معالم خريطة ثالثة للمجتمعات العربية
يمكن القول بأن المجتمعات تقوم على العلاقات والصلات والروابط، وأنه كلما كانت العلاقات والروابط بين الأفراد والمجموعات والمنظمات أكثر وأفضل وأقوى كان ذلك مؤشر حيوية أكبر، ويؤدي لازدياد الفرص المتاحة أمام المجتمع لحل مشاكله وبناء قدراته.
لكن قبل الحديث عن منصات التشبيك نحتاج أن نعرف كيف تبدو طبيعة العلاقات القائمة فعلًا وفي أي المجالات، أي أننا نحتاج إلى رسم خرائط لشبكات العلاقات المختلفة القائمة في مختلف المجالات، من خلال هذه الخريطة يمكن أن نعرف عن العلاقات الرئيسية الموجودة بالفعل وأيضًا العلاقات الرئيسية الغائبة، وعن الأفراد والمجموعات والمنظمات التي تلعب أدوارًا قيادية أو محورية أو تشبيكية، كما سنعرف عن الأفراد والمجموعات والمنظمات المهمشة أو المعزولة، وعن حجم وشكل التنوع الموجود في الخبرات، وعن حجم وأشكال التعاون والتحالف القائمة.
إن رسم هذه الخرائط سيستدعي بالضرورة رسم خرائط القوى المسيطرة التي وقفت عائقًا أمام تطلعات المجتمع، وبعمليات الدمج والمقارنة والتحليل للخرائط المختلفة ستتوفر المعلومات اللازمة لمنصات التشبيك للقيام بالمهام المختلفة.
ونلفت النظر هنا أيضًا إلى قضية هامة، ألا وهي دور النظم القيمية في تشكيل البناء التنظيمي وشبكات العلاقات داخل وخارج المنظمات والمجتمعات، فعلى الرغم من أن المنظمات في عصرنا الحالي تتخذ أشكالًا متقاربة إلا أن النظم القيمية السائدة فيها تؤثر بشكل كبير على طبيعة العلاقات والشبكات الناشئة فيها.
فعلى سبيل المثال، عندما تغلب علاقات الدم على المنظمة أو على جزء منها وتتحول بشكل كلي أو جزئي إلى قبيلة أو مجموعة قبائل ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع مركزية “شيوخ القبائل” في المرجعية والتحفيز ونشر القيم، كما ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع أن العمليات يغلب عليها أن تكون دائرية.
وعندما يغلب الهوس بالسيطرة والقوة على المنظمة أو على جزء منها ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع أنماط الشللية أو العصابات، كما ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع نمط العمليات التي يغلب عليها الطابع الاستغلالي والسعي الدائم نحو تحصيل القوة وعلامات الاحترام للذوات المتمركزة حول نفسها.
وعندما تغلب فكرة السلطة والنظام على المنظمة أو على جزء منها ينبغي تفهم والتعامل مع النمط الهرمي الصلب، كما ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع نمط العمليات التي يغلب عليها الطابع السلطوي التحكمي.
وعندما يغلب النمط الريادي على المنظمة أو على جزء منها ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع نمط هرمي مرن فيه الكثير من التفويض، كما ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع نمط العمليات التي يغلب عليها الاستراتيجي الباحث عن الإنجاز والساعي للاستقلال.
وعندما تغلب الرابطة الإنسانية على المنظمة أو على جزء منها ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع مركزية فكرة المساواة بين الجميع في إطار شبكة اجتماعية، كما ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع نمط العمليات التي يغلب عليها الطابع التجريبي والسعي إلى حصول الإجماع.
وعندما يغلب التفكير النظمي على المنظمة أو على جزء منها ينبغي توقع وتفهم والتعامل مع بناء تنظيمي وعمليات شبكية تكاملية مرنة.
