بشكلٍ مبدئي، أعطى اتفاق أوسلو 1993، فُرصًا متساوية للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، بشأن ادعائهما تحقيق الانتصار الكبير، باعتبارهما قدما اختراقًا في شأن الصراع الدائر بينهما، وبعد امتداده على مدار عشرات السنين من العداء والحرب، حيث تنفس الإسرائيليون الصعداء، بعد تحقيقهم ما رغبوا به، وسواء في إجبار الفلسطينيين على ترك مشاريعهم الكفاحية المسلحة، أو نجاحهم في إلغاء أيديولوجيتهم الخاصة بتصفية كيانهم، واستبسالهم نحو إمالتهم إلى السلام، وبدورهم، فقد اشتم الفلسطينيون نتائج نضالهم، الذي مكثوا عليه طوال الفترة الكفاحية الماضية، كونها النتائج التي ستؤدي إلى الدولة والاستقلال.
لكن الثلاثة عقود التي مضت على ذلك الاتفاق، وكما بدا للعالمين، لم تُسفر عن شيء كان الطرفان يأملان بإنجازه، فمنذ أن علِقا في حقل المفاوضات المترتبة عليه، والتي تلا بعضها على بعض، وتلقيا خلالها وبموازاتها أيضًا، العشرات من برامج الرعاية السياسية والدعم النفسي، فقد بقيت الأمور على ما هي عليه، أي بدون إحراز أي تقدمات جوهرية، فبينما كان الفلسطينيون يُفاخرون بأن لديهم طموحات يتوجب عليهم تحقيقها بإتقان الكلام وحسب، كان الإسرائيليون يُعجبون بقوتهم العسكرية التي يملكونها، والتي يتطلعون بواسطتها، إلى قمع الطموحات الفلسطينية من جذورها.
في نظر المجتمع الدولي، سيطرت حقيقة واحدة وحتى هذا الوقت، وهي أن أي من الطرفين، لم يقدم شيئًا له قيمة يمكن البناء عليها، أو التفكير بشأنها، فكما أن السياسة الفلسطينية كانت آخذة بالتدهور، فإن السياسة الإسرائيلية أيضًا لا تقل تدهورًا باتجاه مُتطلبات السلام، مع ترجيح أن الفلسطينيين تنازلوا بأقصى ما لديهم، في سبيل الحصول على دولة أو ما يُشبهها وإن في أعماق الجو، وهي التنازلات التي شجعت إسرائيل للنزول من التلة، في مُقابل رفضها تقديم تنازلات جوهرية، وإبراز مطالبات جديدة، وهي التي أعقمت المفاوضات، وجعلت العملية السياسية برمتها مجالًا للجدل، والمنطقة بأسرها ميدانًا للفوضى والصراع.
حتى واشنطن بنفسها، باعتبارها راعية الجميع، أبدت بوادر يأس وانعدام صبر تجاه مواقف إسرائيل، بعدما حفيت أقدامها جيئةً ومُغادرةً للمنطقة، وبعدما أفرغت ما لديها من وجهات نظر حول حلول سياسية، ما جعل العملية السياسة تقبع أمام طريق مسدودة، خاصة وفي ظل انتقال الطرفين، إلى مرحلة أخرى من التصعيد، حيث يدور الحديث خلالها، حول أن الطرف الآخر لا يملك مشروعًا حقيقيًا للسلام، وأن عليه تحمل المسؤولية.
حيث حرصت إسرائيل على الإعلان، بأن السلطة الفلسطينية الحالية، والتي تُعاني من مجموعة متنوعة من الأزمات السياسية، ليس لديها مشروعًا جوهريًا للسلام، وأن الرئيس “أبومازن” الذي يقودها تحديدًا، ليس لديه أي خطة سلام، وليس إلى هنا وحسب، بل بدا متراجعًا عن تفاهمات سياسية تم التوقيع عليها سابقًا، وحسب المعطيات التي تسوقها، حول ضعف موقفه أمام حركات المُعارضة وحماس تحديدًا، وفي ظل أنها تملك قاعدة مناوئة لاتجاه السلام مع إسرائيل.
علاوةً على الضعف العربي ككل، فإنه لن يكون مستعدًا للتوقيع على أي اتفاق سلام معها، ومن ناحية أخرى، فإنها تكثر من أن السلطة، لطالما دفعت باتجاه إشعال الانتفاضة الدائرة في القدس وأنحاء الضفة، وهي تقوم بكبح القليل منها أمام المجتمع الدولي فقط.
السلطة من جانبها حرصت هي الأخرى، على تحميل إسرائيل مسؤولية إفشال العملية السياسية، باعتبارها هي التي لا تزال تعتمد مبدأ التضليل ضدها، وبأن السياسة الإسرائيلية هي التي فشلت في تقديم حلول قابلة للتطبيق، وبالتالي فإنها هي التي لا تملك مشروعًا للسلام، خاصةً وأنها محكومة من اليمينيين المتطرفين، والذين يسعون إلى استبدال اتفاقات أوسلو، بتطوير الصراع إلى ديني عقائدي، خاصة وفي ضوء تشكيلة وبرنامج الحكومة الجديدة، والتي شملت بشكلٍ فجائي، حزب “إسرائيل بيتنا”، الذي يقوده المتطرف “أفيغدور ليبرمان”، والذي أصبح معروفًا عنه، بأنه يحتفظ ببرامج تتجه بها، ليس إلى عرقلة المسيرة السياسية وحسب، بل إلى تحديث الصراع.
والحال كذلك، فإن كلًا من مبادرتي السلام الفرنسية المُعاندة لإسرائيل، والمصرية المُهادنة معها، ومُضافًا إليهما المساعي العربية المحتملة، نحو تخفيف بنود مبادرتها العتيدة، والتي تأتي جميعها من أجل جذب إسرائيل وإمالتها نحو استئناف المسيرة السياسية، لن تكون دافعة بما فيه الكفاية، لإشعال حماسها من جديد، للمشاركة في تلك المسيرة.