في جولة متجددة من اضطراب المشهد السياسي المشتعل منذ عقود بين السلطة والمعارضة، تدخل بلد المليون شهيد أزمة من نوع خاص لم يسبق لها أن حلت على الوسط السياسي الجزائري منذ تولي الرئيس الحالي مقاليد الحكم في البلاد.
“سطوة الإعلام والخوف من توظيفه من قِبل المعارضة” هذه العبارة تلخص طبيعة المشهد الآن المستعر داخل أروقة الحكومة وقضائها وأنظمتها من جانب، والمعارضة والمنتصرين لحرية التعبير من جانب آخر، حيث تسببت صفقة بيع منظومة “الخبر” الإعلامية لأحد رجال الأعمال المعارضين للنظام أزمة لدى القائمين على أمور السلطة الحالية، وعلى الفور اشتعلت الأجواء السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية ما بين مؤيد لهذه الصفقة باعتبارها قانونية مائة بالمائة وتصب في صالح حرية الإعلام وبين المنتقدين والمشككين لها كونها خالفت الدستور ومواد القانون من جانب آخر.
“نون بوست” يسعى في هذا الطرح إلى إلقاء الضوء على أبعاد هذه الأزمة وكيف أنها تعكس حجم التخوف الحكومي الجزائري من استقرار ملكية الصحف والقنوات في أيدي المعارضين أو من هم ليسوا على هوى النظام، وبعد تهديد المعارضة بتصعيد الموقف حال إلغاء الصفقة بحكم قضائي مسيس، هل من الممكن أن يصبح الجزائريون على أزمة جديدة تضاف إلى سجلاتهم الحافلة بالأزمات التي انهكت البلاد طيلة العقود الماضية؟
الجزائر وحرية الصحافة “المقيدة”
تقبع الجزائر في مؤخرة الدول العربية التي تقيد حرية الصحافة وتفرض عليها قيودًا سياسية واقتصادية وثقافية، ففي تقرير منظمة مراسلون بلا حدود المنشور الشهر الماضي تراجعت الجزائر في مجال الصحافة وحرية التعبير عشر مراتب عن العام السابق، وحلت في المرتبة 129 بين 180 بلدًا بعدما كانت في المرتبة 119 في 2014، ولم يكتف التقرير بهذا التراجع وحسب، بل وصف وضع حرية الصحافة والتعبير بالجزائر بـ “القاتم”.
“السلطة تستعمل القانون لمنع خلق قنوات جديدة، وتدفع الصحفيين للجوء إلى قنوات في الخارج موجهة للداخل” بهذه العبارات استنكر عضو الرابطة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان والنائب السابق بالبرلمان مصطفى بوشاشي، واقع حرية الصحافة في بلاده، مضيفًا أن حرية التعبير في الجزائر على غرار كل الحقوق والحريات في تراجع شديد.
بوشاشي أكد أنه رغم الإصلاحات الجديدة في منظومة الصحافة في الجزائر إلا أن المؤسسات الإعلامية مازالت تخضع إلى ترخيص من السلطة ما يجعلها تحت رحمتها، منوهًا أن السلطة تستغل المال العام في الضغط على المؤسسات الإعلامية من خلال توزيع التراخيص، وهو ما جعل الجزائر حسبه تحتل المراتب الأخيرة في أغلب قضايا حقوق الإنسان، مع أن هذا يناقض خطاب السلطة التي ما فتئت تقر بأنها تريد الذهاب إلى إصلاحات ودولة سيادة القانون، مبرزًا أن الواقع القانوني والواقع الفعلي يكذب خطاب السلطة، لأن دولة الديمقراطية تحترم الحريات بما فيها حرية الإعلام.
اعتقالات بالجملة لأصحاب الرأي والتعبير بالجزائر
صفقة “الخبر” وعلاقة الصحافة بالسلطة والمال
جاء الإعلان عن صفقة بيع مجموعة “الخبر” الإعلامية لرجل الأعمال إسعد ربراب المصنف رقم 15 بين أغنياء العرب العام الماضي حسب مجلة ” فوريس”، ليدخل الجزائريون معها منعطفًا جديدًا من الجدل فيما يتعلق بالعلاقة بين الصحافة من جانب والسلطة والمال من جانب آخر.
