب السعي لبنائها لتضمن التكامل بين المبادرات وهي تتحرك بشكل لا مركزي؟
رؤى مشتركة؟! منصات تشبيك؟! أنسجة مجتمعية؟!
تبدو للوهلة الأولى فكرة الرؤى المشتركة متعارضة مع فكرة اختلاف نظم القيم وطريقة التفكير وأساليب الحياة، وقد تبدو أيضًا أنها فكرة طوباوية ولا يمكن الوصول لها عمليًا، أو حتى قد تبدو فكرة شمولية استبدادية، وهو ما أظن أنه صحيح إذا كان القصد هو محاولة توليف أيديولوجيا توافقية مهجنة، في رأيي، إن محاولة فعل ذلك هو مضيعة للجهد والوقت بل وحتى غير ممكن.
إن افتراض شخص أو مجموعة ما حقهم وقدرتهم على فرض تشكيل أفكار وسلوك الآخرين بدعوى مصلحتهم أو حتى المصلحة العامة هو أمر أقل ما يقال فيه إنه غرور ويعطل انبعاث طاقات الناس واستخدام ذكائهم الجمعي لبناء مجتمع قوي وقد حد يصل الطغيان والتألي على الله.
إن بناء رؤى مشتركة للعمل المجتمعي الجماعي اللامركزي هي مرحلة متقدمة عن الحالة الراهنة في المجتمعات العربية وتحتاج إلى الكثير من التحضير، وفي رأيي، يمكن أن تكون البداية بعمل منصات التشبيك التي تمكن الأفراد والمجموعات والمنظمات من التعارف والحوار وبناء الثقة وتبادل الخبرات، عندها ستبدأ أنسجة/ تشكيلات مجتمعية مختلفة تقوم بأدوار متعددة في الظهور والتكون، تبدأ هذه الأنسجة/ التشكيلات بالمساندة والدعم وتمر بالوعي والمعرفة وصولاً إلى حالة الفعل المباشر متعدد التخصصات والطبقات والمساحات الذي يحتاج لرؤى مشتركة ليجد كل فرد ومجموعة مكانًا في الفعل دون أن ينتظر أمرًا مباشرًا من أحد، وليكون فعله متناسقًا ومكملاً لأفعال الآخرين، وصولاً إلى تلك الحالة التي تنضج فيها التجارب وتصل لمستويات أرقى من العمل الجماعي المتناغم والذي في نفس الوقت لا يعطل ولا يصادر مبادرات الآخرين.
نكمل الحديث في المقال القادم.