لا تُعتبر خطوة تعيين زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” (أو “إسرائيل بيتينو” بالعبرية)، أفيجدور ليبرمان، ذلك القومي المتطرف، في منصب وزير الدفاع في إسرائيل، من جانب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، خطوة داخلية معزولة عن العديد من التطورات الحاصلة على المستوى الإقليمي، وخصوصًا على الجبهة المصرية.
ويمكن القول بكل اطمئنان، أن الخطوة تُعتبر ردًّا مباشرًا على الدعوة التي وجهها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي من أسيوط، قبل نحو أسبوعين، لنتنياهو، للعودة إلى مفاوضات السلام مع إسرائيل، وضم جبهة اليسار المعارضة، إلى الحكومة الإسرائيلية.
أما لماذا قام نتنياهو بهذه الخطوة، فإن لهذا قصة طويلة، نرويها في هذا الموضع.
إلا أنه قبل أن تتم رواية هذه القصة، ينبغي التأكيد على أنه من أهم عوامل النجاح في البيئة السياسية، سواء على مستوى التحليل أو مستوى الممارسة السياسية نفسها، هو التجرُّد الموضوعي، الذي لا يمنعنا من تقييم الأمور والأحداث وفق صيروراتها الحقيقية على أرض الواقع، من دون أية تحيزات، أو أن يطغى القيمي على الموضوعي.
نقول ذلك، باعتبار أن تعيين نتنياهو لليبرمان، يرتبط باستراتيجية معينة يتبناها النظام المصري الحالي تجاه إسرائيل، قادت نتنياهو إلى تبني هذه الخطوة، بالرغم من مختلف الانتقادات التي تعرض لها، والتي وصلت إلى حد أن قال الإعلام الإسرائيلي، إنها قد تقود إلى حرب أهلية في إسرائيل! [شاؤول أريئيلي: استمرار الوضع الراهن سيقود إسرائيل إلى «حرب أهلية»، الهآرتس، 24 مايو]
ويرتبط ذلك بحرب شديدة الخصومة تتم من تحت سطح شاشات الإعلام، والقنوات الدبلوماسية المعلنة، بين الجانبَيْن المصري والإسرائيلي، ترتبط بدورها بقضية اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، الذي اعترفت فيه مصر، بسعودية جزيرتَيْ “تيران” و”صنافير”، والتي تتعلق كذلك بدورها، بأزمة قوات حفظ السلام الأمريكية الأخيرة في شمال سيناء، ومستقبل سيناء برمتها.
تداعيات الحدث!
نبدأ مع تداعيات الحدث على الحكومة الإسرائيلية، وهي نظرة مهمة أولاً لكي نفهم خطورة قرار نتنياهو، والذي أقدم عليه بالرغم من ذلك.
بداية، لا تُعتبر استقالة وزير البيئة، آفي جاباي (حزب كلنا “كولانا بالعبرية”) استثناءً لحالة واسعة من الاحتقان داخل إسرائيل إزاء تعيين ليبرمان في هذا المنصب محل قيادة محترفة مثل الجنرال موشيه يعالون، الذي حقق – بلا شك – “إنجازات” لإسرائيل في السنوات التي تولى فيها المنصب، ومن أهمها تحقيق تنسيق نادر من نوعه فيما بين الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية المتنافسة في الغالب، مع جهاز الأمن العام (الشاباك) العامل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، في محاصرة هبة أو انتفاضة القدس الحالية، التي اندلعت في مطلع أكتوبر الماضي.
كما يُحسب ليعالون كقيادة عسكرية محترفة، أنه حقق حالة من الاستقرار على الحدود الإسرائيلية، في ظل اشتعال الأوضاع في سوريا، وانفلات الحدود بين سوريا وفلسطين المحتلة من قبضة الحليف الخفي أو العدو الوفي، لإسرائيل، وهو النظام السوري، لتقع في قبضة تنظيمات تابعة للسلفية الجهادية.