وتعد مجموعة “الخبر” الإعلامية والتي تضم صحيفة “الخبر” إحدى أبرز صحف الجزائر، وقناة “كا بي سي” التلفزيونية ودار نشر ومطبعة، من أكثر وسائل الإعلام انتشارًا وتأثيرًا في المجتمع الجزائري، فضلاً عن أن إدارتها تنتمي للفريق المعارض لنظام بوتفليقة ومن هنا جاءت الأزمة.
تعود القصة إلى ما قبل عدة أشهر من الآن حيث عانت المجموعة الإعلامية من أزمات مالية طاحنة، نتيجة عدد من الظروف بعضها إداري والآخر مالي والثالث سياسي، مما دفع ملاك المجموعة إلى البحث عن مشترٍ يعوضهم خسارتهم ويساهم بشكل كبير في دعم هذه المجموعة بدلاً من غلقها، وهو ما كان بالفعل، فقرروا بيع أصول المجموعة بالكامل إلى رجل الأعمال إسعد ربراب، وهو ما تم بعد مفاوضات دامت بضعة أسابيع، وبمبلغ يقارب الـ40 مليون دولار، ومن هنا أعلنت حكومة بوتفليقة الحرب على الصفقة.
من الواضح أن هناك حساسية مفرطة من قِبل السلطة تجاه وسائل الإعلام لاسيما في حال سيطرة رجال الأعمال، ومما يزيد من فرط تلك الحساسية أن يكون ملاك هذه الوسائل ممن يغردون خارج السرب ويعملون بعيدًا عن دائرة السلطة، وهو ما تجسد في رد فعل الحكومة على صفقة الخبر.
السلطة التي كانت تراقب الصفقة من بعيد وبنوع من القلق، لم تستطع إخفاء قلقها طويلاً، فسرعان ما أعلنت عن موقفها بصورة دفعت البعض للتساؤل لاسيما حين أقدمت وزارة الإعلام على رفع دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية، تتهم فيها الصفقة بأنها مخالفة لمادتين في قانون الإعلام، الأولى تقول إن شخصًا معنويًا أو طبيعيًا لا يمكنه أن يسير أو يمتلك إلا صحيفة واحدة، وأن رجل الأعمال ربراب يمتلك صحيفة “ليبرتي” الصادرة بالفرنسية، والثانية تؤكد أنه في حالة تغيير ملكية الصحيفة فلا بد من طلب اعتماد جديد.
وفي المقابل نفى ربراب هذه التهم مؤكدًا أن الصفقة تمت بطريقة قانونية مائة بالمائة، مستندًا إلى أنه ليس هو كشخص طبيعي من اشترى المجموعة وإنما شركة “ناس برود” التي يمتلك أغلبية الحصص فيها، وأن صحيفة “ليبرتي” مملوكة أيضًا لشركة أخرى هو مساهم فيها، وهي الحالة غير المنصوص عليها في القانون.
المالك الجديد للمجموعة الإعلامية لم يكتف في حيثيات الدفاع عن نفسه بقانونية الصفقة فحسب، بل لوح إلى أن هناك مؤامرة لاستهدافه شخصيًا، كونه من منطقة القبائل، مستدلاً على ذلك بتعرض مشاريعه داخل الجزائر للعديد من العراقيل مقارنة بغيره من رجال الأعمال أصحاب الحظوة ممن يستفيدون من كل التسهيلات والمزايا، وأولهم علي حداد رئيس منتدى المؤسسات الذي يمتلك أيضًا جريدتين وقناتين تلفزيونيتين باسم شركة لا يوجد بها مساهم غيره، على حد قوله.
تصاعدت الأزمة بين الجانبين حين نظم صحافيو وعمال الخبر عدة وقفات احتجاجية شاركت فيها بعض المنظمات الصحفية غير الحكومية في مقدمتها الاتحاد الدولي للصحافيين والذي أصدر بيانات تنديد بشأنها، كذلك شارك معظم أطياف الطبقة السياسية، ومواطنين وممثلي الحركات والنقابات والأحزاب والجمعيات، تتقدمهم الأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون، رئيس حزب “الأرسيدي” محسن بلعباس، ورئيس حزب “جيل جديد” سفيان جيلالي، وكريم طابو رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي، مما أعطى القضية زخمًا شعبيًا كبيرًا، فضلاً عن اتخاذها منحى آخر غير الذي أكدت عليه الحكومة من أنها تسعى لتطبيق القانون الذي خالفته الصفقة وليس غلق الصحيفة على حد بيانات وزارة الإعلام الرسمية.
