الثورة، هي تلك اللحظة التاريخية التي تتحدى فيها إرادة الشعب الحرة نظام الهيمنة والسلطة، وأدوات السيطرة والتسلط، تلك اللحظة التي لا يبقى فيها الشعب مجازًا على ألسنة المثقفين، ورمزًا في أذهان نقاد الأنظمة، بل يصبح واقعًا فعليًا عينيًا نسبيًا، له لون وطعم ورائحة وعرق ودم يخرج في الثورة أفضل ما لديه في حضور الدولة، أو أسوأه، في حالة غيابها (ص 131-132).
الثورة، فعل في التاريخ، لأنها واقع راهن مادي محسوس، بات يجري أمام أعيننا ساعة حصوله، بعد أن تجانست أزماننا، وتزامنت تجاربنا بفضل الإعلام وغيره من وسائل الاتصال، وهي في الوقت ذاته، فعل يقع خارج التاريخ، لأنها تكسر تسلسلاته السببية، وتقطع صيرورته التي تذوب فيها الذات في الموضوع، إنها من اللحظات النادرة التي تتصرف فيها مجموعات من المواطنين مدفوعة بحرية الإرادة، فتحول النفي إلى فعل تحدٍ للنظام القائم، وإن كان الثمن هو الموت.
الثورة، هي اللحظة التاريخية والفعل الجماعي المحيران لبعض من المثقفين والمحللين، إذ يجعلانهم يحملون الثورة ذنب عدم توقعهم لها، أو ينفون عنها هذه الصفة حتى لا تكون ثورة لم يتنبأوا بوقوعها، وتصبح فعلاً عشوائيًا اعتباطيًا لا يمكن توقعه بحكم تعريفه، والحقيقة أنه لا يمكن توقع الثورات الشعبية العفوية بحكم تعريفها.
هكذا يحدثنا عزمي بشارة في كتابه “في الثورة و القابلية الثورة”، عبر خمسة نصوص منفصلة في توقيتات كتابتها، ومتصلة في موضوعها، وشاغلها الرئيسي: الثورة، معناها وشروطها ونجاحها وفشلها: يبحث عزمي بشارة عن تفسير لطول حالة الاستبداد في بلادنا العربية، وفشل ثورات الربيع العربي في التخلص منه.
متن الكتاب، هو النص الأول: عن الثورة وفي القابلية للثورة، ويليه أربعة نصوص تشرح مواقف المثقفين من الثورة، ومأزق الثقافة الديموقراطية في عصر الثورة، وثورة مصر كحالة تطبيقية للثورة على أرض الواقع، والنص الأخير عن مراحل الانتقال ودور الفاعلين التاريخيين في بناء العملية الديموقراطية، نص غني، حي، متفاعل مع الواقع، يجمع بين التنظير ومعالجة الواقع، والاشتباك مع لحظة من أغنى لحظات العرب التاريخية: لحظة الثورة.
المسيرة الطويلة نحو التغيير
يؤكد بشارة في كتابه أن المجتمعات لا تتغير في يوم الثورة، ولا حتى في عام الثورة، فالناس (أفراد، نخب، أنظمة) لا تستيقظ بثقافة سياسية جديدة في اليوم التالي، فبناء ثقافة المواطنة وسيادة القانون، والمؤسسات صيرورة تحتاج إلى من يراها عملية انتقالية نحو هدف، وهذا يعني أنها تحتاج إلى حد أدنى من وحدة القوى الثورية وتنظيمها.
ففي دول، مازالت تتصارع فيها قيم الثقافة الديموقراطية والأصولية الدينية، وثقافتا الخنوع والكرامة الإنسانية، وثقافتا الحريات وقمع الحريات وغيرها، ولم تتضح فيها وكالة اجتماعية قوية لصيرورة التحول الديموقراطية بعد، ومازال عمودها الفقري تنظيم الجيش: ولم تقبل قيادات جيوشنا الوطنية بعد بدورها في حماية الديموقراطية، ومازالت تريد أن تملي إرادتها فيما يتعلق بنظام الحكم في الدولة، إن لم تحكم مباشرة، أما أحزابها فلا تحمل تياراتها الأساسية ثقافة ديموقراطية من جهة، فيحكم أي منها وحده حكمًا ديموقراطيًا، ولا يمكنها أن تتفق على تعددية يوازن فيها كل منها الآخر، ويضع له حدودًا من جهة أخرى.
وأمام مجتمع سياسي ضعيف الأحزاب، وبلا ثقافة ليبرالية أو ثقافة ديموقراطية عميقة، واستمرار الخلط غير المبرر بين العلمانية والليبرالية (ص 171-172) من ناحية، وخلط الدين بالسياسة من ناحية أخرى، وفي غياب تقاليد وطنية تستند إليها الدولة العربية في إدارة الكيان السياسي لمجتمعاتها، وفي غياب تراث ثقافي وتقاليد عريقة تتجسد فيها الدولة، تنقلب الأمور في بلادنا العربية، فتصبح الأنظمة مسيطرة على الدولة بدلاً من أن تتبعها.
الثورة، هي تلك اللحظة التاريخية التي تتحدى فيها إرادة الشعب الحرة نظام الهيمنة والسلطة، وأدوات السيطرة والتسلط
ومع افتقاد المثقف الحقيقي، وغياب مجتمع مدني قوي، وبيئة سياسية حاضنة، وإذا أضفنا إلى هذا كله الثقافة السياسية كعائق رئيس أمام التحول الديموقراطي لدى جميع الفرقاء السياسيين من كل التوجهات الأيديولوجية المختلفة، وليس الإسلاميين فحسب، وانقسام المجتمعات العربية بين علمانيين ومتدينين، أو قوى سياسية دينية وعلمانية.
كل هذه الأمور مجتمعة، مع تدخل العامل الخارجي، أثمرت تخبطًا وفشلاً في مسار الثورات العربية، وعدم حصول تحول ديموقراطي سليم في الوطن العربي، كنتاج طبيعي للثورات التي اندلعت، مما يستدعي ضرورة مراجعة لهذا الواقع المحيط بالإنسان العربي، وتلمس طريق واضح وخطة واقعية، ونقطة بدء صحيحة لاقتلاع الاستبداد والفساد من النفوس والعقول والأنظمة، حتى تبلغ ثوراتنا غاياتها.
متى تثور الشعوب؟
متى يتحرك الشعب؟ وإذا تحرك فما الذي يحول الاحتجاج أو الانتفاض الشعبي إلى ثورة تستهدف مجمل النظام السياسي؟ هذه أسئلة لا نعتقد – كما يقول المؤلف – أنها تؤدي إلى نظرية في الثورة، ولا نعتقد أن المحاولات لتأسيس نظرية في الثورة مفيدة، فالكتابات النظرية عن الموضوع مشتقة غالبًا من ثورة تاريخية أو ثورات بعينها، إنها تعمم استخلاصاتها من ثورات معينة، إنها نوع من الاستقراء القابل للدحض دائمًا، أو القابل للتطوير بشكل مستمر.
ويصعب – من دون تعسف – إطلاق تسمية نظرية، على مجمل التنظير الذي تراكم جراء دراسة الثورات المختلفة في التاريخ، فالعوامل الخاصة التي تتحكم في حركة الناس وانتفاضهم ضد الظلم، وتحول ذلك إلى ثورة شاملة ضد النظام، كثيرة ويصعب حصرها، كما يصعب حصر دور العام والخاص فيها، ولا شك في أن في الإمكان تحليل بنية أي ثورة واستخلاص استنتاجات نظرية، وهذا الجهد يسهم في مراكمة تجربة نظرية تمكن من ترجيح احتمال وقوع ثورة في بلد من البلدان، ولكن كاحتمال فقط، وهذا لا يستثني حالات كثيرة تقع فيها ثورات حيث لم يتوقع أحد (ص 65-66).
فالثورة، لا تنتشر حيث تتلاءم أوضاع بلد مع المعطيات التي أدت إلى الثورة في البلد الذي يمكن القول أنه يصدر النموذج، فبمجرد نجاح الثورة وانتشار جاذبيتها، وما تعرضه من إمكانات التغيير بواسطة إرادة الشعب وقدرته على التحرك، فإن الشعوب التي تشعر بالظلم، والتي يئست من الجمود، أو أجزاء منها، تستلهم النموذج للتحرك، فالثورة تحصل نتيجة الحاجة وتغيرات الوجدان، وغالبًا ما تنتشر في بلدان ليست مهيأة لها بموجب أي نظرية محلية، أو تراكم معرفي محلي (ص 78).