هذا الكلام يعني كفاءته العسكرية، فهو في النهاية، أحد أكابر مجرمي المشروع الصهيوني، ومسؤول عن آلاف الأرواح التي أزهقها جيش الاحتلال في غزة والضفة، طيلة السنوات الماضية.
ويعلق يوفال ديكسين، رئيس “الشاباك” الأسبق، في اليديعوت أحرونوت، يوم 21 مايو، على قرار تعيين ليبرمان وزيرًا للدفاع، بعبارة لافتة للغاية، وهي: “ليبرمان وزيرًا للدفاع: نهاية البداية أم بداية النهاية؟” بالنسبة لإسرائيل!
ويقول في مقاله هذا: “إذا كنا نعتقد في دولة إسرائيل التي تبلغ 68 سنة، أن الجهاز الأمني يتصرف بشكل سليم، فإنه منذ الآن سيُقاد من قِبَل رئيس الحكومة الذي لا يملك الخبرة العسكرية والأمنية، ومن قِبَل وزير دفاع لا يملك التجربة الكافية، وأنا أتساءل بيني وبين نفسي: هل هذه نهاية البداية أم هي بداية النهاية”.
ولا تقتصر مخاطر القرار على الجانب الأمني الاستراتيجي لإسرائيل فحسب، حيث إن بعض المعلقين الإسرائيليين علقوا على القرار بأنه يحمل مخاطر على مستقبل نتنياهو السياسي ذاته؛ حيث يقول أودي سيجل، في مقال له في صحيفة المعاريف اليمينية (!!) بعنوان: “ليبرمان سيكنس نتنياهو من طريقه إلى رئاسة الوزراء”.
وعبَّر الكاتب الإسرائيلي في مقاله هذا، عن أن طموح ليبرمان لن يقف عند أهم منصب في الدولة العبرية عبر تاريخها، وإنما سوف يتطور إلى حيث يجلس على مقعد رئاسة الحكومة، محل نتنياهو.
وبالرغم من أن هذا الاحتمال مستبعد، حيث يستند نتنياهو إلى عدد مقاعد حزبه “الليكود”، في الكنيست الحالية (30 مقعدًا)، ومن المستبعد أن يحقق حزب ليبرمان “القومي” عددًا مقاربًا أو مساويًا لليكود اليميني “الديني”، في انتخابات الكنيست المقبلة، في 2019م، إلا أنه تبقى في النهاية مخاطرة بالنسبة لنتنياهو أن يقدم على هذه الخطوة.
إذًا، ما الذي دعاه إلى ذلك؟! هنا نأتي إلى العامل الخارجي للموضوع.
ليبرمان اليميني ردًّا على نصيحة السيسي!
لو كان رئيس الحكومة الإسرائيلية قد أقدم على هذه الخطوة، استجابة لـ”المخاطر” المحيطة بالدولة العبرية في الوقت الراهن، على النحو الذي قام به سلفه الراحل ليفي أشكول، خلال أزمة غلق مضيق العقبة، في مايو ويونيو 1967م، عندما عمد إلى تشكيل حكومة ائتلاف موسَّع ضمت خصومه في اليمين، مثل “حيروت” (أبو الليكود الحالي)، وحزب “رافي” الصغير، الذي كان منه موشيه دايَّان في ذلك الحين.
وكانت الخطوة المنطقية التي كان يجب أن يقدِم عليها هي ضم تحالف “المعسكر الصهيوني” المعارِض، الذي يتزعمه رئيس حزب “العمل” (“الماباي” سابقًا، وكان يقوده أشكول)، إسحق هيرتزوج، والذي يمكِّن نتنياهو من ضمان أغلبية مريحة في الكنيست، حيث يمتلك المعسكر الصهيوني 24 مقعدًا، تمثل تحالف “العمل” و”كاديما” الذي تقوده غريمة نتنياهو القديمة، تسيبي ليفني، وبعض أحزاب اليسار الصغيرة مثل “ميرتس” (في مقابل ستة مقاعد فقط يمتلكها “إسرائيل بيتنا” في الكنيست).