الأمينة العام لحزب العمال، لويزة حنون، حملّت وزارة الاتصال مسؤولية الوضع الذي آل إليه مجمع الخبر، واعتبرت أن الوزير حميد قرين، أول من سيّس قضية الخبر، معتبرة أن ما قام به قرين قرارًا شخصيًا وليس قرار حكومة أو دولة.
أما رئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية محسن بلعباس، فقال “نحن ضد محاولة السلطة غلق هذا الصرح الإعلامي، لا لاستغلال العدالة لقمع حرية الصحافة”، وشاطره الرأي رئيس حزب جيل جديد جيلالي سفيان، الذي قال “نحن هنا لنعبر أننا مع حرية التعبير وحرية الصحافة ونرفض أمام الملأ هذا التعامل التعسفي من طرف وزارة الاتصال”.
وفي السياق نفسه أكدت وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي، تضامنها مع الخبر وأنها ضد التضييق الممارس على الصحافة، بينما اعتبر الناشط السياسي كريم طابو أن الضغط الممارس على الخبر غير مقبول، مضيفًا “الإرهاب لم يتمكن من توقيف حريم الصحافة فكيف تفعلها وزارة الاتصال”.
وقفه احتجاجية دفاعًا عن قانونية صفقة “الخبر”
المعارضة والرهان على الغليان الاجتماعي
لم تدخر المعارضة جهدًا في توظيف هذه الأزمة بما يخدم أهدافها السياسية الرامية إلى تشويه صورة نظام بوتفليقه داخليًا وخارجيًا، من خلال السعي لتزايد موجات السخط الشعبي ضد الحكومة كونها المعرقل الأول لحرية التعبير والصحافة في البلاد، في محاولة للإطاحة بهذا النظام الذي مكث على قلوب الجزائريين عقود طويلة.
الباحث الجزائري بومدين بوزيد، يرى أن المعارضة لديها من الأوراق التي يمكن استخدامها في صراعها مع النظام الحاكم الكثير والكثير، وأن أزمة الخبر جاءت لتزيد الوضع تأزمًا، لاسيما وأن المعارضة تراهن على غليان اجتماعي يعجِّل بالانتقال الديمقراطي فى البلاد.
الباحث في دراسته المعنونة بـ “المشهد السياسي الجزائري في سياق التعديلات الدستورية”، والمنشورة في مركز الجزيرة للدراسات، أشار إلى أن أول أوراق الضغط ستكون فى البرلمان خلال مناقشة القوانين المُنظِّمة لمواد الدستور، خصوصًا ما تعلق منها بالقضايا التالية: لجنة مراقبة الانتخابات، وقضايا الهوية “العربية والأمازيغية”، منوهًا إلى أهمية توظيف الوسائل الإعلامية المعارضة للسلطة في التأثير على عقلية الجماهير وشحنهم ضد النظام لاسيما وأن نسبة كبيرة من هذه القنوات تبث من خارج البلاد مما يصعب السيطرة عليها.
بوزيد أكد في دراسته أن الرهان الأكثر حضورًا في ذهنية المعارضة هو “الغليان الاجتماعي” من خلال توظيف خطايا النظام وتسويقها بشكل إعلامي محترف بما يمثل ضغطًا شعبيًا قويًا على السلطة ومن ثم تجد نفسها مجبرة على الانتقال الديمقراطي للسلطة وفق انتخابات رئاسية نزيهة تحت إشراف دولي.
كما أن المعارضة تمتلك نصيبًا كبيرًا من الساحة المدنية الجزائرية كالنقابات والاتحادات الطلابية، وهو ما يعد ورقة جديدة يمكن استخدامها بجوار الإعلام في الإطاحة بنظام بوتفليقه والانتقال بالجزائر من دولة ديكتاتورية عسكرية يحكمها “العواجيز” باسم النخبة، إلى دولة ديمقراطية شابة تمتلك من الرؤية والاستراتيجية والكفاءات ما يؤهلها لاستعادة مكانتها الطبيعية في المنطقة العربية والشرق أوسطية.
مما سبق يتضح أن هناك حالة من الغليان في المشهد السياسي الجزائري ما بين السلطة والمعارضة، وما أزمة مجموعة الخبر الإعلامية إلا حلقة واحدة في هذا المسلسل الطويل، فهل آن الأوان أن يستيقظ الجزائريون على خبر الإطاحة بالنظام الحاكم، والعودة للمسار الديمقراطي وفق استحقاق انتخابي دستوري ديمقراطي أم لازال بوتفليقة يملك من الأوراق ما يمهد له لإكمال ولايته الحالية؟