ترجمة وتحرير نون بوست
يُقال بأن إبراهيم باتيس هو أول تاجر يهودي سوري ينتقل من سوريا إلى مانشستر، حيث وصل إلى البلدة البريطانية الشمالية في عام 1843.
باتيس كان بالأصل من مدينة كلس، التي تقع الآن على الجانب التركي من الحدود مع سوريا، وهي المدينة التركية التي استقبلت في الأشهر الأخيرة جرحى الحرب، استضافت الآلاف من اللاجئين، وعانت من انعكاسات القتال عبر الحدود.
بعد أكثر من 150 عامًا على رحلة باتيس، خدمت كلس أيضًا باعتبارها طريقًا نهائيًا لهروب آخر عائلة يهودية من حلب، حيث يُقال بأنه تم تهريب العائلة خارج سوريا إلى تركيا بمساعدة رجل أعمال إسرائيلي أمريكي، وعناصر المعارضة المعتدلين ضمن الجيش السوري الحر في أواخر العام الماضي، ومن خلال ذلك، أُسدل الستار على التاريخ اليهودي البالغ من العمر 3000 عامًا ضمن مدينة حلب، وهو عنصر آخر من التاريخ المتنوع الفريد ومتعدد الأعراق الذي تخسره سوريا في خضم الحرب الدائرة.
لكن المملكة المتحدة، ومانشستر تحديدًا، تمتلك مكانتها الخاصة في تاريخ المهاجرين اليهود السوريين، تاريخ يتشابه إلى حد كبير مع الهجرة التي يشهدها العصر الحديث من خلال تدفقات اللاجئين القادمة إلى شواطئ أوروبا.
لا يبدو من الواضح ضمن الحي الواقع بجنوب مانشستر، ديسبري، ذو الشوارع المورقة والشرفات الجورجية التي تطل على الحدائق والممرات البرجوازية الإنجليزية، بأنه كان وحتى القرن الماضي، مركزًا للمهاجرين من مختلف أنحاء الشرق الأوسط، حيث أشار المؤرخ فريد هاليداي في تسعينيات القرن الماضي بأن امتزاج الثقافات طال العديد من أشكال الحياة اليومية حتى الطعام أيضًا، فهناك “الكبة والمجدرة يوم السبت والدجاج الإنجليزي المشوي وفطيرة التفاح وحلوى الحليب يوم الأحد”، وحتى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان من الطبيعي أن تسمع الأشخاص يتحدثون اللغة العربية في شوارع ديسبري.
يقبع كنيس شعاري حاييم في أسفل شارع سكني جانبي، المعبد اليهودي الذي يتسع لـ900 شخصًا الذي افتتح أبوابه لأول مرة في عام 1927، وأصبح فيما بعد مركزًا لأحفاد العديد من “اليهود الشرقيين” الذي انتقلوا إلى قلب المنطقة الصناعية في المملكة المتحدة ما بين منتصف القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20.
بالأصل، كان جنوب مانشستر موطنًا لليهود السفارديم، سلالة العائلات اليهودية التي طردت من إسبانيا والبرتغال في العام 1400، وانضم إليهم في وقت لاحق اليهود المزراحيون العرب القادمون من الشرق الأوسط، والكثير من هؤلاء، تمامًا كباتيس، جاءوا من سوريا أملًا في تأسيس أنفسهم في قلب المدينة الصناعية الرائدة في المملكة المتحدة.
اليوم يصلي ويغني في شعاري حاييم اليهود من الأصول المصرية، العراقية، اللبنانية، اليمنية، والإيرانية، جنبًا إلى جنب مع أحفاد المهاجرين السوريين؛ ففي فترة التسعينيات، قام المجتمع اليهودي بدمج سلسلة الكنيسات المنفصلة، التي كانت سورية بالغالب، حيث أن تلك الطوائف لم تكن تؤمن بطقوس التقشف التي يترأسها المهاجرون اليهود الإسبان والبرتغاليون، ومن الاختلافات الأخرى هي أن اليهود السفارديم كانوا يرتدون قبعات الرأس اليهودية في المراسم الاحتفالية في حين كان اليهود العرب من سوريا وغيرها أقل التزامًا بهذه المراسم، وهذا الاتجاه يمتد إلى كنيس شعاري سدق ذو الأغلبية السورية، بيت الصلاة المنفصل الذي لم يعد له وجود الآن.