وكان لهذه الخطوة التي “نصح” بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في خطابه الشهير في أسيوط قبل نحو أسبوعَيْن، حول السلام الدافئ – ترجمته الصحافة العبرية “السلام الحار” – بين مصر وإسرائيل؛ نتنياهو من شأنها تحرير نتنياهو من أسر حلفائه في أحزاب اليمين الديني والقومي، الذين يبتزونه في حقيقة الأمر في الكثير من الأمور، ولاسيما فيما يتعلق بميزانيات المدارس الدينية، وسياسات التجنيد، وغير ذلك.
إذًا، نتنياهو تجاهل السهل المفيد، ولجأ إلى الصعب محل الضرر، وهنا يثور تساؤل، وهو لماذا؟
تتعلق إجابة هذا التساؤل بمناورة واسعة النطاق يقوم بها النظام السياسي المصري منذ فترة، تتعلق بعدد من الأمور التي تتصل بملف من أهم ملفات الأمن القومي المصري، وهو الاتصال الجيوسياسي بين مصر وبين شبه جزيرة سيناء.
قد يبدو من خلال فحص الإعلام الإسرائيلي، أن هناك الكثير من العسل في العلاقات المصرية الإسرائيلية، مع دعم كامل من جانب تل أبيب لإسقاط حكم الإخوان المسلمين في مصر، ودعمها حكم السيسي.
إلا أن هذا الحكم يبقى قاصرًا إذا ما أُخذ من ظاهر نصوص الصحف والمصادر الإعلامية الإسرائيلية، التي تُعتبر الرقابة العسكرية أحد أهم محرريها رسميًّا، حيث لا يمر نص في الصحف الإسرائيلية، من دون أن يمر على الرقابة العسكرية، وهذا الأمر بحكم القانون في إسرائيل.
ويمكن القول باطمئنان أن إسرائيل لم تفرح كثيرًا بسقوط حكم الإخوان في مصر، حيث كان الإخوان المسلمون هم أقدر طرف على فرض مخطط إسرائيلي قديم، حاولت الدولة العبرية من خلال كل الأطراف التي لها علاقات متبادلة معها ومع حركة حماس، أن تفرضه، وهو هدنة طويلة الأمد في قطاع غزة لمدة ما بين عشرة إلى ثلاثين عامًا.
المعلومات المتاحة تقول إن تركيا تولت هذه المسألة خلال الأعوام الثلاثة الماضية التي تلت الإطاحة بالدكتور محمد مرسي من رئاسة مصر، وذهب خالد مشعل رئيس القسم السياسي لحركة “حماس”، إلى تركيا أكثر من مرة، للاستماع إلى عروض إسرائيلية في هذا الصدد، نقلتها تركيا.
أنقرة أردوغان، كانت مهتمة بتحقيق ذلك لأكثر من اعتبار، على رأسه إيجاد موطئ قدم لها في قطاع غزة، والحصول على “صك غفران” من أكبر حركة مقاومة في الأراضي الفلسطينية، لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، للخروج من عزلتها المتزايدة الراهنة، ووجود مصالح اقتصادية وعسكرية وأمنية ضخمة لها مع إسرائيل.
من بين هذه المصالح، صادرات الغاز الطبيعي وتقنيات عسكرية لا تملكها تركيا في مجال التجسس والطائرات من دون طيار.
وزاد من ضغط هذه المصالح على تركيا، الأزمة مع روسيا، عقب إسقاط القاذفة الروسية، السوخوي، فوق الأجواء السورية أو التركية بحسب رواية طرفَيْ الحادثة، في نوفمبر الماضي، حيث فقدت تركيا جانبًا مهمًّا من صادرات الغاز الروسية لها.
إلا أن القيادة السياسية لحركة حماس رفضت ذلك بالإطلاق، حتى لو كان الثمن هو رفع الحصار عن قطاع غزة، ومنح القطاع ميناءً بحريًّا، لأن موافقتها من شأنها إفقاد الحركة لمصداقيتها لدى القطاع الجماهيري العريض الداعم لها لتبنيها خيار المقاومة.