أينما تستبدوا تدرككم الثورة
يخاف الحكام من كلمة “ثورة” كأنها تعويذة أو لعنة لأنها إذا ما استخدمت، فهي تعني تحركًا لا عودة فيه قبل أن يصل إلى مقتضاه، يكمل الدائرة، منشأة واقعًا موضوعيًا يستحيل إمكانية العودة عنه (ص 5)، فأنماط الحكم كلها معرضة للثورة، عندما يختلف الواقع المعيش مع التصور المسبق عنه، وهو التصور الذي أدى إليه النظام القائم نفسه، فالنظام القائم هو المساهم الرئيس في صوغ توقعات الناس.
وتقوم الجماهير بالثورات في ظل حكم الأقلية، عندما تتملكها فكرة أنها لا تعامل بشكل عادل، وتتملكها الفكرة، لأن لديها شعورًا مسبقًا بأنها متساوية، ويفترض بالتالي أن يعامل أفرادها كأفراد متساوين (ص 10-11)، ويعد فقدان مصدر الشرعية، المتمثل في ضمان الحاجات الأساسية عبر الإفقار، بواسطة اللبرلة الاقتصادية مثلاً، من دون الاستعاضة عنه بمصادر أخرى مثل الشرعية الديموقراطية، هو من الأسباب التي تمهد للثورة على الاستبداد (ص 14).
فالثورات تفهم نظام الاستبداد، باعتباره شكل الحكومة الذي يعمل على إقصاء المواطنين من الميدان العام إلى مجالاتهم الخاصة، ويطالبهم بـ “الانصراف إلى شؤونهم وأعمالهم”، ثم يسلبهم حرياتهم وأقواتهم، فيثور الناس مكتسحين للمجال العام، ومشاركين في تقرير مصائرهم (ص 63) .
تعريف الثورة، ليس من العلم في شيء
يؤكد بشارة أن كل المحاولات لتعريف الثورة، هي محاولات لا ترقى لمستوى التعريف العلمي، وأي محاولة أيديولوجية لتعريف الثورة باعتبارها أمرًا إيجابيًا أو ساميًا، أو يجعل منها فتنة وفوضى وخطرًا داهمًا على الشعوب والإنسانية، ليست من العلم ولا الواقع في شيء.
الثورة، هي اللحظة التاريخية والفعل الجماعي المحيران لبعض من المثقفين والمحللين، إذ يجعلانهم يحملون الثورة ذنب عدم توقعهم لها، أو ينفون عنها هذه الصفة حتى لا تكون ثورة لم يتنبأوا بوقوعها، وتصبح فعلاً عشوائيًا اعتباطيًا لا يمكن توقعه بحكم تعريفه
فالثورة ليست صراعًا بين الأشرار والأخيار، ومن يصنف طرفيها بهذا الشكل يرتكب عدة أخطاء، قد تتحول إلى خطايا، فالثورة على الظلم تعني تفكيك نظام الظلم، وليس التخلص من أفراد فحسب، ولا التخلص من جميع أفراد نظام جهاز الدولة بالضرورة، وأما على المستوى القيمي، فالثورة هي فعل رافض للظلم لا يجوز الحياد بشأنه، فالانحياز إليه من باب الفضيلة (ص 130).
الثورة والانقلاب والإصلاح والتمرد والعصيان والانتفاض
يؤكد بشارة على أن الثورة والانقلاب ليسا مفهومين علميين، يقدمان لنا نماذجًا تفسيرية لظواهر معقدة كما يفترض أن تكون المفاهيم في العلوم الاجتماعية، وإنما هما مصطلحان..
فمصطلح انقلاب، يعني قلب السلطة، وليس نظام الحكم، انقلاب في أوساط من النظام على أوساط أخرى من النظام نفسه بوسائل غير دستورية للوصول للحكم، لا تغيير النظام، وهو عسكري لأنه الطرف القادر بحكم قوة السلاح واحتكاره.
أما الثورة، فغالبًا ما تكون تحركًا شعبيًا واسعًا من خارج النظام أو الانقلاب، انتقل لتغيير النظام بتأييد شعبي (ص 167)، فالثورة تهدف إلى تغيير نظام الحكم بالتحرك الشعبي من خارج الدستور، بينما الانقلاب العسكري بعربية عصرنا، لا يعني قلب نظام الحكم بالضرورة، بل قد يعني تغيير الحاكم فقط، كما لا يعكس تحركًا شعبيًا، ولكنه يبقي الإمكانية مفتوحة لأن يشكل انقلابًا عسكريًا مدعومًا شعبيًا هدفه تغيير نظام الحكم.
وينبهنا إلى أهمية تمييز مفهوم الثورة من أقرب الظواهر إليه، لذا نميز الثورة من الإصلاح ومن الانقلاب العسكري، ومن حركات التمرد والعصيان والانتفاضات، وهي ظواهر متداخلة قد تقود إحداها إلى الأخرى، فقد يؤدي تمرد شعبي إلى انقلاب في داخل النظام، وقد يؤدي التمرد إلى إصلاح في داخل النظام، والعكس أيضًا صحيح (ص 36).
فـ “مفردة انقلاب”، بمعنى تغيير، حتى في الأصل اللغوي، هي أقرب إلى مفهوم الثورة المستخدم في عصرنا، ويبدو أن الفرس والأتراك استخدموا مفردة “انقلاب” في مكانها ومعناها الملائمين، في حين استخدم العرب هذه المفردة بمعناها الجزئي، فقصروها على الانقلاب العسكري (ص 35).
فالانقلاب يجري في داخل النظام القائم على أيدي جزء من النخبة الحاكمة، أو أيدي جزء من المؤسسات الحاكمة، بما في ذلك الجيش أو قسم منه، ويؤدي إلى توزيع جديد للسلطة داخل النظام نفسه، ولكن لا يخلو التاريخ من انقلابات، اضطرتها الخيارات السياسية إلى إحداث تغييرات جذرية في النظام، وقد سمت نفسها أو سميت ثورات لهذا السبب.
والوضع أسهل في حالة التمرد والعصيان والانتفاضات، إذ إننا نتعامل منذ البداية مع حركات اجتماعية واسعة تقوم على رفض سياسات محددة، أو تحتج على سياسات أو نواقص أو مظالم معينة في النظام، وقد يتجاوز العصيان حدوده عندما يمتد إلى المطالبة بتغيير النظام برمته، إما لأن النظام رفض التغيير الجزئي الذي يطالب به المتردون، وإما لأن المتمردين شعروا بالقوة، وأصروا على الانتقال إلى الثورة، وهنا نتحدث عن ظاهرة قائمة بذاتها، أو عن مرحلة من مراحل الثورة السياسية (ص 41).
أما عن الإصلاح ، فهو قد يكون تمويهًا وتضليلاً للحفاظ على الحكم، كما يجري في الدول العربية، التي يجري فيها الإصلاح لامتصاص النقمة الجماهيرية، ولا يطال إلا مؤسسات هامشية خارج صنع القرار، أو يكون كلامًا خطابيًا لتمرير أزمة، ولكن الإصلاح لا بد أن يقود إلى عملية تغيير إذا كان جذريًا (ص 38).
فكل إصلاح يتضمن، بمعنى ما، نوعًا من الأصولية لأنه لا ينقض الأصول، بل الوضع القائم مدعيًا أن هذا الوضع القائم لا يتلاءم مع الفهم القويم للأسس (ص 39) .
والثورة تعتبر أن الإصلاح غير ممكن في إطار النظام القائم، ولا بد من تغيير النظام بالكامل وإقامة نظام جديد يقوم على أسس جديدة، لأن الثورة تهدف إلى تغيير جذري وترفع هذا الشعار، ولكنها قد تنتهي أيضًا إلى عملية إصلاح تراها هي جديدة تمام الجدة، ويراها جزءًا من النظام القائم غير متناقضة مع أصول النظام المفترضة، وفي حين يراها ثورويون راديكاليون خيانة للثورة (ص 40).
