جاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لليونان الجمعة الماضية بعد قطيعة استمرت قرابة 10 أعوام لتضع العديد من علامات الاستفهام حول دلالات هذه الزيارة والأهداف التي تسعى كل من موسكو وأثينا لتحقيقها من ورائها.
بوتين الذي أعلن أكثر من مرة أنه سيتعامل مع الاتحاد الأوروبي على طريقة “الند بالند” وذلك في أعقاب حزمة العقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية على روسيا بسبب أزمة القرم في 2007م، ها هو اليوم يتوجه للعاصمة أثينا وسط استقبال حافل من الرئاسة اليونانية التي عبرت عن سعادتها بهذه الزيارة التي نعتتها بـ “التاريخية” لاسيما في ظل مجموعة اتفاقيات التعاون الموقعة بين الجانبين في مختلف المجالات.
“نون بوست” يسعى في هذا الطرح إلى الكشف عما وراء كواليس هذه الزيارة ومدى تحقيقها للأهداف المعلنة من الجانبين، لاسيما مع اقتراب موعد التصويت على تمديد العقوبات الأوروبية ضد روسيا، فهل يبحث بوتين بزيارته لليونان بعد قطيعة 10 أعوام عن سلام دافئ يعيد روسيا للأحضان الأوروبية من جديد؟ وهل تكتفي واشنطن بدور المشاهد من بعيد أم ستمارس مخططاتها من خلف الستار كالعادة؟
العلاقات الروسية الأوروبية… كثير من التوتر قليل من حسن النوايا
“مشكلة روسيا مع الأوروبيين أنهم في لقاءاتهم الثنائية معها يقولون أشياءً، وعندما يذهبون ويجتمعون معًا بعيدًا عنها يقولون أشياءً أخرى مناقضة، وأيضًا يظهرون أنفسهم وكأنهم مستقلون تمامًا عن الولايات المتحدة ولا يخضعون لها في قراراتهم، ولكن عندما تتصاعد الأمور وتصل لدرجة الحسم نجدهم يفعلون ما تأمر به واشنطن ويوافقون على ما تقوله حتى لو كان ضد مصالحهم…” بهذه العبارات استهل الكاتب والمحلل الروسي ليونيد ألكسندروفتش حديثه عن العلاقات الروسية الأوروبية، ومدى ما بها من تناقضات لاسيما مع سيطرة واشنطن على القرار الأوروبي في كثير من الأحيان على حد قوله.
ألكسندروفتش أكد أن تلك التناقضات الأوروبية في التعامل مع روسيا تعد المشكلة الرئيسية التي تؤرق الإدارة السياسية بموسكو، لاسيما وأن العديد من كبريات الدول الأوروبية تربطها بروسيا علاقات اقتصادية قوية تصب في معظمها في صالح الدول الأوروبية وهو ما يتمثل بصورة واضحة في مجال الطاقة والغاز الطبيعي، حيث باتت مصادر الطاقة الروسية تشكل أكثر من 40% من حاجة الأوروبيين للطاقة.
المحلل الروسي تناول مستنكرًا بعض مظاهر التناقض الواضح في العلاقات الأوروبية الروسية، حيث أشار إلى العداء والنفور الذي أبداه المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية تجاه روسيا في مقابل الارتماء في أحضان الولايات المتحدة وحلف الناتو، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى فتح بعض الدول القريبة من الحدود الروسية أراضيها للقواعد العسكرية الأمريكية لحلف الناتو، وهو ما تجسده بولندا وتشيكيا حيث ناشدتا واشنطن نشر منظومات الدرع الصاروخية على أراضيها الحدودية مع روسيا.
ومع هذا كله لم تتوان هذه الدول – التي تظهر العداء لروسيا ليل نهار – عن إبرام اتفاقيات التعاون مع موسكو حال حاجة شعوبهم لمثل هذه الاتفاقيات حتى ولو اعترضت واشنطن على هذا التعاون، كما فعلت بلغاريا التي لا تتوانى عن التعاقد مع روسيا لبناء محطات طاقة نووية لها بالرغم من كونها عضو في حلف الناتو وسياساتها الآن مناهضة لروسيا.