كما أن القرار العسكري في الحركة، غير خاضع بالكامل لسيطرة القيادة السياسية في مثل هذه الأمور، حيث إن كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري للحركة، لها قيادة منفصلة عن القيادة السياسية للحركة، وتتحرك فقط بالتنسيق معها، سوى – ربما – في حالة مشعل، الذي يملك القرار السياسي وبعضًا فقط من القرار العسكري للحركة.
شمال سيناء ومخطط توطين الفلسطينيين
منذ سنوات حكم الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، طرحت إسرائيل على مصر مشروعًا شديد الأهمية، تم وضعه في النصف الأول من التسعينات، ضمن مشروع عُرِفَ بمشروع “إسرائيل 2020″، من أجل توسيع نطاق مثلث الحدود بين مصر وقطاع غزة وفلسطين المحتلة عام 1948م، لكي يشمل مثلثًا اقتصاديًّا يمتد إلى الحدود الغربية لمدينة العريش، وجنوبًا حتى منطقة معبر كرم أبو سالم شرقًا، وجبل الحلال غربًا، وهو مثلث الأزمة الأمنية الحالية في شمال سيناء كما هو ملاحَظ.
مشروع “إسرائيل 2020” هذا، وهو موثق في ستة كتب ضخمة، أصدر مركز دراسات الوحدة العربية أربعة منها، بعنوان: “إسرائيل 2020: خطتها التفصيلية لمستقبل الدولة والمجتمع“، بعد حجب كتابَيْن من هذه الكتب التي وضعتها مجموعة تخطيط استراتيجي إسرائيلية، مدنية وأمنية وعسكرية، بسبب تناولها لتصورات الهيئات الاستراتيجية في إسرائيل للجانب الأمني والعسكري الاستراتيجي للدولة حتى العام المشار إليه.
هذا المشروع يتضمن أمورًا أخرى يتم حاليًا التحرك باتجاهها، مثل مشروع رفع منسوب مياه البحر الميت بالتعاون مع الأردن، وهو مشروع شديد الأهمية للصناعات العسكرية الإسرائيلية التي تعتمد على أملاح البحر الميت في تشغيل مجمع صناعي مهم في صحراء النقب يبعد ستين كيلومترًا عن هذه المنطقة، ويستخلص الفوسفات المختلط بشوائب اليورانيوم والمنجيز، من مياه البحر الميت، وكذلك مشروع المنطقة السياحية التي تضمن مناطق في جنوب البحر الميت أيضًا، في الضفة الغربية وفي الجانب الأردني من الحدود، بالتعاون مع الأردنيين والسلطة الفلسطينية.
تضمن هذا المشروع الضخم مجموعة من الخرائط التي تبرز حدود منطقة التجارة الحرة في شمال سيناء وجنوب قطاع غزة، وكانت تريد إسرائيل لها أن تكون نواة لمشروعٍ آخر مهم، وهو توطين اللاجئين الفلسطينيين من خلاله على جزء من أرض شمال سيناء، ويتطابق مع حدود هذه المنطقة التجارية الحرة وفق الخراط الموجودة في هذه الكتب، وأصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، وتحديدًا في المجلد الرابع منها، والذي حمل عنوان: “إسرائيل في محيط يسوده السلام“.
وعندما تولى الدكتور محمد مرسي الحكم في مصر، ظنت إسرائيل بعد إعلان برلمان 2012م، اعترافه باتفاقية السلام الموقعة مع إسرائيل عام 1979م، أنه قد آن الأوان لتحريك ملف منطقة التجارة الحرة هذه.
وبالفعل – التزامن الزمني قائم ولكن لا نجزم بالجانب السياسي للأمر – سعت الحكومة الفلسطينية في قطاع غزة، وكانت تقودها حركة حماس، رسميًّا في 2012م، إلى توقيع اتفاقية لتطوير منطقة جنوب قطاع غزة، وشمال سيناء حتى العريش، وإنشاء منطقة تجارة حرة فيها، ولكن من دون مشاركة الجانب الإسرائيلي بطبيعة الحال، ولكن الجيش لم يوافق عليها.