والمؤلف يؤكد أنه لا يوجد مبرر للمقابلة بين مفهومي الإصلاح والثورة كأنهما متناقضان، إلا تلك الخصومة في داخل الماركسية، والتي أصبحت نقاشًا هامشيًا في عصرنا، فالثوري، كما تبين لاحقًا، يجب أن يكون إصلاحيًا يقود إصلاحًا في النهاية، والإصلاحي يمكن أن يقود تحولاً ثوريًا، وأما الثوري الذي ينفي كل ما هو قائم ويرفض الإصلاح، غالبًا ما ينتهي إلى موقف محافظ مضاد للإصلاح وللثورة، هو الوجه الآخر للعدمية (ص 36-38).
الثورة ظاهرة حديثة
ليست الثورات الحديثة، هي التغيرات المتتالية في الحكم بموجب دورة متكررة، كما تصنف عند مفكري الفلسفة اليونانية مثل أفلاطون أو أرسطو، ولا هي دورة خلدونية من فقدان عصبية إلى نشوء أخرى، ولا دورة مستمرة من البداوة إلى التحضر، فهذه التصورات، على أهميتها، لم تشمل إمكان حدوث شيء جديد تمامًا.
فالثورة، في عصرنا، ترتبط بالجدة والانقطاع في مسار التطور التاريخي، إنها الانقطاع الذي يأتي بجديد (ص 44)، فالثورة ظاهرة راديكالية حديثة، تقوم على الجدة والتجديد، وتبحث عن التجديد وتعتبر نفسها مجددة، وذلك خلافًا لما أسماه الفلاسفة اليونانيون ثورات، فالثورات عندهم تمثل دورة متكررة من تغيير الأنظمة، وحتى حين تؤدي الثورات إلى تغيير النظام، فإنها تشكل في هذه الحال حركة دائرية من صعود نظام ما وهبوطه من دون أن يحدث أي جديد في التاريخ الإنساني (ص41).
يخاف الحكام من كلمة “ثورة” كأنها تعويذة أو لعنة لأنها إذا ما استخدمت، فهي تعني تحركًا لا عودة فيه قبل أن يصل إلى مقتضاه
فالثورات الحديثة لا تشترك بشيء يذكر مع ما كان يسمى في التاريخ الروماني القديم بـ “الخصام الأهلي” كما لا يمكننا تشبيه الثورات بتعريف أفلاطون لها” بأنها تحول شبه طبيعي في شكل من أشكال الحكومة إلى شكل آخر، فهذا التحول كان تكرارا دائريا لا يأتي بجديد عموما”. بيد أن تعريف الثورات، بحسب المفهوم القديم، يتقاطع مع التعريف الحديث في الدور الكبير الذي أدته القضية الاجتماعية في الثورات كلها” (ص 44).
في الحداثة، وحدها، يمكن الحديث عن انقطاع هذه الدورة اليونانية، بمعنى: رفض رؤية الفروقات الاجتماعية كمعطيات طبيعية، أي التطلع إلى المساواة، وهو تطلع مقترن بتخيل مجتمع واقعي من دون فقر يحقق مساواة بين الناس في ما أصبح يمكن تسميته بالحقوق (ص 49).
فعنصري الجدة والراديكالية في الثورة، وعدم قبولها وجود سلطة متجاوزة فوق الدولة والمجتمع، تبرر النظام السياسي القائم، ذلك كله شأن علماني حديث، حتى لو أعيد صوغه صوغًا دينيًا، ولا يعني ذلك أن الثورات الدينية ليست ثورات لكنه يعني أن التمردات التاريخية ما قبل الحداثة لم تكن ثورات، كما نفهم الثورة منذ الثورة الفرنسية فصاعدا، أكانت دينية الخطاب والدوافع أم غير دينية، فالثورة الحديثة شأن علماني حتى إذا كانت دينية في إطار الدولة الوطنية القائمة (ص 42-43)
الثورات نوعان
يقسم بشارة، الثورات إلى نوعين: النوع الأول، يؤدي إلى تغيير الدستور القائم، فينتقل من نظام حكم إلى نظام آخر، والنوع الثاني، يغير الحكام في إطار بنية النظام القائم (ص 9).
الثورات بين العفوية والتنظيم
الثورات السياسية، لا تنشأ بالضرورة في الدول التي سبقت غيرها إلى الثورة الفكرية والنظرية، المؤدية إلى ضرورة تغيير الواقع السياسي نحو نظام أكثر عدلاً، فالحاجات السياسية وأوضاع الحاجة الثورية، ربما تؤدي إلى تطبيقات تؤدي بدورها إلى مناهج نظرية في دول تطبق جزءًا من النظريات المعروفة في دول أخرى، وهي قد تفشل، وقد تنجح بقدر ما تسيطر المعطيات غير الناضجة للتغيير على الاستراتيجية السياسية وتسيرها.
يسير الواقع ومعطياته الفاعلين أكثر ما يسيرهم في حالات العفوية، ومن هنا، حينما تكون الأوضاع ناضجة لنجاح الثورة، تكون العفوية في مصلحتها، أما حين تنتشر الثورة بغض النظر عن المعطيات لأنها فتحت كوة أمل، ولأن الظلم قائم، فإن العفوية وانعدام التنظيم قد يقضيان على الثورة (ص 79-80 ).
وعمومًا فحصر الخيارات بين العفوية من دون تنظيم من جهة، وفرض الأيديولوجيا من أعلى من جهة أخرى، يقوم على منطق مناقض لمراحل التحول الديموقراطي (ص 94).
عالم عربي “موصل للثورات”
يمكن القول إن العالم العربي كان “جسمًا موصلًا للثورات”؛ فثورة يوليو كانت انقلابًا عسكريًا، فُهمَ كثورة، ليس بسبب نتائجه الثورية والالتفاف الشعبي حوله، بل لأنه نشأ في بيئة قابلة للثورة وكان امتدادًا لحركة ثورية موارة من الأربعينات، وبعدها انتشرت حركات الضباط الأحرار في الوطن العربي (ص 80-81)، ويمكن القول إن الحالة الثورية والحركة الثورية كانتا قائمتين في عديد من الأقطار العربية والانقلابات أجهضتها وكملتها في الوقت ذاته؛ أجهضت النزعة الديموقراطية، واستكملت مهام التحرر الوطني (ص 81).
ثورات الربيع العربي: قيم ومنطلقات وثوابت واحدة
يرى المؤلف، أن الثورات العربية في بداياتها كانت في القيم التي حملتها أقرب إلى الثورة الفرنسية، وإذا اعتبرنا المدى الزمني الذي تحققت فيه أهداف الثورة الفرنسية، يمكن القول بتفاؤل إن أهداف الثورات العربية قد تتحقق في خلال وقت أقصر (ص 33)(الكلام كان في بدايات الثورات).
فـ “مفردة انقلاب”، بمعنى تغيير، حتى في الأصل اللغوي، هي أقرب إلى مفهوم الثورة المستخدم في عصرنا، ويبدو أن الفرس والأتراك استخدموا مفردة “انقلاب” في مكانها ومعناها الملائمين، في حين استخدم العرب هذه المفردة بمعناها الجزئي، فقصروها على الانقلاب العسكري
وتبين في الثورات، أكثر من أي وقت مضى، أن الهوية العربية قائمة وتجمع العرب من المحيط للخليج، فالثورة الأكبر في العالم الإسلامي في إندونيسيا، الشبيهة بالثورة المصرية، لم تدفع أحدًا للتحرك ثوريًا في العالم العربي، في حين أن ثورة تونس الصغيرة سرت مثل تيار كهربائي في جسد عربي ضعيف، لكنه موصل للهموم والآمال والأجندات والأفكار (ص 83-84)، كما أن الثورات العربية رفعت جميعها شعار الديموقراطية والدولة المدنية (ص 91-92).
ما بين الخروج والثورة
الخروج على الشرعية القائمة، يتم طلبًا لتحقيق حق ما عاد تحقيقه ممكنًا في النظام القائم، أو لدفع ظلم ما عاد دفعه ممكنًا ضمن هذا النظام، وبالأدوات التي يتيحها، هذا هو المشترك بين الخروج بالمعنى المستخدم في التاريخ الإسلامي والثورة بالمعنى الحديث (ص 18).