وحيث إن هذه التقسيمات هي تقسيمات نظرية بغرض الفهم ومعظم المنظمات تحتوى أخلاط من النظم القيمية، فينبغي الوعي بهذا أولًا، بالإضافة إلى التعامل بحكمة ومراعاة النظم المختلفة وطرق التعامل المناسبة للوصول إلى النتائج المرجوة.
ومما رصده بعض الدارسين والمتابعين، ففي البيئات المستقرة يغلب هيمنة نظام قيمي واحد بنسبة النصف ويتقاسم النصف الآخر نظامان أو ثلاثة، أما في البيئات الانتقالية فيتقاسمها نظامان أحدهما ينتمي إلى فئة الـ”أنا” والآخر إلى فئة “نحن”.
نسج الشبكات المجتمعية
بناء على معالم الخريطة الثالثة للمجتمعات التي تحدثنا عنها سابقًا، وباستخدام أدوات التحليل الشبكي المناسبة، يمكن أن يعرف الفاعل الاجتماعي موقعه وسط شبكة الشبكات المجتمعية القائمة بالفعل، وهذه أول خطوة في طريق مساهمة هذا الفاعل الاجتماعي في نسج مجتمع قوي جديد، وبعد أن يفهم الفاعل الاجتماعي خريطة العلاقات القائمة جيدًا يمكنه ساعتها أن يبدأ في الخطوة الثانية، وهي نسج الشبكة.
في أغلب الحالات، إن ترك أمر نسج العلاقات للصدف والنمو التلقائي فإن أغلب العلاقات التي ستنشأ ستكون بين المتشابهين والقريبين نفسيًا ومكانيًا، وهو ما يتسبب في نشوء تجمعات مكدسة وبلا تنوع في المعلومات والمهارات والعلاقات، ومع أن هذا الأمر قد يكون مفيدًا في بعض الحالات التي تتطلب فريقًا متجانسًا للغاية لأداء أعمال محددة أو روتينية إلا أنه لا يمكن أن يؤدي إلى تشكيل الأنسجة المجتمعية المطلوبة.
بحسب عالمي الشبكات فالدس كريبس وجوون هولي(1) فإن بناء شبكة مجتمعية قابلة للحياة – أو ما يمكن أن نسميه نسيجًا مجتمعيًا – يمر بـ4 مراحل:
المرحلة الأولى: الشظايا المتناثرة
بحسب الخبرة والملاحظة، فإن معظم المجتمعات تبدأ بكتل صغيرة منظمة ومتجانسة تجتمع حول هدف أو اهتمام محدد، فإن بقي الحال على ما هو عليه سيبقى النسيج المجتمعي مفككًا وضعيفًا وغير قادر على المبادرة والإنجاز وغير قادر على النمو، وهي الحالة المنتشرة في المجتمعات العربية حاليًا، والتي تكلمنا عنها سابقًا.
لكن في حالة توفر الفاعل الاجتماعي الذي يقوم بوعي ونشاط ويعمل على صناعة التفاعلات المناسبة بين هذه الكتل يمكن أن يحصل الانتقال إلى المرحلة الثانية، هذا الفاعل الاجتماعي يمكن أن نطلق عليه “نساج الشبكات”.
المرحلة الثانية: المحور الوحيد
يجب أن يمتلك نساج الشبكات الرؤية الواضحة، الحافز، الطاقة، والمهارات الاجتماعية ليتمكن من التواصل مع الأفراد والمجموعات المختلفة وتكوين الروابط معهم وبناء الثقة، في هذه المرحلة يكون النساج هو المحور وصلة الوصل بين الكتل، وفي نفس الوقت شريان الأفكار والمعلومات المتصل مع بقية العالم.
تكمن حساسية هذه المرحلة في أن النساج هو صلة الوصل الوحيدة وتتركز عنده القوة، فإن غاب لأي سبب كان حصل التراجع إلى مرحلة الشظايا المتناثرة، لذلك يجب على النساج في الوقت المناسب البدء بتشبيك الأفراد والكتل القادرة على التعاون وفي نفس الوقت يشجع الآخرين على القيام بدور النسج حتى تظهر محاور أخرى.
