قصة ظهور الجمباز
منذ أكثر من 4000 عام، وإبان الحضارة الفرعونية التي قامت على أرض مصر، راج على يد مجموعةٍ من السحرة والبهلوانات فن يسحر أعين الناظرين، ويذهب بعقول المشاهدين لفرط غرابته وتفرده، فن أتقنه أشخاصٌ معينون تفردوا بامتلاك السرعة والمهارة إلى جانب المرونة والقوة، مما أهلهم لأداء حركاتٍ وأعمالٍ خارجةٍ عن المألوف من تسلق قمم الجبال، والرقص على أطراف الحبال، والمشي على رؤوس الأنامل، وغيرها من البهلوانيات المثيرة والمغامرات الخطيرة، التي خلدتها النقوش والرُقُم الأثرية لحضارةٍ اندثرت وما غابت آثارها!
ومن أرض مصر انتقل هذا الفن إلى أرض الصين، ومن ثم إلى أرض اليونان حيث حضارة الإغريق أصحاب اللمسات الذهبية، والذين نظروا إلى هذا الفن نظرة إعجابٍ وأولوه أشد الاهتمام، فوضعوا له الأسس والقوانين الناظمة، ونظموا لأجله المنافسات والمسابقات، وأطلقوا عليه اسم “جيمنوز” أي الفن المجرد أو العاري، ومنه جاء الاسم الحالي لرياضة الجمباز (Gymnastics).
واستمر انتشار الرياضة ورواجها إبان الحكم الروماني للقارة العجوز، ولو أن قوانينها شهدت بعض التحويرات بما يتناسب مع الطابع العسكري الذي تميزت به الحضارة الرومانية، والتي اندثرت تدريجيًا مع مجيء الحكم الكنسي الذي حرم كل ما يمت للعسكرة بصلة، فدخلت رياضة الجمباز في غيبوبةٍ طويلةٍ لم تستفق منها إلا مع مجيء عصر النهضة الأوروبية أواخر القرن الـ 18، حيث عادت الرياضة للظهور في بعض المدارس الألمانية، بعد أن شهدت العديد من التطورات لجعلها ملائمةً للعصر، وذلك على يد مجموعةٍ من المدربين الألمان، أشهرهم على الإطلاق فريدريك يان، الذي يُعزى إليه الفضل في استعادة ألق اللعبة وانتشارها، عبر تطويره مجموعةً من القوانين واختراعه مجموعةً من الأجهزة التي جعلت رياضة الجمباز أكثر تميزًا وتنظيمًا وشعبيةً، رغم ما تعرض له من مضايقاتٍ من قبل الحكومة الألمانية البروسية آنذاك، وصلت إلى حد الاعتقال والسجن بتهمة تدريب الشباب على الفنون القتالية تمهيدًا للإطاحة بالحُكم!
ولم يفلح حظر ممارسة الجمباز في الحد من انتشار اللعبة، التي تخطت حدود ألمانيا لتصل إلى جيرانها في أوروبا، وخارج أوروبا في دولٍ كالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وحينها لم يجد الحُكام الألمان بُدًا من الاعتراف باللعبة رسميًا عبر تأسيس الاتحاد الألماني للجمباز عام 1868، والذي كان النواة الأولى للاتحاد الدولي للجمباز الذي تأسس عام 1891، وتولى الإشراف على منافسات اللعبة، التي اعتُمدت أولمبيًا منذ الدورة الأولى عام 1896، قبل أن تُقام أول بطولةٍ عالميةٍ للجمباز عام 1903 في مدينة أنتويرب البلجيكية.
أقسام رياضة الجمباز
جانب من عروض فرق الجمباز البهلواني
يعتبر الجمباز من الرياضات ذات الأقسام والفروع العديدة، وسنقوم فيما يلي بتلخيص الأقسام الـ 5 الرئيسية التي يُشرف عليها الاتحاد الدولي للجمباز حاليًا:
- الجمباز الفني (Artistic gymnastics)
وهو أشهر أنواع الجمباز وأقدمها، ويسمى أيضًا بجمباز الأجهزة، حيث يشتمل على 6 أجهزة للرجال و4 للإناث، سنتعرف عليها لاحقًا.
- الجمباز الإيقاعي (Rhythmic gymnastics)
وهو نوعٌ خاص من الجمباز تختص به السيدات دون الرجال، لا يحتاج إلى أجهزةٍ معينةٍ لممارسته إنما يُمارس على بساطٍ أرضي، ويتضمن أداء حركاتٍ جماليةٍ متناسقةٍ على إيقاع الموسيقى، باستخدام عدة أدواتٍ كالكرة، الحلقات، الشريط، والهراوات.