لكن الخروج والتغلب ليسا نظرية في الثورة؛ الخروج آلية تغيير في مجتمع منقسم بين رعية ودولة سلطانية، ويقابله التغلب الذي تم شرعنته سلطانيًا بإضفاء الشرعية على عملية تمّلك السلطة، لقاء تقديم الولاء للخليفة.
فالتغلب هو الخلفية التي ينشأ فيها الخروج، وهو أيضًا نتيجته المتوقعة، فنشأت ثنائية إقصائية دائمة (خروج/تغلب)، وهذا غير مفهوم المعارضة والموالاة القائميتين في جدلية وصراع ضمن النظام القائم (ص 18-19)، وتناول المؤلف رؤية ابن خلدون وابن جماعة وابن تيمية للتغلب، وحرصهم جميعًا على وحدة الأمة ورفضهم استمرار الانقسامات، حتى لو كان الثمن تبرير السلطان الجائر (ص 20)، والثمن الكبير الذي دفعته الأمة ثمنًا لهذا الآراء.
الغلبة تتبعها المبايعة، وهي التي تجعل المتغلب خليفة، وليس الغلبة ذاتها، والمبايعة غالبًا ما تكون جزءًا من الغلبة، كما في حالة الاستفتاء على رئيس الجمهورية في عصرنا بعد أن يصل إلى السلطة بالوسائل الانقلابية غير الديموقراطية، فتضفي نتيجة الاستفتاء عليه الشرعية الدستورية، وهذا لا يشرعن الانقلاب والغلبة بقدر ما يبخس من قيمة الاستفتاءات ويشوه مفهوم المشاركة الشعبية، ويسمي الإعلام الاستفتاء”مبايعة” في محاولة لاستثمار الإسلامية في “شرعية” الحكم، ويختلط هنا تلفيق الشريعة بتلفيق الشرعية الديموقراطية، في مركب سلطوي عنيف لا يؤمن بأي منهما (ص 21).
ويرى المؤلف، أن خطاب السلفيين في العصر الحاضر، وجد تراثًا وتقاليدًا يمكنه الانتقاء منه حسب موقفه، فهو يجد المبررات الشرعية لخروج الحاكم القائم على سابقه، وينفي مبررات الخروج عليه، ويعثر في النصوص على ما يحرمها، ومن هنا فإن أخطر ما فيه هو غياب المعايير الأخلاقية من الفتاوى والأحكام الدينية، وتحويلها إلى تبرير ما هو قائم وخدمته، فما كان حرامًا يصبح حلالًا حالمًا، يتغلب ويصبح الخروج عليه حرامًا (ص 23-24).
“من اشتدت وطأته وجبت طاعته”، هي العبارة الشهيرة التي شرعن بها فقهاء السنة حكم المتغلب، مازالت تصاغ اليوم في حواشي ومتون الثقافة السياسية المعاصرة لمرتزقة الأنظمة من إعلاميين ومثقفين، يرون أنه إذا أتاح ما يسمى”المجتمع الدولي” لحاكم عربي مستبد أن يستخدم ما شاء من وسائل العنف والقوة ضد شعبه من دون سقف في السماء أو حاجز على الأرض، فهذا يعني”عدم واقعية” طلب العدل والحرية والكرامة.
وهذا يعني قياس القيم بمقياس البراغماتية، والأهم من ذلك، التخلي عن الأحكام القيمية في إدانة الجرائم المرتكبة ضد الشعب، والاكتفاء في إصدار الحكم عليها بكونها نجحت أو لم تنجح في كبح جماح الثورة، فإن اشتدت الجريمة بفضل عدم تقييدها في اختيار وسائل القتل كمًا ونوعًا، وجبت طاعة المجرم (ص 28).
هذا الفقه الآسن أدى إلى تحول موقف طاعة ولي الأمر إلى موقف عام محافظ، جعل كثيرين من السلفيين من خريجي المدرسة الفقهية النجدية، ومنهم الموحدون أو الوهابيون، يتخذون موقفًا معاديًا للثورات العربية أو تشكيكيًا، وفي أفضل الحالات موقفًا سلبيًا منها، وأما موقف المملكة السعودية الرسمي المعارض للثورات، فقد استغل هذا التقليد في سياق سياسات براغماتية لمملكة محافظة سياسيًا واجتماعيًا، لتبرر استقرار دول، لا هي ديموقراطية، ولا هي إسلامية، وترفض الخروج عليها (ص 29).
المثقف والثورة
المثقفون هم في أي مجتمع مجموعة من الأشخاص الذين يوظفون في معاملاتهم وتعابيرهم، رموزًا عامة ومرجعيات مجردة متعلقة بالإنسان والطبيعة والكون بكثافة أكثر من أفراد المجتمع الآخرين، والمؤلف يستخدم لفظ “مثقف” بمعنى إصطلاحي لما يسمى في عصرنا بـ”المثقف العمومي”، أي المثقف الذي يمارس دورًا في الشأن العام، وذلك من منطلق كونه مثقفًا، أي مستخدمًا معارفه الشاملة والعابرة للتخصصات، متفاعلًا مع المجال العمومي وقضايا المجتمع والدولة.
وبالتالي لا يقتصر التعريف على المثقف الثوري أو النقدي فقط، بل يتعلق بمن يساهم في مناقشة الشأن العام بأدوات عقلانية، ومن منطلق مواقف أخلاقية، فهو يجمع بين الثقافة الواسعة والفكر العقلاني وإتخاذ الموقف (ص 109-110).
نجد هذا المثقف في الوطن العربي في نهاية القرن الـ19، وفي بداية القرن الـ20، كما نجده في أوساط العلمانيين المتدينين قبل أن تتحول هذه إلى أيديولوجيات حزبيةـ فقد تفاعل هؤلاء المثقفين مع قضايا عصرهم ومجتمعاتهم بنقدية ومسؤولية صاحب الثقافة والموقف المتعلق بمصلحة المجتمع ككل من زاوية نظره (ص 110)، هؤلاء هم سلف المثقف العمومي العربي المعاصر، فهم لم يكونوا مجرد خبراء أو دعاة، وما كانوا مثقفين عضويين، بالمعنى الطبقي الأيديولوجي عند غرامشي.
إن تحرك 30 يونيو كان حركة احتجاجية واسعة، تدعو إلى تقديم موعد الانتخابات وتنحي الرئيس، ولكن ذلك لم يجر ضد النظام القائم ولا ضد أجهزة الدولة، بل بمشاركة أغلبية جهاز الدولة في الحشد والتنظيم والتوقيع ضد رئيس الدولة المنتخب
ولكن مع تعمق التخصصات، لم يعد المثقف العربي في عصرنا قادرًا على ممارسة دور المثقف العمومي، من دون معرفة تخصص واحد على الأقل، كمنطلق لثقافته العامة الواسعة، كما أصبحت مهمته أكثر صعوبة وتحديدًا مع انتشار التعليم من جهة، ووسائل الاتصال الفوري والمباشر من جهة أخرى، ونشوء فئات من المواطنين يتمتعون بثقافة كافية للتحدث والكتابة في الشأن العام، غير سلفهم الذين تميزوا بين عدد قليل ممن يقرأون ويكتبون، فضلًا عن أنهم نشروا أعمالهم في مرحلة شكل فيها من تسنح لهم فرصة التعلم نخبة تميل أفرادها عمومًا إلى أن يكونوا مثقفين (ص 110-111).
المثقف الثوري والإصلاحي والمحافظ: الغياب ليس صدفة
افتقدت الثورات العربية نوعين أساسيين من المثقفين: الأول هو المثقف الثوري، والثاني هو المثقف المحافظ.
فالمثقف الثوري الذي ينظر لحالة الثورة، وإذا ما وقعت ينضم إليها (معنويًا على الأقل) من منطلقات ثلاثة: الأول، تحليلي نظري، إذا استنتج أن تحليل واقع النظام السياسي لا يسمح بالتغيير التدريجي الإصلاحي من دون ثورة، وهو حين ينضم للثورة يأخذ منها مسافة نقدية، فهو يملك الجرأة الكافية، لا لمواجهة النظام فحسب، وإنما أيضًا، لنقد الجمهور مع صعوبة ذلك، والمثقف في خدمة الثورة يقوم بعمل نبيل، فهو خبير يوظف خبرته في خدمة ما يؤمن به، ولكن للقيام بدور مثقف يجب أن يكون قادرًا على أخذ مسافة من الثورة لتقييمها نقديًا من منظور عام، ومن منظور عمومي في الوقت ذاته (ص 124).
