نشرت الجارديان البريطانية تقريرًا عن دراسة أجريت مؤخرًا في المملكة المتحدة عن معدلات التدين، أشارت الدراسة إلى أن فئة “بلا دين” أصبحت الفئة الأكبر في بريطانيا بلا منازع حقيقي، أكثر من نصف عدد السكان البالغين يعرف نفسه على أنه بلا دين، أي تعداد أكبر من ضعف السكان من البروتستانت وأربع أضعاف الكاثوليك.
تدعو هذه الأرقام إلى التساؤل، خصوصًا مع النظر إلى تاريخ بريطانيا الاجتماعي والسياسي الذي طالما كان الدين أحد محركاته الرئيسية، حتى اليوم تبقى الملكة إليزابيث رأسًا لكنيسة إنجلترا، يعود هذا التقليد إلى القرن السادس عشر مع انفصال كنيسة إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية وتحولها إلى البروتستانتية تحت إشراف الملك هنري الثامن لتبرير زيجاته الست بحثًا عن ولي عهد ذكر.
كما كان الإيمان البروتستانتي أحد أهم دوافع القرارات السياسية البريطانية في أحداث بحجم الحرب مع فرنسا والمجاعة الأيرلندية الشهيرة، حيث تسبب احتكار الأقلية البروتستانتية في أيرلندا للأراضي واستخدامها في إنتاج الصوف والفحم إلى قتل أكثر من مليون مواطن أيرلندي كاثوليكي.
اليوم، يبدو أن بريطانيا وسكانها لم يعودوا يلقون بالًا بالدين، ربما باستثناء الإسلام الذي ما زال الكثير من سكان المملكة ينظرون إليه كتهديد للهوية المحلية وتقاليد الحضارة الغربية، بغض النظر عن الحرب على “التطرف” التي تكون من نصيب المسلمين من سكان البلد وخارجها، يمكن القول أننا لا نرى أي حروب أو نزاعات أو تفرقة دينية في بريطانيا وأوروبا بشكل عام، وتشير الدراسة المذكورة إلى أن هجران البريطانيين للدين قد يكون السبب وراء ذلك.
بدأت أوروبا في التخلي عن الدين بالتدريج مع نهاية القرن السابع عشر، بدأ الاقتصاد الأوروبي في النمو عبر النشاط الاستعماري في تلك الفترة، ومع اكتشاف الأوروبيين لأركان العالم وعلومه بدأت الحاجة إلى الدين في تفسير العالم وظواهره في التراجع، بالتدريج بدأ العلم في تلبية تلك الحاجة بشكل لا يعتمد على كنيسة تسيطر على قدر كبير من الثورة، مع بداية القرن الثامن عشر نرى نيوتن محاولًا تفسير كيف يعمل العالم بدون الحاجة إلى إله يحركه، ومع وسط ذات القرن نرى الثورة الصناعية التي اعتمدت على ما اكتشفته الثورة العلمية من قبلها في تشكيل السيادة الغربية على العالم، والتي نعرفها ونعيشها حتى اليوم.
الرب صانع ساعات
بالعودة إلى ما سبق، يمكن الزعم أن السير البريطاني إسحاق نيوتن هو الأب الروحي لمسيرة الغرب للتخلي عن الدين، وضع (أو اكتشف) نيوتن مجموعة من القوانين العامة للفيزياء، القوانين التي تحكم حركة العالم بشكل طبيعي وبدون تدخل من أحد.
يحكى عن نيوتن أنه بعد وضعه لقوانين الحركة والجاذبية الثلاثة الشهيرة، زعم أن الإنسان يستطيع الآن فهم كل شيء في العالم وفقًا لها، وعندما سأل أحدهم نيوتن عن دور الرب في العالم إن كان العالم يسير وفقًا لقوانين الحركة تلك وبدون تدخل، كان رد نيوتن أن من الممكن التفكير في العالم كالساعة والرب كصانع ساعات، تحتاج الساعة إلى من يصنعها، إلا أنها تسير وفقًا لقوانينها الخاصة وبدون تدخل بعد ذلك.