- جمباز الترامبولين (Trampoline gymnastics)
وهو فن القفز في الهواء على جهاز القفز الذي يُدعى بالترامبولين، وهو عبارةٌ عن إطارٍ صلبٍ في وسطه قطعة قماشٍ مطاطيةٍ مشدودة، يقوم المتسابق بالقفز عليها مع أداء عدة حركاتٍ بهلوانيةٍ أثناء القفز.
- جمباز الأيروبيك (Aerobic gymnastics)
نوعٌ من الجمباز يعتمد على الخفة دون القوة، ويتضمن مجموعة حركاتٍ فنيةٍ يؤديها اللاعب أو اللاعبة ضمن البساط المخصص على أنغام الموسيقى.
- الجمباز البهلواني (Acrobatic gymnastics)
وهو نوعٌ من الجمباز الذي يُلعب ضمن مجموعاتٍ تتكون من لاعبَين إلى 4 لاعبين، حيث تقوم كل مجموعةٍ بأداء استعراضٍ فني خاص على البساط، يجمع بين الرقص الإيقاعي والمهارات الخاصة التي تعتمد على التوازن والانسجام بين أعضاء الفريق.
أجهزة الجمباز الفنّي
رسم توضيحي لأجهزة مسابقات الرجال
يتميز الجمباز الفني بوجود أجهزةٍ ومعداتٍ تنظم على أساسها مسابقاته، سنستعرضها فيما يلي بدءًا بأجهزة مسابقات الرجال، وعددها 6:
1- البساط الأرضي: مربع صلب الأرضية طول ضلعه 12 مترًا، يؤدي عليه اللاعبون سلسلةً من الحركات السلسة، ضمن استعراضٍ يتضمن الوقوف على اليدين والدوران والشقلبة في الهواء وغيرها من الحركات التي تعتمد على التوازن والقوة والمرونة، في مدةٍ لا تتجاوز الـ 70 ثانية.
2- حصان الحَلَق: جهازٌ طوله 163سم وعرضه 36سم، يرتفع عن الأرض مسافة 115سم، وفي أعلاه قبضتان خشبيتان على شكل حلقتين، تبعدان عن بعضهما مسافة 40سم، يرتكز اللاعب على القبضتين ويؤدي مجموعةً من حركات التأرجح الدائرية ونصف الدائرية.
3- جهاز الحَلَق: عبارةٌ عن حلقتين تتدليان من ارتفاع 5.8م حتى ارتفاع 2.8م، يُمسك بهما اللاعب ليقوم بمجموعةٍ من الحركات التي تعتمد على التوازن وقوة الذراعين.
4- منصة القفز: عبارةٌ عن طاولةٍ بطول 120 سم، يضع اللاعب عليها إحدى يديه أو كليهما لأداء قفزةٍ مميزة، وذلك بعد جريه لمسافة 25م قبلها.
5- المتوازي: عارضتان أفقيتان متوازيتان، طول كل منهما 3.5م وارتفاعهما عن الأرض 2م، وتبعدان عن بعضهما مسافة حوالي 50سم، يستخدمهما اللاعب لأداء حركاتٍ تعتمد على الرشاقة وقوة الذراعين.
6- العقلة (الثابت): عارضةٌ فولاذيةٌ بطول 2.4م، ترتفع عن الأرض بمقدار 2.8م، يمسك بها اللاعب بإحدى يديه أو بكلتيهما، ويقوم بأداء حركاتٍ كالدوران والثبات المتعامد والشقلبة، قبل أن ينهي عرضه بالقفز في الهواء والهبوط على الأرض.
أما أجهزة السيدات فعددها 4 فقط، منها اثنان متشابهان تمامًا مع أجهزة الرجال هما: البساط الأرضي ومنصة القفز، واثنان مختلفان هما: جهاز المتوازي غير المنتظم وعارضة التوازن، الأول يختلف عن متوازي الرجال بكون العارضتين المتوازيتين على ارتفاعٍ مختلف، حيث ترتفع الأولى عن الأرض مسافة 2.5م والثانية 1.7م، والثاني عبارةٌ عن عارضةٍ خشبيةٍ طولها 5م وعرضها 10سم وارتفاعها عن الأرض 125سم، تقوم اللاعبة بأداء الحركات عليها في زمنٍ لا يتعدى الـ 70 ثانية.
الجمباز في الألعاب الأولمبية
الرومانيّة ناديا كومانتشي إحدى أساطير الجمباز عبر التاريخ الأوليمبي
1- دخلت فعاليات الجمباز الفني للرجال منهاج الألعاب الأولمبية الصيفية الحديثة منذ دورته الأولى في أثينا عام 1896، فيما تأخر دخول فعاليات الجمباز الفني للسيدات حتى أولمبياد أمستردام عام 1928، أما الجمباز الإيقاعي للسيدات فقد اكتسب الصفة الأولمبية اعتبارًا من أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، فيما كان الترامبولين آخر أقسام الجمباز التي اعتُمدت أولمبيًا، وذلك عام 2000 في سيدني.