بينما المثقف المحافظ، في خضم السجالات في شأن الثورات، يشرح لنا ضرورة الحفاظ على النظام وإمكانيات التغيير القائمة فيه، والحكمة القائمة في الدولة والتقاليد التي تستند إليها (ص 125).
الغياب ليس صدفة، فلا توجد دولة بالمعنى الذي يجسد التقاليد الوطنية لشعب من النوع الذي جعل بيرك ينتقد المثقفين الفرنسيين على تجاهلها.
ليست الدولة العربية دولة بهذا المعنى، فهي لا تستند إلى تقاليد في إدارة الكيان السياسي للمجتمعات، ولا إلى تراث ثقافي وتقاليد عريقة تتجسد فيها الدولة، لقد سقطت الدولة في براثن الأنظمة، وأصبحت تابعة النظام، بدلًا من أن يتبع النظام لها، ومن هنا لم ينشأ منظرو دولة محافظون، ولا مثقفون ثوريون حقيقيون، بل منظرو أمة، في مقابل منظري أنظمة، يناصبون الديموقراطية العداء، كل من منطلقه (ص 125).
تنظير دون ثورة = موت إمكانية الثورة
استمر التنظير الثوري – في مرحلة ما قبل الثورات العربية- دون ثورة، ففقد مكانته لدى الرأي العام وفي الشارع، حتى أصبح لفظ ثورة مثيرًا للسخرية، ولم تفقد كلمة ثورة بريقها فحسب، بل فقدت مضمونها وأصبحت مفردة ميتة في خزانة اللغة الحزبية (ص 128)، لكن قيام الثورة الإيرانية، عمّق عملية التحول نحو الثورة، ونشوء جيل جديد من المثقفين بالمعنى الحديث، أعطى إمكانية لبعث الثورة من جديد (ص 128).
مصر: ثورة دون تغيير النظام
هنا يحاول بشارة، تطبيق فهمه للثورة ورؤيته لعملية التحول الديموقراطي، ودور الثقافة الديموقراطية، مؤسسات الدولة، المثقفين، الأحزاب، النخب، الإعلام، العامل الخارجي، وعبرة التاريخ في نجاحها أو فشلها، من خلال التطبيق على الثورة المصرية في يناير 2011 ومسارها المتعرج حتى يونيو 2013.
يؤكد بشارة أن ثورة يناير بدأت بأجواء ثورية، ووعود بالحرية، العيش، والعدالة الاجتماعية، تشبه وعود الخلاص، ولكن بجهاز الدولة ذاته، ومجلس عسكري يديرها في مرحلة انتقالية وتنظيمات حزبية لم تصنع الثورة، واعترض عليها بعضها (ص 174-178).
فلم تغير ثورة يناير نظام الحكم، وبما أنها لم تكن ثورة منظمة يتبعها تنظيم ثوري يحافظ على مكتسباتها، ويتابع عملية تحقيقها، فقد جرى احتواء قسم كبير من جمهور الثورة وتعددت مصائر قياداتها الشابة.
تحولت حركة الاحتجاج إلى ثورة بحرفية ووضوح لم تشهدهما الثورات عبر التاريخ، إلا في حالة تونس، بفضل توحد فئات الشعب وإقدام الشباب، لكن كان جهاز الدولة بأكمله ضدها، ووقف الجيش منتظرًا نتائج المشهد.
تفرق الثوار، من دون إقامة تنظيم لهم، ولم تفهم القوى السياسية أن تحديد شكل نظام الحكم يجب أن يتم بمشاركتها جميعًا، بالشراكة الكاملة مع الثوار وليس مع النظام، وأن الوحدة الوطنية هي فرض الوقت في مواجهة بقايا النظام بعد سقوط رأسه، لفرض تسوية تاريخية على النظام بما في ذلك الجيش، بحيث يقبل بمبادئ الحكم الجديد قبل الانتخابات.
إذ لا يمكن قيام تنافس انتخابي لا يضبطه سقف يتألف من هذا النوع من المهمات المشتركة، ولا يقف على قاعدة مشتركة هي مبادئ النظام الجديد، فالتنافس الانتخابي بين قوى المعارضة كمعركة رئيسية، بدلًا من اعتبار تغيير النظام القديم المعركة الرئيسية، كان كفيلًا بشرعنة تحالف كل طرف مع أجهزة النظام السابق وفلوله ضد الطرف الآخر، لتبدأ رحلة الفشل للثورة.
الخروج على الشرعية القائمة، يتم طلبًا لتحقيق حق ما عاد تحقيقه ممكنًا في النظام القائم، أو لدفع ظلم ما عاد دفعه ممكنًا ضمن هذا النظام، وبالأدوات التي يتيحها
وبدلًا من إصلاح أجهزة الدولة لتناسب مطالب الثورة – وعلى رأسها قوى الأمن الداخلي والقضاء – تفرغ شركاء الثورة للخصام والتعارك، وذهب الجميع لانتخابات على أسس النظام القديم طمعًا في وراثته كما هو، لتبدأ عملية تنازع الشرعية بين شرعية الشعب مع شرعية الشارع، التي استغلتها القوى المضادة للثورة داخل الدولة.
فحول الإخوان الثورة لحكم لهم دون مراعاة مخاوف الناس، واستفرادهم في الحكم من دون خبرة، مع تجند عوامل الثورة المضادة في الإقليم كله لمساعدة جهاز الدولة وفلول مبارك لإفشال التجربة الديموقراطية، وتجهيز الشارع لهذا الدور سواء بدافع الضرر من حكم الإخوان أو سوء نية كالمتضررين من الثورة، ليقوم الجيش بالانقلاب مستظلًا بذلك مع دعم الإعلام ومال الخليج، والظهير الشعبي الكبير الذي سئم المرحلة الانتقالية التي لا تنتهي.
يونيو، حركة، لا ثورة
لا نقاش – كما يقول بشارة – في أن تحرك 30 يونيو كان حركة احتجاجية واسعة، تدعو إلى تقديم موعد الانتخابات وتنحي الرئيس، ولكن ذلك لم يجر ضد النظام القائم ولا ضد أجهزة الدولة، بل بمشاركة أغلبية جهاز الدولة في الحشد والتنظيم والتوقيع ضد رئيس الدولة المنتخب، وبيانات الجيش كانت دعوة للتظاهر في نظام حكم أنجزت الثورة إمكانية تغيير رئيسه وبرلمانه بالانتخابات (ص 162-165).
فحركة 30 يونيو – بمنطوق خطابها الحرفي – حركة احتجاجية واسعة وشرعية، وربما فاقت أعداد المشاركين فيها أعداد المشاركين في يناير، لكنها تعد غطاء شرعيًا لانقلاب من شرعية الشعب لشرعية الشارع، وهي ثورة مضادة لأنها كانت بمساندة بقايا النظام القديم وأجهزة الدولة المعادية للثورة (ص 189-190).
إسلاميون وشموليون
يرى بشارة أن الإخوان حزب من عشرينات القرن الماضي، وهي مرحلة انتشار الأحزاب الشمولية، ويشبه في تركيبته الأحزاب الشيوعية، فهو حزب مركزي شمولي يتوقع من أعضائه تكريس أنفسهم على نحو كامل للحزب، بمقاربته للدنيا يتطابق مع خدمة الدين أيضًا، ومع انتقال حركة الإخوان من “محنة” إلى أخرى، تحول التنظيم إلى ما يشبه الفرقة الدينية، ولا سيما في الثقافة السياسية والشعور بالاضطهاد (ص 178).
