تركيا فقط هي الطريق العملي المتاح لتصدير الغاز الفائض عن حاجات إسرائيل، هكذا صرّح شائي كوهين القنصل العام لإسرائيل بمدينة إسطنبول، فالأمر لا يتوقف فقط على المسافة القصيرة بين البلدين، والتي ستضمن بناء خط أنابيب قليل التكلفة، ولكنه يعتمد كذلك على ثقل الاقتصاد التركي واستقراره، وقدرة تركيا على توفير بنى تحتية على أعلى مستوى للتصدير باتجاه الغرب، علاوة على استهلاك جزء من الغاز الإسرائيلي داخل تركيا في إطار جهود أنقرة لتنويع مصادر الغاز التركية بعيدًا عن الغاز الروسي.
“الاتفاق بين إسرائيل وتركيا في هذا الصدد أمر طبيعي جدًا بالنظر لظروف المنطقة وما يدور فيها… هذه سياسة واقعية للتعاون في مجال الطاقة بين البلدين تفرضها الأوضاع المحيطة بنا،” كذلك صرّح كوهين لوكالة الأناضول للأنباء قبل أيام قليلة، وهي تصريحات سبقتها بالفعل نقاشات بين شركات تركية وإسرائيلية عدة بخصوص خط أنابيب محتمل يمكن تنفيذه في السنوات القليلة المقبلة لنقل الغاز من حقل لفياثان الأكبر قبالة الشواطئ الإسرائيلية، والذي يُقدر الاحتياطي فيه بخمسمائة مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، إلى تركيا وأوروبا، أبرزها لمجموعة زورلو القابضة التركية الشهيرة.
في مطلع هذا الشهر، أعربت زورلو القابضة عن خطط لزيادة استثماراتها في مجال الطاقة بإسرائيل عبر مشاريع مشتركة مع شركات إسرائيلية، وفق تصريحات عُمر يونكول المدير التنفيذي للمجموعة، “إننا نمتلك صلات قوية داخل إسرائيل، وشحن الغاز الإسرائيلي لتركيا سيكون تجارة مُغرية، وبينما تدعونا أطراف عدة بالفعل للاستثمار في إسرائيل بشكل أكبر، فإننا سنكون جزءًا من كونسورتيوم مُحتمل بالفعل لتصدير الغاز لتركيا وهو مشروع قد يتجاوز ثمانية مليارات دولار،” هذا وتمتلك زورلو حاليًا مشاريع بالفعل في قطاع الكهرباء بإسرائيل بالشراكة مع شركتي إدِلتِك Edeltech وإيلات-عسقلان.
ماذا يعني الاتفاق لتركيا؟
اتفاق كهذا سيفيد تركيا بالطبع من أوجه عدة، أولها إعادة جذب إسرائيل إلى مدارها بعيدًا عن اليونان، حيث كانت السياسة الإسرائيلية قد اتجهت في السنوات الأخيرة ناحية ما سُمي بمحور قبرص-اليونان-إسرائيل لتشكيل تحالف طاقة بين البلدان الثلاثة بعد توتر العلاقات مع تركيا، غير أن تحالفًا غير واقعي كهذا لم يدم طويلًا على ما يبدو نتيجة قرار كل من تركيا وإسرائيل إعادة فتح ملف العلاقات بين بلديهما قبل أشهر، والمصلحة المشتركة لكل منهما في بناء خط الأنابيب القصير من تركيا إلى أوروبا مباشرة.
سيعزز الاتفاق كذلك من رغبة تركيا في مركزة نفسها كمعبر رئيسي لخطوط نقل الغاز في العالم، ليُضاف إلى الخط الأبرز الذي بدأ بناؤه في مارس 2015 وهو خط تاناب TANAP المار من أذربيجان الغنية بالغاز وعبر جيورجيا إلى تركيا ومن ثم إلى بلغاريا وبقية أوروبا، وهو خط قد يمتد مستقبلًا إلى إيران الغنية بالغاز في إطار انفتاحها الاقتصادي على أوروبا ورغبة الاتحاد الأوروبي تقليل الاعتماد على الغاز الروسي هو الآخر، بل وربما إلى تركمنستان أيضًا في آسيا الوسطى والتي تمتلك احتياطيات كبيرة نسبيًا من النفط والغاز.
إحدى فوائد الاتفاق الأساسية هي تحييد إسرائيل مجددًا في الملف القبرصي، والذي تبنت فيه تل أبيب مواقفًا موالية لقبرص مؤخرًا بسبب التوتر مع تركيا، وبالنظر للجهود الجارية حاليًا لتسوية ملف الجزيرة المنقسمة بين جنوب يوناني وشمال تركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي لتصبح جزيرة واحدة فيدرالية، فإن عزل محور قبرص-اليونان قدر المستطاع سيعزز من مكاسب تركيا في أية تسوية، وهي جهود واضحة بالضغوطات التركية على أوروبا من ناحية في ملف اللاجئين، ومحاولة استعادة إسرائيل لموقف محايد على الأقل، في حين تستمر روسيا بالطبع في دعم الجنوب اليوناني بالجزيرة.