قد يكون من الآمن الزعم بأن هذا المبدأ مازال يمثل القاعدة التي تحكم التدين في البلاد الغربية حتى اليوم، قد يكون هناك رب بالفعل قد قام بوضع قواعد الكون والعالم، إلا أن الكون الآن يسير وفقًا لهذه القواعد ولا شيء عداها، إن أردت التعلق بهذا الرب وعبادته لمجرد قيامه بذلك فلا مشكلة، وإن فضلت عدم التصديق في وجوده والإيمان بما تستطيع قياسه علميًا فلا مشكلة أيضًا، يمكن القول أن بداية التسامح الديني في أوروبا والغرب عمومًا لم تنبع من تطور وانفتاح في الديانة المسيحية إذن، وإنما لأن أهمية الدين الفلسفية والاجتماعية قد تراجعت بالأساس في هذا السياق.
لكن ماذا لو كان الدين أكثر من مجرد إيمان؟
تتناقض المزاعم المذكورة سابقًا بوضوح مع مجموعة من النظريات الشهيرة وأوجه الواقع المحيطة بنا، فإن كان الدين لم يعد له أهمية، فما الذي يحرك العداء الواضح والصريح بين الغرب والإسلام والمسلمين؟ ما الأساس الذي قام عليه صامويل هانتجنتون بتحديد ملامح صراع الحضارات كصراع بين الحضارة الإسلامية والغربية؟
يمكن حل هذا التناقض بالنظر إلى أن هذه الصراعات والتناقضات لا تأتي بالضرورة كمشكلة بين دين وآخر، أو إيمان وإيمان مختلف، وإنما كصراع بين كلية ثقافية ودينية وحضارية وأخرى، كان هانتجتون واضحًا في هذا عندما وصف الصراع بكونه صراع حضارات لا أديان.
يمكن تفهم أن الحضارة الغربية بتطورها منذ بداية الثورة العلمية في القرنين السابع والثامن عشر قد استطاعت استيعاب الدين المسيحي كمكون ثقافي ساهم في هذا التطور وتم تخطيها، إلا أن على الجانب الآخر لم يكن الإسلام على سبيل المثال جزءًا من هذا التطور، كما لا يمكن الزعم أن الحضارات الإسلامية المختلفة قد مر أي منها بتجربة تحديث كتلك التي مر بها الغرب، ولذلك يبقى الصراع والاختلاف بين الطرفين هو صراع قيمي وثقافي لا يمثل الدين سوى جزء واحد منه، صراع حول ما يجب أن يكون ومكان الإنسان في العالم ودور الدين في ضبط علاقة الإنسان بالعالم.
وإن كان الغرب قد وصل إلى معادلة وهي العلمانية لضبط علاقة الأفراد بالدين وتقبل إيمان الآخر طالما يبقى خارج الدولة والسياسة، فإن الثقافة الإسلامية لم تصل إلى مثل هذه المعادلة أبدًا، ما زال أي تطبيق للسياسة الحديثة في البلدان العربية والإسلامية محكومًا بمجموعة من القيم الغربية التي يتم تطبيقها محليًا، ويزداد الأمر تعقيدًا بزيادة عدد المسلمين في البلاد الغربية، عدد من الأفراد لا يتفق عدد كبير منهم مع المعادلة السابقة.
العداء الغربي للإسلام ليس بالضرورة عداوة دينية في هذه الحالة، وإنما هو عداء الإنسان الطبيعي لكل ما يجهله، وقد يكون هذا مبررًا بالنظر إلى أن على الرغم من وضوح الغرب إلى حد ما في الوصول إلى رفض للدين أو تجاهل له، يبقى العالم الإسلامي سائرًا في متاهات لا بداية ولا نهاية له في تعريف نفسه والعالم ودور الدين في الدولة والسياسة.