والإخوان جماعة منغلقة قيميًا وتنظيميًا ومنفتحة في العمل الجماهيري، وتقولب التنظيم وتحول إلى حالة اجتماعية عميقة متوارثة، لها رموز وتراث وحكايات تتناقل من جيل إلى آخر، كما يتوارث الناس الانتماء الطائفي، وكان هم الحزب الأساس التوصل إلى تحديد موعد للانتخابات، وحين اختلف مع العسكر واتفق – وتلك قصتان طويلتان – كان نصب عينيه الوصول للانتخابات لكي يحكم، وقرروا حكم الدولة المصرية وحدهم في أخطر مرحلة في تاريخها، تفسر العصبية التنظيمية، لا الدينية، الكثير من ممارسات الإخوان المسلمين (ص 187-182).
نخب معايدة للديموقراطية في ثياب ليبرالية وعلمانية
يتحدث بشارة – بأسى وأسف شديدين – معبرًا عن خيبته في النخب العلمانية المتدثرة بالديلليبرالية زورًا “أن هذه النخب المناهضة للتحول الديموقراطي على مستوى المنطقة,، أو داخل كل دولة، فضلت تعبئة الناس ضد الخصم لإفشاله على الحوار معه، أو الاكتفاء بمعارضته سياسيًا، وتجهيل الناس بدلًا من تنويرهم، ومخاطبة غرائزهم بدلًا من عقولهم، استخدام الكذب إذا لزم لتجنيد الناس ضد التحول الديموقراطي، فمن يتحمل المسؤولية في هذه الحالة؟ ضعف ثقافة الجمهور الديموقراطية، أم ثقافة النخب المعادية للديموقراطية؟ (ص 142).
كل هؤلاء أعداء للثورة والحرية والكرامة
الإخوان المسلمون ليسوا من القوى الديموقراطية، ولا العسكر بالتأكيد، ولا المراهنين على العسكر من صغار السياسيين (ص 192).
عندما تصير الثورة خطرًا على الدولة
ثمة خطورة كامنة في الثورات، في الدول التي منع فيها الاستبداد تطور مواطنة ديموقراطية، واندماج على أساسها بين أتباع الهويات الطائفية، والإثنية المختلفة، وجعل الوحدة هي الاستبداد المفروض من أعلى، بحيث يخير المجتمع بين الاستبداد والتفكك (ص 13).
يفضل المؤلف، في هذه الحالة، الإصلاح المتدرج على الثورة، وكذلك في حالة رفض النظام أي إصلاح وإصراره على البدائل: إما أنا كما أنا، وإما الطوفان، فلا بد من أن يكون للثورة خطاب ديموقراطي، وإلا سوف تلعب على ملعب بدائل النظام، وتصبح مساوية لخيار التفكك (ص 13).
فثورة تقوم على تجييش طائفي، أو هوياتي بشكل عام، ستفشل المجتمع وتسقط الدولة (ص 95)، فقد ثبت في حالة الثورات العربية، أن من الصعب الاستيلاء على الحكم من دون انشقاق الطبقة الحاكمة، وانضمام الجيش أو قسم منه على الأقل إلى الثوار، وحيث لم يحدث ذلك، ظلت السلطة قلعة حصينة عصية على الاختراق، مهما غادرها بعض موظفيها ومسؤوليها، وأدى ذلك إلى تحول الثورة إلى حركة مسلحة والاستعانة بالتدخل الخارجي كما في حالة ليبيا، كما ثبت أيضًا، أن الموقف الذي يقدس الثورة بما هي فعل هدم، قد يقود إلى الفوضى وإلى ارتكاب جرائم (ص 124).
عبرة التاريخ:
يرتكز المؤلف في تحليله للثورة عمومًا، وللثورات العربية خصوصًا، إلى تحليل متعمق للثورتين الفرنسية والروسية، ولحركة الإصلاح في أوروبا وللثورات الحديثة عمومًا.
فقد كانت الثورة الفرنسية كما يقول بشارة ثورة وطنية لا ثورة ديموقراطية فحسب، وليس ذلك مصادفة، فهناك تقاليد راسخة للدولة، كما أن ظهور الجمهور/ الحشد/ الفقراء في الثورة الفرنسية، الذين خرجوا فجأة إلى المجال العام، وحولوا الثورة الفرنسية إلى ثورة، وجعلوا نهاية الثورة محتومة، وأنتجوا – في الأصل – مفهوم الثورة بالمعنى الحديث (ص 59)، كما أن وجود المثقف الثوري والمحافظ، وتوفر تقاليد وطنية راسخة للدولة، جعل مسار الثورة رغم تعرجاته يصل إلى نقطة انتهائه الصحيحة.
الإخوان المسلمون ليسوا من القوى الديموقراطية، ولا العسكر بالتأكيد، ولا المراهنين على العسكر من صغار السياسيين
ويؤكد بشارة أن الثورات الشعبية ليست ثورات أحزاب أيديولوجية تسعى إلى الحكم، فالتاريخ لا يذكر ثورة شعبية، أو نجحت في أن تكون شعبية، على أساس تحقيق برنامج قائم مسبقًا على أيديولوجيا سياسية فكرية وحركية معلنة – حتى في الثورات التي انتهت لأنظمة ذات أيديولوجيا -، بل إن هذا التحول احتاج إلى سنوات مثلما حدث في كوبا، ففي أثناء الثورات تحرص الأحزاب الأيديولوجية على توكيد برنامج حد أدنى يجمع فئات واسعة من الشعب وتؤجل وتخفي برامجها الخاصة لمرحلة التمكن من السلطة (ص 89-91).
كما أن الثورة إذا كانت شاملة، يقودها حزب ببرنامج شامل ومفصل، فإنها غالبًا ما تستبدل استبداد باستبداد، وتفرض هندسة اجتماعية كلية جديدة، نابعة من عقائدها على أحواز المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتحتل الحيز العام بأسلحة هيمنية جديدة، ومؤسسسة تعيد إنتاج الاستبدادية القديمة بإهاب جديد، وما فعله لينين مازال ماثلاً في التاريخ ( ص 94).
وفي حين اعتبر ماركس، ثورة الفقراء ثورة سياسية من أجل الحرية، ورأى أن الثورة الفرنسية لم تحقق أهدافها، لأنها لم تحل مشكلة الفقر، فإن لينين لم يبق من النظرة الماركسية للحرية سوى بُعد القضاء على الفقر الذي انتهى لإفشال عملية التحرر من الفقر ذاتها (ص 60).
وعبرة التاريخ أيضًا تؤكد أن قوة أي حزب يتصدى لقيادة ثورة لا تقاس بعدد أعضائه فحسب، بل بحجم القطاعات الاجتماعية التي تدعمه، ولم يحكم حزب من دون أن يكسب إلى صفه أغلبية الطبقة الوسطى والأغلبية المدينية، وخصوصا إذا كان جهاز الدولة ضده، وينبهنا التاريخ، أن ثمة أوساط اجتماعية تفوق أهميتها في الحكم أهميتها العددية، ولكن يصعب أن يفهم ذلك حزب أمضى حياته السياسية الطويلة في المعارضة (ص 184-186).
كما أن احترام مبادئ الديموقراطية المقرة دستوريًا، وتفضيل الشراكة في المراحل الانتقالية على الانفراد بالحكم لحين استقرار التحول الديموقراطي، وتعميق الثقافة السياسية للقواعد الشعبية حتى لا تكون قابلة للتعبئة ضد مبادئ الديموقراطية، وخاصة في مجتمعات لم تتمرس بالعمل الديموقراطي، ولم تتشرب قيمه، أو تنشأ عليها، فتحمل المسؤولية عن التحول الديموقراطي كعملية بناء، هي ذاتها مسؤولية وطنية، تقع على عاتق من يتصدرون المشهد الثوري في لحظات الانتقال والتحول.
ومن البديهي، كذلك، أن يتنبه الثوار لشبهة التواطؤ مع أجانب، فهي التهمة الجاهزة من أعداء الثورة (التعاون مع الأجنبي) التي أدت إلى إنزال العقوبة القصوى بالملك الفرنسي (ص 62-63).