وخلال العقدين الآخيرين مرت العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي بمحطات من الصعود والهبوط ساهمت بشكل كبير في زيادة توتر الأجواء بين الجانبين، خاصة مع دخول واشنطن كشريك استراتيجي قوي لأوروبا في الآونة الأخيرة، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي مرارًا عن تقييمات حادة ونقدية لجوانب كثيرة في السياسة الداخلية والخارجية الروسية، ونتيجة للارتباط الأوروبي بالسياسات الأمريكية في المنطقة، فقد أدى ذلك من ناحية إلى توتر العلاقات الأوروبية الروسية، ومن ناحية أخرى ارتباط دوائر صنع القرار في الدول الأوروبية بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الوضع كان شديد الوضوح في ظل الأزمة الأوكرانية.
وعلى الفور وبتحريض واضح من الولايات المتحدة سارع الاتحاد الأوروبي بفرض حزمة من العقوبات السياسية والاقتصادية والعسكرية على روسيا بهدف الضغط عليها وإثنائها عن مخططات التمدد والتوسع على حساب الدول المجاورة.
“نون بوست” يرصد بعض مؤشرات التوتر في العلاقات الروسية الأوروبية والتي تمحورت في عدة قرارات، الأول: طرد روسيا من مجموعة دول الثماني، الثاني: تهديد الاتحاد الأوروبي بتعليق مفاوضاته مع روسيا لتحرير تأشيرات الدخول للمواطنين الروس، الثالث: إعلان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن ضم القرم يتعارض مع القانون الدولي، وبالتالي رفضها الاعتراف بوضع القرم الجديد، الرابع: تعليق بريطانيا تعاونها العسكري مع روسيا، حيث ألغت تدريبات بحرية بمشاركة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك مشاريع لزيارة سفن حربية بريطانية إلى روسيا، الخامس: فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على 33 مسؤولاً روسيًا من بينهم رجال أعمال، إلى جانب التلويح بإعادة النظر في بعض الصفقات بين روسيا وبعض الدول الأوروبية، كما هددت دول الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات اقتصادية ضد روسيا.
وأخيرًا: إعلان حلف شمال الأطلنطي تعزيز دفاعاته في شرق أوروبا، كما قامت كل من فرنسا وبريطانيا بنشر مقاتلات لتعزيز الدوريات الجوية لحلف شمال الأطلنطي فوق منطقة البلطيق، كما نشرت بريطانيا وفرنسا كذلك طائرات الاستطلاع “أواكس” للقيام بدوريات في أجواء بولندا ورمانيا في الأسابيع الأخيرة.
وعلى الفور أعلنت موسكو عن حزمة قرارات كرد فعل على العقوبات الأمريكية الأوروبية ضدها كان من أهمها، وقف تصدير الغاز لدول أوروبا، وتمديد الحظر المفروض على المواد الغذائية الأوروبية حتى نهاية عام 2017 مما كان له أبلغ الأثر على الآلاف من المزارعين الأوروبيين.
البرلمان الأوروبي أثناء التصويت على العقوبات ضد روسيا
اليونان – روسيا… علاقات من نوع خاص
على عكس العلاقات الروسية مع بقية دول الاتحاد الأوروبي، تتميز العلاقات بين موسكو وأثينا بحميمية غير مسبوقة، وهو ما تجسد في تصريحات رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس أثناء زيارة بوتين الأخيرة لبلاده، والتي أكد فيها على عمق العلاقات بين البلدين، وضرورة تقريب وجهات النظر بين موسكو وأوروبا في محاولة لإعادة النظر في العقوبات المفروضة من الجانبين ضد الآخر، ملفتًا أن الأمن الأوروبي لا يمكن أن يتحقق دون التعاون والحوار مع روسيا.
تسيبراس برر دعم بلاده للعقوبات الأوروبية المفروضة ضد روسيا، بأن اليونان دولة أوروبية وهي ملزمة بتنفيذ التزاماتها أمام جميع المنظمات الدولية التي تدرج ضمنها، منوهًا أنه في نفس الوقت فإن اليونان تؤيد أي مبادرة دبلوماسية لتحقيق السلام، مشددًا على اهتمام اليونان بالحفاظ على السلام في أوكرانيا، وخاصة أن آلاف الأوكرانيين، الذين يقطنون أماكن القتال يملكون أصولاً يونانية.
وفي تصريحات لصحيفة “افغي” المقربة من الحكومة، قال ديمتريس فيلانيس، مستشار تسيبراس للشؤون الروسية، إن تقوية العلاقات مع روسيا أمر حيوي من الناحية الاقتصادية، مشددًا على أن “الحكومة اليونانية تفعل كل ما هو ممكن لتعزيز النمو، ونحن نعتقد أن روسيا جزء لا يتجزأ من هذا النمو”.