وأوفدت حركة حماس في أواخر أغسطس من العام 2012م، الدكتور موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي للحركة في ذلك الحين، إلى مكتب الإرشاد، وعقد اجتماعًا في التاسع والعشرين من أغسطس، وكان يوم الاجتماع الأسبوعي لمكتب الإرشاد، وحضر الاجتماع مندوب من الرئاسة، وكان المهندس عصام الحداد، رئيس ديوان رئاسة الجمهورية في ذلك الحين من أجل ممارسة ضغوط على الدكتور مرسي في هذا الصدد، ولكن مرسي رفض، لأن الجيش كان لديه تحفظات على هذا المشروع.
ولذلك لم يتم تنفيذ المشروع الذي تم الاتفاق عليه في شهر سبتمبر التالي.
بعد الانقلاب على مرسي في يوليو 2013م، ووقوع مصر في حالة من الفوضى الأمنية والسياسية التي لا تزال آثارها مستمرة إلى الآن؛ كانت الفرصة مواتية لإسرائيل للتعامل مع ملف الموقف السياسي والأمني في شمال سيناء، وتوجيهه، بدعم كامل من الولايات المتحدة، بما يحقق مشروعها القديم لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في هذه المنطقة.
وهنا تحركت إسرائيل في أكثر من اتجاه، سياسي وأمني.
فأمنيًّا عملت على دعم الفوضى في شمال سيناء، وتم التحرك بأكثر من وسيلة في هذا الصدد، من بينها توظيف بعض أبناء المنطقة، ممكن لديهم سابق تعاون مع إسرائيل خلال سنوات الاحتلال (1967م إلى 1982م)، حيث كانت هذه المنطقة هي آخر ما أخلته إسرائيل بموجب اتفاقية السلام مع مصر، وكذلك شراء ذمم بعض العائلات المعروفة، مثل الفواخرية.
كما شمل ذلك التحرك عناصر منشقة من القسام ليسوا من حركة “حماس” نفسها، وإنما من فصائل من السلفية الجهادية، تم ضمها لأجهزة حماس والحكومة في غزة، الأمنية والعسكرية بعد المواجهات التي وقعت مع “جيش الإسلام” في سبتمبر 2008م لتهدئة الأوضاع في القطاع، وكانت هذه الأسماء محور المحادثات التي جرت في القاهرة قبل عدة أسابيع بين المخابرات العامة المصرية، ووفد “حماس” القيادي الذي زار القاهرة، وترأسه موسى أبو مرزوق.
كل ذلك سعت من خلاله إسرائيل من أجل تنفيذ مخطط إسقاط شمال سيناء في فوضى أمنية تمهد بعد ذلك لخطوات سياسية.
ولأجل أن تدعم إسرائيل ذلك؛ كانت الرقابة العسكرية تعمل على شحن الرأي العام ضد السيسي، وبالتالي ضد المؤسسة العسكرية التي يمثلها السيسي في الحكم، من خلال الحديث عن أن السيسي حليف استراتيجي لإسرائيل، وأنه يتحرك بتنسيق كامل معها في قضايا المنطقة، وأنه يضمن أمن حدودها، وما إلى ذلك، من أجل ضمان أن يستمر الرأي العام المصري في حالة من التذمر ضده.
وللتدقيق المصطلحات والعبارات المستَخدمة، فإن السيسي ليس هو المقصود بحملة التشوية الإسرائيلية المتعمدة هذه – أن تمدح إسرائيل السيسي فهذا يعني تشويهه أمام الرأي العام في مصر – وإنما المقصود هو القوات المسلحة التي يمثل السيسي مشروعها في الرئاسة، كما كان مرسي يمثل الإخوان المسلمين.
على المستوى السياسي، استغلت إسرائيل الحدث الأمني المتصاعد في شمال سيناء، ودفعت الولايات المتحدة إلى أخذ خطوة تالية مهمة في ترتيبات تثبيت الفوضى في شمال سيناء، وهو سحب القوات الأمريكية المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية المرابطة في منطقة الجورة، بحجة الخوف على سلامة وأمن هذه القوات.