والانقسام إلى هويات متضاربة، “نحن” “هم”، يؤدي لاستيراد جدلية العدو والصديق إلى داخل الكيان السياسي، فما يصح لـ “نحن” لا يصح لـ “هم”، فعلاقة نحن وهم تؤسس لمعايير مختلفة، وتتسق مع إنتاج جماعة عصبوية، وهي تعوق التعددية السياسية في الإطار ذاته، فانقسام المواطنين خلال عملية التحول الديموقراطي إلى نحن وهم، وتحريض القوى السياسية ضد بعضها البعض، وتعبئة الإعلام على ذلك، تنذر بخطر محدق بالديموقراطية ذاتها، كما أن الانقسام الديني العلماني يفرض على المجتمع هويات غير قائمة، ويصنع هويات لتبرير تحويل التنافس إلى عداء، وخطورة استخدام الدين في السياسة ضد الخصوم لتبرير القتل بالذات (ص 144-148)
ليخلص المؤلف من هذا كله، إلى أنه من الأهمية بمكان أن يستفيد الديموقراطيون العرب من هذه التجارب لإدراك عمق وخطورة مراحل الانتقال، وضرورة تجنب كل عوامل الفشل عند بناء الدولة الوطنية الديموقراطية، بعد الثورة.
نموذج ثوري جديد لم يكتمل
قدمت الثورات العربية نموذجًا جديدًا لما يكتمل، وهو ينقض محاولات بحثية لتحديد مواصفات الأوضاع المؤدية للثورة، فليست القضية وجود تناقض بين الحاكمين والمحكومين، لأن التناقض قائم دائمًا في مثل هذه الأنظم، بل السؤال هو: كيف يصل التناقض إلى درجة لا يمكن بعدها حله في إطار النظام القائم؟ وكيف يعي الناس ذلك؟ وهذه ليست قضايا نظرية يمكن صوغ معادلة نظرية لحلها، بقدر ما هي واقع تاريخي يختلف من وإلى آخر، وليس ثمة مكان هنا لصوغ نظرية شاملة في الثورة، ولنلاحظ ما يقال عن الشعب قبل وبعد الثورة ودور العنصر الثقافي في بلدان الثورات العربية (ص 72-73).
أيديوجيات مختلفة والمرض واحد
يعدد بشارة – في كتابه – أمراض الحركات الأيدلوجية العربية التي أجهضت فعل الثورة، والتي يمكن إجمال معظمها في:
1- الحركات الأيديولوجية العربية لديها قدرة على صوغ شعارات تعبوية في معارضة الخصوم، ولا تطرح حلولاً للمشكلات التي تعانيها الدولة والمجتمع، فكل الشعارات على الرغم من الفروقات بينها فضفاضة، لكنها لا تعني الكثير على أرض الواقع.
2- كما أن هذه الحركات – كلها – لم تمارس تواصلاً في الفضاء العمومي، أي عبر الممارسة السياسية للخطاب، لأن الاستبداد لم يتح لها الفرصة، وظلت مراجعاتها سطحية وأثبت الواقع أنها نظرية وهشة.
3 – كل هذه الحركات الأيدلوجية يسهل عليها أن تكون معارضة للديكتاتوريات، لكن يصعب عليها أن توجد بدائل لها.
4 – ليس في الأحزاب الأيديولوجية العربية من يمكنه الادعاء أنه أكثر ديموقراطية أو ليبرالية من الآخر، فحين لا يتمكن فصيل منهم من الحكم وحده، يكون مستعدًا للتحالف مع جهاز الدولة القديم، لإلحاق الهزيمة بالطرف الآخر.
5 – لا يحترم كل فرقاء السياسة العرب، مبادئ الديموقراطية المقرة دستوريًا، ولا يفضلون الشراكة في المراحل الانتقالية على الانفراد بالحكم لحين استقرار التحول الديموقراطي، حتى لو كان الثمن إجهاض الثورة، والتجربة الديموقراطية ذاتها.
6 – الكل اعتبر الثورة فرصة للوصول للحكم، وليس فرصة لبناء الديموقراطية.
7 – الكل لم يتورع عن تعبئة المجتمعات ضد المبادئ الديموقراطية، واستخدموا – كلهم – التجهيل ذخيرة ضد خصومهم، بدلاً من تحمل المسؤولية عن التحول الديموقراطي كعملية بناء، هي ذاتها مسؤولية وطنية.
8 – كلهم خطابهم التشهيري الإقصائي المتخلف هو نفسه، نتاج الاستبداد.
9 – كلهم يستندون إلى الموروث الحضاري في استبدادهم، دينيًا كان أو علمانيًا، ويستخدم الأدوات الحديثة نفسها في الحكم في الوقت ذاته.
10– كلهم بمجرد شعورهم بالقوة في مقابل خصومهم السياسيين، يتسرعون في طرح قضاياهم ومواقفهم الأيديولوجية للحسم، قبل أن تترسخ قواعد النظام الديموقراطي.
11 – لا تجد مكانًا للمثقف المحافظ – كما عرفه بيرك – بين صفوفهم جميعًا، ولا للمثقف الثوري كما أوضحه بشارة.
أين نحن الآن؟
يبدو أن المرحلة ما بين 1830-1848 في أوروبا، هي أكثر الحقب شبهًا بالحقبة العربية حاليًا، من ناحية انتشار فكرة الثورة، وحرص الحكومات القائمة على اتخاذ الخطوات الاحترازية لإحباطها، ونشوء محور رجعي ضد الثورة، وكذلك من ناحية تحول الثورة وانتشار فكرة الديموقراطية في إطار الدولة الوطنية إلى سيرورة تتضمن صعودًا وهبوطًا وأزمات وغيرها.
وفي القرن التاسع عشر – أيضًا – كثير من الحالات الأوروبية، كان الدستور الديموقراطي يتحقق في دولة بعد فشل الثورة فيها، أي بعد فشلها في إسقاط النظام (ص 73-74)، وواجه العديد من الثورات، ثورات مضادة من القوى القديمة التي استعادت نفوذها (أحيانًا بواسطة التدخل الأجنبي كما الثورة الفرنسية).
نوعان من المراحل الانتقالية وما من نظرية
يصعب الحديث عن نظرية تاريخية خاصة بالمراحل الانتقالية عمومًا، بل يستحيل ذلك، فما يقال عن المراحل الانتقالية يمكن قوله عن المراحل غير الانتقالية، لا يوجد انتقال مجرد، أو انتقال بذاته، من دون تحديد انتقال ماذا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ هذا ما يحدد طبيعة مرحلة الانتقال وطبيعة المنهج الذي يلزم دراسته كمتغير مؤثر له نتائج اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو غيره وعلاقة هذا المنهج بالمنظور الذي يتموضع فيه من يحدد المراحل الانتقالية.
محاولة للدخول للتاريخ من جديد: قضايا الثورة الملحة
في رأي المؤلف أن الثورات العربية، سوف تساهم في بلورة الهوية الوطنية التي لم تحظ بشرعية كافية حتى الآن في الكيانات التي اعتبرت دولاً قطرية، حيثما تنجح في بناء المؤسسات الديموقراطية على أساس المواطنة، التي لن تحصل على حساب القومية العربية، بل سيتغير مفهومها إلى هوية ثقافية، وشراكة وجدانية، ومصالح سياسية واقتصادية تكمل الهوية الوطنية.
لكن المشكلة ستكون عندما تفشل الثورة في تحويل التوق إلى الحرية إلى ديموقراطية، فقد تنهار الكيانات الوطنية، ولا سيما إذا كانت الدولة متعددة الهويات مثل العراق وما ينتظر سوريا (ص 12-13).
يبدو أن المرحلة ما بين 1830-1848 في أوروبا، هي أكثر الحقب شبهًا بالحقبة العربية حاليًا، من ناحية انتشار فكرة الثورة، وحرص الحكومات القائمة على اتخاذ الخطوات الاحترازية لإحباطها، ونشوء محور رجعي ضد الثورة، وكذلك من ناحية تحول الثورة وانتشار فكرة الديموقراطية في إطار الدولة الوطنية إلى سيرورة تتضمن صعودًا وهبوطًا وأزمات وغيرها.
فأمور كثيرة يمكن أن تتغير عبر الزمن، وتضبطها الدساتير المكتوبة وغير المكتوبة، ولكن بعضها إذا لم يأخذ من البداية منحى صحيحًا، فإن التطور ومرور الزمن قد يغيرانه للأسوأ، لأن المسار قد انحرف عن الوجهة التي تقود إلى الهدف منذ لحظة الانطلاق، وهو يبتعد عنه كلما تقدم منه (ص 154).