الصور المؤطرة والمعروضة للحاخامات السابقين داخل القاعة الرئيسية لشعاري حاييم تكشف جذورهم المصرية والعراقية والسورية، ويحاول الحاخام أمير إيليتوف، رئيس الجماعة في شعاري حاييم والذي ترجع أصول عائلته إلى كل من روسيا والمغرب, تفسير سبب هجرة اليهود السوريين أصلًا لمانشستر في القرن الـ19.
صورة مؤطرة في مدخل قاعة الكنيس توضح رؤساءه السابقين.
“الأسرة السورية النموذجية آنذاك كان تمتلك حوالي ستة أو سبعة أولاد”، يوضح الحاخام، متحدثًا عن حقبة أوائل القرن الماضي، ويتابع: “الأهالي اليهود الذين عاشوا في سوريا كانوا يرسلون أولادهم لتوسيع أعمالهم، واحد في الأرجنتين، واحد في بنما، واحد في نيويورك، وواحد في مانشستر، وبهذه الطريقة، كانوا يبنون اتصالات في جميع أنحاء العالم، وهذه هي الطريقة التي كانوا يمارسون من خلالها أعمالهم”.
في ذلك الوقت، لم يكن السبب الرئيسي لهجرة اليهود السوريين الصراع أو القمع أو الاضطهاد، بل التجارة، “لم يأتِ هؤلاء الأشخاص صفر اليدين”، تقول ليديا كولينز مؤلفة كتاب “سفارديم مانشستر: الأنساب والرواد”، وتتابع: “لم يكونوا لاجئين، كما أنهم لا يأتون بالضرورة وهم ينوون البقاء، لقد كانوا تجارًا، ووكلاء أعمال، يعملون لصالح أشخاص يعيشون في موطنهم الأصلي”.
صورة لعائلة يهودية سورية في دمشق عام 1901.
السنة القادمة في مانشستر
جاءت عائلة رجل الأعمال المحلي جو دويك إلى مانشستر في القرن الـ20، تاركين وراءهم جذورًا في المجتمع اليهودي القديم في كلكتا وفي وقت لاحق بحلب، والتي أصبحت ديارهم في أوائل القرن العشرين.
“كانت جدتي من عائلة فارحي، إحدى العائلات البارزة في حلب ودمشق” يقول دويك، وفي الواقع، كانت أسرة دويك مشهورة بما يكفي لتقلد مناصب رفيعة في الإدارة العثمانية في سوريا، حيث تم تعيينها على رأس الخزانة الدمشقية منذ القرن الـ18 فصاعدًا.
“أكبر أسباب شهرة العائلة هي امتلاكها لكتاب فارحي المقدس” يقول دويك، وهو مخطوطة من الكتاب المقدس مصنوعة في القرون الوسطى بفرنسا ما بين عامي 1366 و1383، حيث كان الكتاب ينتمي للعائلة حتى تم تنفيذ حكم الإعدام بحاييم فارحي، وأعيد الكتاب إلى الأسرة في وقت لاحق خلال فترة حياة جدة دويك، ومن ثم تم بيعه في أوائل القرن الحالي، ويوجد في أيامنا هذه في خزنة في جنيف.
“كانت حلب غير مرة المركز العالمي لصناعة النسيج، وحينها هاجر الكثير من اليهود إلى سوريا”، يروي دويك، ويضيف: “لكن بعيدًا عن كونها الملاذ الذي يُفترض أن تكون عليه، كانت سوريا متهدمة تمامًا، مكانًا مغبرًا وباليًا كما تبين في النهاية، وغادرها الكثير من اليهود البارزين”.
لقد اشتهر ممر الهجرة بين اليهود السوريين المقيمين في حلب, فوفقًا لما ذكره دويك: “اليهود اعتادوا القول: السنة القادمة في مانشستر”، وهي تحوير للعبارة اليهودية المشهورة التي يتداولها المجتمع اليهودي في عطلهم والتي تقول “السنة القادمة في القدس”.
ويدل التاريخ الموثق عن طائفة السفارديون في مدينة مانشستر، على أن العادة جرت حينما يولد ابن لأحد التجار اليهود في حلب أن تصبح عبارة “ربما سيعيش في مانشستر” جزءًا من كلمات المباركة التقليدية، “كانوا يعتقدون بأن مانشستر تحتوي على شوارع ممهدة بالذهب، بحيث يمكن للجميع أن يذهبوا هناك و يجمعوا ثروتهم الخاصة، وبعضهم فعل ذلك حقًا”، قال دويك.
تمهيد الطريق
كان يهود حلب خلال هجرتهم إلى مدن كمانشستر يتّبعون الطرق التجارية، ولكن الأشخاص كباتيس مهدوا الطريق لسلسلة هجرة عبر البحر الأبيض المتوسط قامت الأجيال اللاحقة باتباعها.