وكان الرد المصري حاسمًا، وطلب من الأمريكيين دعم قواتهم في هذه المنطقة بمعدات تأمين جديدة، وعدم سحبها أو إرسالها إلى جنوب سيناء، وإلا فإن ذلك سوف يُعتبر تراجعًا عن رعاية الولايات المتحدة لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وبالتالي إعادة النظر فيها برمتها.
ولذلك قررت الولايات المتحدة يوم 22 مايو، إرسال نحو 375 جنديًا من الحرس الوطني لولاية منيسوتا في شهر أغسطس المقبل، وسوف يبقون في سيناء حتى ربيع العام 2017م.
التحالفات المصرية في عين العاصفة
على الجانب السياسي أخذت مصر سلسلة من التحركات من أجل تحقيق هدفَيْن مرتبطَيْن، بصورة متزامنة، الهدف الأول، هو إفشال هذا المخطط الإسرائيلي، والثاني، كسر البروتوكول العسكري لاتفاقية السلام، الذي تُعتبر ترتيباته هي السبب الأول في الفوضى الأمنية الحالية في شبه جزيرة سيناء، مع إخلائه لثُلُثَي سيناء من أي وجود عسكري مصري فاعل.
وذلك فإن القاهرة تركت الأمور تتفاعل في شمال سيناء جزئيًّا مع منع انتقال هذه الفوضى إلى جنوب سيناء أو إلى وادي النيل، لأجل الحصول على موافقة من إسرائيل على دخول مقاتلات ومدرعات مصرية في هذه المنطقة، التي يمنع البروتوكول العسكري لاتفاقية السلام مصر من إدخال أية قوات مسلحة إلى المنطقة (ج)، والتي تبدأ من خط العريش/ رأس محمد، وحتى الحدود الدولية مع فلسطين التاريخية، وهو ما تم رغم أنف إسرائيل، وبمرارة كبيرة منها.
على المستوى السياسي، كان هناك دور للقاهرة في الإيعاز لفرنسا لطرح مبادرتها لمؤتمر دولي للتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا يحضره الطرفان، على أن يعقبه مؤتمر آخر بين ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكان من المفترض عقد بنهاية مايو الجاري، ولكن فرنسا أعلنت عن تأجيله بسبب رفض نتنياهو.
ويلاحظ هنا التشابه الذي يكاد يصل إلى حد التطابق بين دعوة السيسي إلى مؤتمر يحضره نتنياهو مع رئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايته محمود عباس، مع الطرح الفرنسي.
كان الغرض الرئيسي من هذه الدعوات، هو كشف الموقف السياسي لنتنياهو وإسرائيل، أمام الرأي العام العالمي، ضمن لعبة أمم أوسع، تدخلها فرنسا ضد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وغرب ووسط أفريقيا، ووضع نتنياهو في الزاوية إزاء الموضوع الفلسطيني، الذي بدأ يتفاعل بشدة في الغرب، ووصل إلى مستويات كبيرة من المقاطعة الرسمية والأكاديمية والشعبية للمستوطنات والجامعات العبرية، وغير ذلك.
ولذلك أيضًا يمكن فهم عدم عقد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، لأي مؤتمر صحفي له في القاهرة خلال زياراته الأخيرة، بل ومنع الوفد الإعلامي المرافق له خلال زيارته الأخيرة للقاهرة قبل حوالي عشرة أيام، حيث تصاعد غبار الموقف الأمريكي في موضوع قوات حفظ السلام، على العلاقات بين البلدَيْن، واتهمت القاهرة، واشنطن رسميًّا من خلال دوائر الدبلوماسية السرية، بالسعي إلى إحداث فوضى في مصر.
فكانت صفقة المدرعات الأمريكية الأخيرة، المتطورة القادرة على كشف الألغام لدعم عمليات الجيش في شمال سيناء، وتراجع واشنطن عن موضوع سحب القوة الأمريكية المشاركة في قوات حفظ السلام المرابطة في شمال سيناء.