وتكمن المهمة الحقيقية بعد الثورة في صوغ البدائل للوضع القائم وأسئلة ما بعد الاستبداد، والعدالة الاجتماعية والفقر والتنمية، وقواعد المؤسسات الديموقراطية، هي الأسئلة المهمة بعد الثورات العفوية (ص 135).
ومن ثم لا بد من وجود خطة وبرنامج تتفق عليهما أوسع قوى سياسية ممكنة لضبط عملية التحول الديموقراطي وتوجيهها، فللثورة الديموقراطية قواعد وأصول تميزها عن الثورات الأخرى، وهي أنها تصل إلى هدفها ليس مباشرة، بل عبر عملية تحول ديموقراطي، وهدف الديموقراطية واضح، لا يجوز البدء من الصفر، فهنالك حد أدنى أصبح معروفًا لتحديد إن كان النظام ديموقراطيًا، لكن السؤال الكبير هو عن: كيفية التحول الديموقراطي؟ وهنا تبرز خصوصية كل بلد، وهنا يصح الإبداع، فهناك علاقة مباشرة للثورة وخصوصيتها بعملية التحول الديموقراطي (ص 95).
ومن هنا أيضًا يكون فهم الموروث الحضاري ضروري للمتدينين والعلمانيين على حد سواء، لأنه يؤثر فيهم جميعًا سلبًا وإيجابًا، ولا يقصد المؤلف بـ “سلبًا” التأثير السلبي فحسب، وإنما الانفعال وردة الفعل السلبية، ولا يقصد بـ “ايجابًا” التأثير الإيجابي فحسب، وإنما أيضًا الانفعال المستقبل الموجب الذي يغير في التراث ويعيد تفسيره.
فالتراث ليس تراثًا إلا في الحاضر، وأما في سياقه التاريخي فهو ليس تراثًا، بل هو حاضر في زمانه، التراث تراث في ضوء الحاضر، وفي ضوء فهم المعاصرين واستدعائهم له فحسب، وهذا الحضور والفهم معا يغيرانه تغييرًا جذريًا عما كان عليه في الأصل، إذ يقرأ ويفهم في سياق تاريخي مختلف عن سياقه، وبمصطلحات لم تكن قائمة، ويضفي عليه إسقاطات وتأويلات ورغبات معاصرة، فهو إذا ذاته حين لا يكون تراثًا، وهو تراث حين لا يكون ذاته (ص 141-142).
وتجربة الأعوام الماضية تؤكد أن ثقافة المجتمعات السياسية لم تكن عنصرًا فاعلاً في إعاقة التحول الديموقراطي، بقدر ما كانت عنصرًا منفعلاً، تحتاج من يرفع وعيها لا من يستغلها، وهو الأمر الذي يستدعي ضرورة الانشغال بالثقافة السياسية للتيارات والأحزاب السياسية القائمة كلها، وفعل هذه الثقافة في قواعدها الجماهيرية، ومراجعة الثقافة السياسية لهم جميعًا.
وهذه المرحلة تتطلب من المثقف الديموقراطي موقفًا منحازًا إلى الديموقراطية والمواطنة بغرض ترسيخ مبادئها قبل الانحياز إلى حزب من الأحزاب ولا سيما حين يحتدم التنافس الحزبي قبل الاتفاق على مبادئ الديموقراطية والالتزام بها إلى درجة تغييب الوعي بأن المرحلة الانتقالية إلى الديموقراطية هي مهمة وطنية تجتمع عليها قوى سياسية عديدة، وليست مهمة طرف وحده، أو حزب بعينه (ص 136).
ومن ضمن هذه القضايا: الإطار المرجعي للأمة والمواطنة هو الدولة الوطنية، أمة المواطنين، وتمييز الحدود بين العام والخاص، فليس هدف حركة سياسية ديموقراطية، تربية الأبناء بدلاً من أهلهم، ولا يفترض أن تتدخل في العلاقات الأسرية، ولا في مأكل الناس ومشربهم وملبسهم في مجالهم الخاص، وهو مجال متوسع باستمرار ويرتبط بالعلاقة الوثيقة بين حرية الاختيار والأخلاق والإيمان، وإذا قلنا مواطن، فقد أقررنا بوجود مجال خاص للفرد، مرتبط بجسده ونفسه، وبحرية خياراته الأخلاقية طالما لم تتعارض مع حرية الآخرين وحقوقهم (ص 154-156).
ثم علينا أن نبحث في العوائق الرئيسة أمام التحول الديموقراطي التي شخصت قبل الثورات في: أجهزة الدولة البيروقراطية وفسادها، وفي مقدمتها جهاز الأمن، وتفاعلها مع الريوع النفطية، وغير النفطية الفاعلة سياسًيا وثقافيًا على مستوى الإقليم بصيغة تعاضد الدول والقوى الاجتماعية الرجعية المعادية للتحول الديموقراطي، وكيف تقود التحولات الراهنة لتحول يشمل البعدين الليبرالي والاجتماعي، كما يشمل الضمانات الاجتماعية اللازمة على مستوى السياسات الاجتماعية والتنمية البشرية (ص 142-144).
ويجب أن نضع في الحسبان متلازمة الجزائر، ومتلازمة مصر الأبعد أثرًا، وما لها من إسقاطات على المنطقة كلها، والانحراف بمسار التحول الديموقراطي إلى وجهات نظر أخرى لا تزال مجهولة، لأن الدينامية الناجمة عن الانقلاب العسكري من فعل وردات فعل لا تزال غير واضحة الملامح تمامًا (ص 150).
سلطان البدايات
لنتفق أو نختلف مع عزمي بشارة في رؤيته للثورة مفهومًا وواقعًا، ولنتفق أو نختلف معه في توصيف أوضاع الثورة المصرية تحديدًا، لكننا لن تختلف على أن نصه ثوري بامتياز، يأتي من قلب المعاناة، ومن رحم التجربة التي أصقلها البحث، ومحصتها السنوات الطوال في البحث عن عالم عربي جديد ينعم بالحرية والكرامة.
ولا يسعنا في خاتمة قراءتنا لنصه الهام سوى أن نقول معه “إن الديموقراطية كما نعرفها اليوم لم تقم من خلال ثورات، وإنما من خلال عملية إصلاح طويلة، وأحيانًا بدأ التحول ذاته من دون ثورة، بل من أعلى، وتخللت حالات الإصلاح انتفاضات عنيفة تبعتها إصلاحات ديموقراطية، وقلما بنيت الديموقراطية دفعة واحدة من خلال عمل ثوري واحد، أو من خلال ثورة أمسك في إثرها الديموقراطيون بالسلطة بفعل انقلابي (ص 88-89).
فقد نشأت الديموقراطية الحديثة بالتدريج، وليس من خلال فعل ثوري واحد، وتبلور معها أيضًا وعي الأمة بسيادتها كأمة عبر حقوق المواطنين، وقد رافق ذلك صعود ترسيخ الشعور القومي، ونشر اللغة القومية، وتهميش اللغات واللهجات المحلية، وتوحيد نظم التعليم والإدارة، والقضاء على الاستقلال الإقليمي والمحلي للأسقفيات، ونسف الهيئات الوصائية التقليدية إقطاعية الطابع، وتعميم التجنيد الإلزامي والنشيد الوطني.
وعندما تتحقق هذه الأمور في بلادنا العربية عبر نخب جديدة، ومؤسسات ديموقراطية، وشعوب واعية، وثقافة إيجابية، واستقلال حقيقي للقرار السياسي، واحترام لكرامة الإنسان العربي ولصوته واختياره، وتنمو العملية الديموقراطية بهدوء وثقة في بيائتنا العربية وتترسخ، وتبدأ الديموقراطية بإعادة إنتاج ذاتها، ساعتها فقط، ستنتهي أزمتنا مع الاستبداد والفساد.
فعندما توجد أشكال منظمة من التعبير عن الشعب والإرادة العامة، وتترسخ مبادئ مشتركة، تمثل إجماعًا على القيم التي يجب أن تخدمها القوانين، والتي يجب أن يقوم عليها الدستور، ويعبر عنها (ص 64-65)، سيتحقق للثورات حلمها، وينعم إنساننا العربي بدولته المرغوبة، وحريته المسلوبة، وأقواته المنهوبة، وسيادته المستباحة.