2- يحتل الاتحاد السوفييتي صدارة السجل التاريخي لميداليات الجمباز الفني الأولمبية برصيد 72 ذهبية، تليها الولايات المتحدة بـ 33 ذهبية، فاليابان بـ 29 ذهبية، أما سجل الجمباز الإيقاعي للسيدات فتتصدره الروسيات برصيد 8 ذهبيات، فيما تتصدر الصين سجل ميداليات الترامبولين برصيد 3 ذهبيات.
3- بالنظر إلى أسماء أهم أبطال الجمباز الأولمبيين عبر التاريخ، يطالعنا اسما بطلين سوفييتيين أحرز كل منهما 7 ذهبيات، الأول هو بوريس شاخلين بين عامي 1956 و1964، والثاني هو نيكولاي أندريانوف بين عامي 1972 و1980.
4- أما لدى السيدات فتتبوأ السوفييتية لاريسا لاتينينا صدارة الترتيب، بإحرازها 9 ذهبياتٍ بين عامي 1956 و1964، كما يبرز اسم الرومانية ناديا كومانتشي كواحدةٍ من أهم أساطير الجمباز في التاريخ، بإحرازها 5 ذهبياتٍ بين عامي 1976 و1980، إضافةً إلى كونها أول من استحق العلامة الكاملة في تاريخ منافسات الجمباز الأولمبية، وذلك في أولمبياد مونتريال عام 1976، وهي ابنة 14 عامًا!
5- رغم ممارستها ضمن العديد من الصالات والأندية الخاصة والعامة في بلداننا العربية، لم تبلغ رياضة الجمباز العربية بعد، مرحلة النضج التي تخول أبطالنا العرب المنافسة بجديةٍ ضمن المحافل العالمية الكبرى، ولذا يخلو السجل الأولمبي للعبة عبر تاريخها من أية ميدالياتٍ عربية من أي لون.
فوائد ممارسة الجمباز
مجموعة أطفال يمارسون تمارين الجمباز
لا تقتصر فوائد الجمباز على الجانب الرياضي التنافسي بما يحققه لأبطاله وأساطينه من شهرة، بل تطال العديد من الجوانب الصحية والجمالية والنفسية، نستعرض بعضها فيما يلي:
1- تعتبر ممارسة التمارين الرياضية عامةً، وتمارين رياضة الجمباز دون أجهزةٍ خاصةً، كالآيروبيك والحركات السويدية، من الأمور التي ينصح بها الأطباء بشدةٍ للحد من مخاطر أمراض القلب والأوعية، فهي تحسن من كفاءة الدورة الدموية، وتخفض من ضغط الدم، وتزيد من عدد الكريات الحمراء في الجسم، فضلًا عن دورها في علاج حالات الاكتئاب، عبر الرفع من مستوى الصحة النفسية لممارسيها.
2- إضافةً إلى دورها في تقوية عضلات الجسم وتنميتها، تعتبر ممارسة رياضة الجمباز طريقةً فعالةً للتخلص من الوزن الزائد، والحفاظ على جسمٍ رشيقٍ متناسقٍ خالٍ من الدهون والشحوم الزائدة، ولذا يحرص أغلب نجوم ونجمات عالم الفن والشهرة، على ممارسة تمارين الجمباز بانتظام، سواءً بوجود الأجهزة أو بدونها.
3- تُستخدم تمارين الأجهزة من قبل معظم الأندية والفرق الرياضية العالمية، وخاصةً في كرتي القدم والسلة، من أجل رفع المستوى اللياقي والبدني للاعبيها على مدار العام، كما تُستخدم بعض تمارين الجمباز الخفيفة المدروسة، كحركاتٍ إحمائيةٍ ضروريةٍ لجميع اللاعبين قبيل المباريات، تقيهم خطر التقلصات الفجائية وتقلل من نسبة حدوث الإصابات العضلية أثناء المباريات.
4- لا تقتصر فوائد رياضة الجمباز على الكبار، فللأطفال نصيبٌ وافرٌ من فوائدها، حيث أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أهمية أداء الأطفال لبعض تمارين الجمباز المبسطة، في تطوير مهاراتهم وقدارتهم الذاتية، سواءً العضلية منها أو الحسية، مما ينمي روح الثقة بالنفس لدى الطفل، ويعزز من طاقاته العقلية والجسدية.