التحرك المصري لم يقف عند مستوى التحالف بين القاهرة وباريس، حيث امتد كذلك إلى الرياض وأبوظبي، وتمثل في وضع السعودية رسميًّا في قلب مخطط كسر البروتوكول العسكري لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، من خلال اتفاق تيران وصنافير الأخير، والذي أثار حفيظة الأمريكيين، بسبب أنه وضع قوة أخرى، هي من أكبر القوى الإقليمية وأكثرها نفوذًا، في ترتيبات أمن الملاحة في خليج العقبة.
المشكلة الرئيسية بالنسبة للأمريكيين والإسرائيليين في الاتفاق، أنه قد أخرج هذه الجزر الاستراتيجية من البروتوكول العسكري لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، حيث إن نقل السيادة على الجزيرتَيْن للسعودية، يعني أنهما لن تصبحا قانونًا، محل الاتفاق.
ويزيد من عمق المشكلة، مشروع جسر الملك سلمان، الذي من المقرر أن يبدأ من تبوك السعودية، وحتى شرم الشيخ المصرية، مع نقطة ارتكاز في جزيرة “تيران”، وهو أمر ترى فيه إسرائيل، تهديدًا لمصالحها في خليج العقبة، ولذلك رفضت مشروعًا مماثلاً خلال فترة مبارك.
وكان ذلك مثار حوارات مطولة لمسؤولين عسكريين أمريكيين زاروا القاهرة، ولم يخفوا الغضب الأمريكي من هذه الخطوة التي تدمر الترتيبات الأمنية لتفاهمات كامب ديفيد التي سبقت اتفاقية السلام بعام.
كما شمل ذلك التحرك، وضع المال السعودي والإماراتي في قلب العمل السياسي والاقتصادي المصري في شبه جزيرة سيناء، بما في ذلك حتى شراء ولاء بعض العائلات والقبائل التي تدعم المسلحين المتواجدين في تلك المنطقة.
وبالطبع، فإن الرياض الموتورة من الولايات المتحدة بسبب التقارب الأخير مع إيران، بعد الاتفاق النووي الأخير، ورفع العقوبات عن إيران، مما سمح لها بمزيد من المال لتمويل مشروعاتها في الإقليم، وفتح واشنطن لملف مسؤولية بعض الأطراف في المؤسسة الحاكمة والمؤسسة الدينية السعودتَيْن، في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، قد رحَّبت بشدة في الدخول في غمار هذا التحرك المصري.
يربط بين ذلك كله خيط قوي متين، يتضمن في حبات المسبحة الموجودة فيه، حادث طائرة مصر للطيران التي سقطت بعد خروجها من مطار شارل ديجول مباشرة، لتفجير موقف أزمة بين القاهرة وباريس.
تمامًا كما حصل في حادثة الطائرة الروسية التي تم إسقاطها بقنبلة فوق شبه جزيرة سيناء، بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ مباشرة، وواقعة الطالب الإيطالي القتيل في مصر، جوليو ريجيني.
فالبلدان الثلاثة، فرنسا وإيطاليا وروسيا، بجانب السعودية والإمارات، والصين من بعيد، هي البديل المصري للتحالف مع الولايات المتحدة، حتى في مجال السلاح، بعد وضوح دورها في مشروع الفوضى الهدامة الذي ضرب المنطقة، واستغل ظروف وملابسات ثورات الربيع العربي، لكي يحقق أهدافه السوداء في صدد إعادة رسم خرائط المنطقة، ولو على حساب ثروات وحياة واستقرار شعوب المنطقة.
من خلال أطراف هذه الصورة نفهم لماذا مال نتنياهو في ردود أفعاله إلى المزيد من التطرف والارتماء في أحضان اليمين، مع إدراكه أن التحالف مع المعسكر الصهيوني، كما “نصحه” السيسي، سيقوده إلى المربع الذي تريده مصر للحكومة الإسرائيلية.
ومن ثَمَّ؛ فإن خطوة تعيين ليبرمان في هذا المنصب، في هذا التوقيت، واستقالة يعالون المفاجئة، والتي لا تقنع طفلاً صغيرًا بأسبابها، ترتبط بلعبة أمم كبيرة تجري بين ظهرانينا!