وخلال زيارة بوتين تمكنت موسكو وأثينا من توقيع حزمة كبيرة من الاتفاقات المشتركة، لاسيما في مجال الطاقة والسياحة الروسية في اليونان، كما تحدث بوتين عن اهتمام روسيا بخصخصة سكك الحديد اليونانية ومرفأ تيسالونيكي.
يوانيس مازيس، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة أثينا الوطنية، أشار إلى أنه على روسيا منافسة الوجود الصيني في اليونان، والتي تقوم بشراء موانئ لها من بينها ميناء بيريوس اليوناني، منوهًا إلى أن الساحة الآن مهيأة لاستعادة روسيا مكانتها الطبيعية كونها الشريك الاستراتيجي المهم بالنسبة لليونان، خاصة في ظل تقارب وجهات النظر حيال بعض الملفات في مقدمتها العداء ضد تركيا.
ميناء بيريوس اليوناني المتنافس عليه ما بين الصين وروسيا
أثينا والسلام الدافئ مع أوروبا
مع اقتراب موعد التصويت على تمديد العقوبات الاقتصادية والسياسية الأوروبية ضد روسيا والمقرر له نهاية الشهر القادم، يراهن بوتين على الشريك الاستراتيجي “اليونان” في كسر الحصار الأوروبي المفروض عليه طيلة الـ 10 سنوات الأخيرة، لاسيما في ظل ما يجمع البلدين من علاقات قوية وتاريخ مشترك.
موسكو تكثف من مساعيها الدبلوماسية لحشد المؤيدين لرفع العقوبات الأوروبية عنها، والأمر لا يتوقف على اليونان فحسب، فها هو وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير يعترف بأن الأمر سيكون “أصعب” هذه السنة إذا تم تمديد العقوبة على الروس.
وزير الخارجية الألماني تحدث عن إمكانية رفع تدريجي للعقوبات المفروضة حال تحقق تقدم بحلول نهاية يونيو في تطبيق اتفاقيات “مينسك” حول النزاع الأوكراني، كذلك أبدت مجموعة السبع في اليابان بتأكيدها على أن العقوبات يمكن أن ترفع حال التزام روسيا بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في مينسك.
وفي تعليقه على العقوبات المفروضة عليه، قال بوتين في مؤتمر صحفي بحضور رئيس الوزراء اليوناني، إن “مسألة العقوبات ليست مشكلتنا، نحن لم نفرضها، بل اتخذنا إجراءات للرد عليها، عندما ترفع، سنقوم بخطوات مماثلة حيال شركائنا”.
وبالرغم من أن العلاقات بين موسكو وحلف الناتو لازالت متوترة خاصة بعد نشر مكونات من الدرع الأمريكية المضادة للصواريخ في رومانيا، وما تلاه من تهديد صريح وجهه بوتين لرومانيا وبولندا بقوله أن هذين البلدين قد يجدان أنفسهما في مرمى صواريخ بلاده، بسبب وجود أجزاء من الدرع الصاروخية الأمريكية على أراضيهما، إلا أن موسكو لازالت تبحث في زيارة بوتين الأخيرة لليونان عن سلام دافئ مع أوروبا يحررها من القيود الاقتصادية المفروضة عليها منذ ما يقرب من الـ 10 سنوات.
فهل ينجح بوتين عبر بوابة اليونان في فتح صفحة جديدة مع أوروبا وطي سطور ما مضى ومحاولة التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية محل الخلاف؟ وهنا سؤال لا بد من الوقوف عنده بعناية شديدة، وهو موقف الولايات المتحدة، خاصة وأن واشنطن ستكون الخاسر الأكبر من هذا السيناريو الذي يقود إلى مزيد من التقارب الروسي الأوروبي وهو ما تسعى أمريكا لمنعه حتى لا يؤثر على مصالحها في المنطقة، خاصة وهي الساعية تثبيت الهيكل الجديد للنظام الدولي على فكرة القطب الأوحد.
وفي المقابل إذا ما تشبث الاتحاد الأوروبي بموقفه وصوت على تمديد العقوبات المفروضة على روسيا، فسوف تواجه موسكو كارثة خسارة شريكها الأكبر مما سيؤثر بقوة على اقتصادها في الوقت الذي يعاني فيه من هزات عنيفة في الآونة الأخيرة، كذلك ستعاني أوروبا من أزمة خانقة إذ من المتوقع أنها ستجد نفسها أمام معضلة حقيقية تتمثل في كيفية تحقيق أمن الطاقة في دول الاتحاد بعد خسارة الإمدادات الروسية التي تعد المصدر الأول للطاقة في أوروبا.