حقلا الغاز الإسرائيليان بشرق المتوسط وخط الغاز المقترح لتركيا
سيضع اتفاق كهذا أيضًا ضغوطًا على النظام المصري الحالي، والمرتبط بقوة بإسرائيل أكثر منه بقبرص واليونان في حد ذاتهما، فمصر التي اتجهت مؤخرًا لنفس التحالف الثلاثي للطاقة في شرق البحر المتوسط لن تتمكن مع قبرص واليونان وحدهم من بلورة تحالف طاقة بوجه ثقل تركيا وإسرائيل، علاوة على أن الواقعية قد تفرض نفسها مجددًا لتدفع بإسرائيل لجذب النظام المصري للانضمام لخط الأنابيب التركي الإسرائيلي وربما تصدير جزء من أي فائض قد ينتج عنه حقل زُهر المكتشف حديثًا، عدا ذلك فإن الخيار الوحيد لمصر سيكون الاكتفاء بمحطتي الإسالة في دمياط وإدكو، واللتين خرجتا عن العمل بكامل طاقتهما منذ اندلاع الثورة ويُعاد النظر في إمكانيات استخدامهما للغاز القبرصي، ومن ثم تصدير أي فائض في صورة غاز مسال لأوروبا مباشرة.
تقديم بنية تحتية وخدمات كافية لرعاية تصدير الغاز أو إسالته في محطات للغاز الطبيعي ثم تصديره تتطلب خبرة في هذا المجال ورغبة في الاستثمار فيه بمبالغ ضخمة، وهو أمر لا تمتلكه أيٌ من قبرص واليونان المأزومتان حاليًا نتيجة أزمة اليورو، واللتان لا تمتلكان أية محطات للإسالة، في حين تمتلكه تركيا باقتصادها القوي وشركات الطاقة الكبرى فيها، هكذا أشار كوهين في حديثه، والذي ذكر أن خط الأنابيب بين البلدين لن يتكلف أقل من أربعة مليارات دولار علاوة على التكاليف الإضافية لتشغيل الخط فيما بعد، “أستطيع أن أقول أن هناك حماسًا كبيرًا، على الأقل من جانب القطاع الخاص في تركيا، وتنفيذ المشروع ليس سوى مسألة وقت… أضف لذلك أنه سيعيد الثقة بين البلدين على المدى البعيد.”
ماذا تستفيد إسرائيل؟
من ناحيتها فإن إسرائيل على دارية كاملة بمحورية الدور التركي في أوروبا، وهي أهمية تعود لعقود طويلة من الحرب الباردة بين روسيا والقارة العجوز، وبالنظر لتراجع الدور الأمريكي في شرق أوروبا، فإن تركيا وهي صاحبة ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الجيش الأمريكي، تصبح أكثر أهمية من ذي قبل في إستراتيجية أوروبا لاحتواء النفوذ الروسي المتصاعد، بل وكذلك في حل أزمة اللاجئين الضاغطة بقوة على أجندة السياسة الأوروبية، وهي أولويات ستتراجع معها حتمًا واجبات الالتفات لملف قبرص واليونان العضوتين بالاتحاد الأوروبي، واللتين اعتمدتا في السابق على دعم الاتحاد الأوروبي لدعم موقف اليونان في أزمة الجزيرة القبرصية.
تدرك إسرائيل إذن أن تركيا هي البوابة المحورية للاستمرار في الحصول على دعم الاتحاد الأوروبي كجزء من الدعم الغربي التقليدي لإسرائيل، خاصة وأن دعم أوروبا بالتحديد قد تراجع في السنوات الأخيرة جراء تصاعد اليمين المتطرف والمُعادي للمسلمين واليهود على السواء نتيجة لنبرة “معاداة السامية” التقليدية في خطابه القريب من النازية، علاوة على تبلور حركات مقاطعة إسرائيل بين الدوائر الأكاديمية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، وهي تحولات نجحت في دفع الاتحاد الأوروبي لاتخاذ مواقف إيجابية تجاه الدولة الفلسطينية مؤخرًا بشكل أثار حفيظة إسرائيل.
على صعيد آخر، سيكون تأمين استهلاك الاقتصاد التركي لنصيب ولو ضئيل من الغاز الإسرائيلي، مكسبًا اقتصاديًا في المقام الأول، وثانيًا خطوة على طريق إعادة فتح التجارة بشكل طبيعي بين البلدين بعد أن هبطت من خمسة مليارات إلى نصف مليار دولار فقط إبان الأزمة الدبلوماسية في السنوات الماضية، وثالثًا كارت هام للضغط على تركيا مستقبلًا بإمكانية قطع الغاز عنها، وإن كانت تركيا تملك وقف تدفق الغاز الإسرائيلي في تلك الحالة، بما يستتبعه ذلك من الضغط على مستهلكيه الأوروبيين مستقبلًا.