المرحلة الثالثة: المحاور المتعددة
في هذه المرحلة، يتحول دور المحور الوحيد من نسج الشبكات حوله إلى دور تسهيل قيام محاور جديدة، ويعمل على أن يقل اعتماد الكتل عليه بشكل مباشر، وكل منظمة تمتلك رؤية واضحة والمهارات اللازمة والعلاقات الخارجية المناسبة تستطيع أن تلعب دور محور نساج للشبكات.
وعند نضج المحاور بشكل كاف ونضج قدرة كل منها على التشبيك مع بقية المحاور بعلاقات قوية متكاملة يمكن الوصول إلى المرحلة الرابعة المرجوة.
المرحلة الرابعة: القلب والأطراف
هذه المرحلة تحتاج إلى صبر ودأب طويل لتحقيقها للوصول إلى حالة مستقرة من التشبيك القوي، في هذه المرحلة يحتوي قلب الشبكة على أعضاء المجتمع الأساسيين بما فيهم نساجي الشبكات الذين طوروا علاقات قوية فيما بينهم، أما الأطراف فهي ترتبط بالقلب بروابط أقل قوة، وفي الغالب تكون الأطراف مكونة من 3 أنواع: 1) القادمون الجدد، 2) الجسور مع المجتمعات الأخرى، 3) كتل نوعية لا يمكن ضمها.
من هنا يتضح أن دور الأطراف الأساسي هو الوصول إلى الأفكار والمعلومات التي لا تتوفر في قلب الشبكة والبقاء في حالة اتصال مع البيئة المحيطة، ودور القلب هو العمل على هذه الأفكار والمعلومات وتنفيذ المفيد منها.
وهذا يأخذنا إلى نقطة هامة وهي أن العبرة ليست دائمًا بكثافة التشبيك أو بوجوب الوصول دائمًا إلى علاقات قوية، فالروابط الضعيفة لها دور هام في الإمداد الدائم بالأفكار المختلفة والمعلومات المغذية، أما كثافة التشبيك فقد تؤدي إلى الجمود وزيادة الأعباء بشكل لا يطاق.
أخيرًا، يمكن أن نضيف مسألة هامة تتعلق بدرجة ونوعية نسج العلاقات والتشبيك، حيث إن فكرة نسج العلاقات التي نتحدث عنها ليست مجرد دردشات عابرة أو علاقات عامة، وإنما يقوم النسج على جمع الأفراد المعنيين في مشاريع تبدأ بحجم صغير حتى يتمكنوا من تعلم كيفية التعاون فيما بينهم، هذا التعاون هو جوهر عملية النسج المجتمعي.
جمع الأفراد المعنيين قد يبدأ بمجرد اقتراح اسم شخص على شخص آخر ليتحادثا إن كان الهدف ليس أكثر من بناء رابطة ضعيفة، مرورًا بتقديمهم لبعض بأشكال مختلفة، وصولًا إلى تقديمهم لبعض وتقديم عرض تعاون في فرصة واضحة ومحددة، والمتابعة معهم وصولًا إلى مرحلة الشراكة الناجحة.
جدول رقم 1: هرم روتشيتو للتواصل
المستوى |
النشاط |
7 |
تقديم (أ) إلى (ب) شخصيًا وعرض فرصة للتشارك لمنحهما البداية لشراكة ناجحة |
6 |
تقديم (أ) إلى (ب) شخصيًا مع مواصلة تحفيز التواصل بينهما |
5 |
تقديم (أ) إلى (ب) شخصيًا |
4 |
تقديم (أ) إلى (ب) عبر اتصال على الإنترنت |
3 |
تقديم (أ) إلى (ب) عبر رسالة بريد إلكتروني |
2 |
الاقتراح على (أ) محادثة (ب) والاتصال بـ(ب) سعيًا للتواصل |
1 |
الاقتراح على (أ) محادثة (ب) |
ونكمل الحديث في المقال القادم.