اليوم، كما يقول مارلو ستشروفر، وهو خبير في تاريخ الهجرة في جامعة ليدن في هولندا، اختفى هذا النوع من الهجرة الذي جلب يهود حلب إلى مانشستر، “في العصور القديمة، كان هنالك هجرات لمسافات طويلة اتبعها التجار اليهود، الذين ذهبوا إلى قارة الهند البعيدة، كما توغلوا ضمن أفريقيا، لقد كانوا يمتلكون طرق تجارة، شبكات، واتصالات” قال ستشروفر، وأضاف: “لكن عندما حلت الأزمة الاقتصادية في ثمانينات القرن الماضي، أصبحت الدول أكثر تقييدًا في سياسات الهجرة”.
نتيجة لذلك، تم تخفيض فرص الأشخاص من خارج الاتحاد الأوروبي للقدوم والعمل في أوروبا، وتحولت “هجرة العمالة” لتأخذ شكل برامج الرعاية، أو أصبحت متاحة فقط للأشخاص الأثرياء بما فيه الكفاية.
“إذا كنت ترغب في إقامة مشروع تجاري، كان ذلك ممكنًا، فأوروبا لم تغلق أبوابها تمامًا، ولكن نوع الهجرة أصبح مختلفًا تمامًا عمّا كان عليه خلال القرن الـ19، عندما كان الناس الذين لا يمتلكون الأموال أو لا يتمتعون بالاتصالات يحاولون الهجرة إلى أوروبا لبناء تلك الشبكات”، قال ستشروفر.
خطط الدول الأوروبية بترحيل عشرات الآلاف من طالبي اللجوء ورفض المهاجرين لأسباب اقتصادية، فضلًا عن الاتفاق المثير للجدل ما بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، يظهران إلى أي درجة تغيّر مفهوم الهجرة في أوروبا، حيث تحولت اللغة لتصبح عاملًا يعمل على تقويض مصالح “المهاجرين”، لأنها خلقت ثنائية في أذهان الكثيرين في أوروبا ما بين اللاجئين الذين يستحقون القدوم والمهاجرين الذين لا يستحقونه، وكثيرًا ما أصبح موضوع الهجرة ذاته مصدرًا للشبهات، التهديدات الأمنية، والمناظرات التلفزيونية الملتهبة، ولكن بالنسبة لعائلة جو دويك بقيت الهجرة وسيلة للحياة.
“أعتقد بأن عائلتي كانت تعتبر نفسها مهاجرة”، قال دويك، وتابع:” لقد جاءوا إلى هنا، لكنهم لطالما اعتقدوا بأنهم في العام المقبل سيكونون في نيويورك، فطوال حياتهم كانوا على استعداد للتحرك”.
اليوم، لا يوجد سوى عضو واحد مولود في حلب ضمن جماعة شعاري حاييم يعيش في جنوب مانشستر، حيث انتقل الكثيرون منهم إلى أماكن أخرى، إلى نيويورك في الغالب، أو دول أمريكا اللاتينية، وعدد أقل إلى إسرائيل، كما يقول الحاخام إيليتوف بأن استيعاب المهاجرين أثّر على مجتمعهم، حيث نادرًا ما يستخدم المهاجرون لغاتهم الأم، كما تخلوا عن الأعمال التقليدية التي كانت تعمل بها عائلاتهم.
“لقد تم امتصاص جيلين متتالين من نسل المهاجرين الأصلي ضمن المجتمع، وهؤلاء لم يعودوا يعتبرون أنفسهم كعراقيين أو سوريين بعد الآن، خلافًا لما كان عليه الوضع في العشرينيات، إنهم لا يتكلمون العربية، وأولئك الذين ينحدرون من أصول سورية يستخدمون كلمات السباب بالعربية فقط” قال الحاخام مبتسمًا.
يأمل الحاخام إيليتوف بأن خطط نقل المجمع اليهودي إلى مبنى آخر أكثر رقيًا سيعمل على تنشيط المجتمع اليهودي هناك، ولكن دويك من جهة أخرى يرى بأن هذه المجتمع تلاشى وانتهى، حيث يقول: “عندما كنت أذهب إلى شعاري حاييم، أو الكنيس الكبير كما كنا ندعوه، كان دائمًا يغص بالمصلين، ولكنه الآن شبه فارغ، لقد انتقل الأشخاص من هنا، والمجتمع الآن هو في تراجع نهائي تقريبًا”.
المصدر: ميدل إيست آي