لعل الكثيرين في تقديرهم للاستقالة التي تقدم بها محمد علوش رئيس الوفد المفاوض للمعارضة السورية، قد نَحَو إلى محاولة رصد خلفيات القرار، وتبعاته على العملية التفاوضية، بينما لعل أهم ما يمكن تناوله في الاستقالة، هو قضية أخطاء الحسابات في السياسة العربية، وكيف قادت إلى دمار أمم وشعوب وأوطان.
علوش تحدث في خطاب استقالته عن عدد من الأمور المرتبطة بمفاوضات جنيف، حيث قال إنه لا جدوى لها بينما الشعب السوري لا يزال يُقتَل ويُقصَف ويُحاصَر، كما أشار إلى ما وصفه بالموقف السلبي للمجتمع الدولي إزاء ما يحدث في سوريا من دمار وخراب.
وبقطع النظر عن الموقف القيمي للرجل، وما سجله باستقالته من أمور ونقاط أمام وسائل الإعلام والرأي العام العالمي، فيما يتعلق بالكيفية التي يدير بها المجتمع الدولي الأزمة السورية، إلا أنه من الأهمية بمكان الوقوف على عدد من الأمور التي تعكسها عبارات الاستقالة.
بداية، يجب أن ننفي وبكل اطمئنان أن تؤثر استقالة علوش على سير المفاوضات السورية المراوحة مكانها منذ أن بدأت، لعدد من الاعتبارات.
الاعتبار الأول يتعلق بأن المفاوضات السورية لا تتم – حقيقةً – بين وفد يمثل المعارضة السورية وآخر يمثل النظام السوري، وإنما هي تتم على مستوى عواصم القوى الكبرى الدولية المتحكمة في الأزمة، من خلال دعم هذا الطرف أو ذاك، سياسيًّا أو عسكريًّا، وتحديدًا واشنطن وموسكو.
أما العواصم الإقليمية، مثل أنقرة أو الرياض، لا تستطيع التحكم في القرارات السياسية الكبرى المتعلقة بالأزمة، ويقتصر مجالها على تقديم الدعم العسكري للمعارضة السورية، وهو ما يتم بدوره بإرادة الولايات المتحدة تحديدًا، والتي توجه العمل العسكري على الأرض في سوريا في المستوى الاستراتيجي الذي يحقق مصالح كبرى تسعى لها الولايات المتحدة.
ويبدو ذلك في الموقف الأمريكي القاطع برفض أي عمل عسكري على الأرض، وتحذير الرياض والدوحة وأنقرة من تزويد المعارضة السورية المسلحة بسلاح استراتيجي ينقل المعركة على الأرض نقلة استراتيجية، مع تحذير واضح للرياض وأنقرة من مغبة عمل عسكري بري منفرد بعيدًا عن “التحالف الدولي” الذي تقوده واشنطن، ويعمل في سوريا والعراق “ضد داعش”.
كما يبدو الدور الأمريكي الحاسم في المشهد الميداني السوري، في الدعم الأمريكي الكبير، سياسيًّا وعسكريًّا، للأكراد في منطقة الشمال والشمال الشرقي السوري، بالشكل الذي يدعم عملية رسم الخرائط الجديدة لمنطقة المشرق العربي، والتي تُعرف بـ “سايكس بيكو 2″، ضمن مشروع الفوضى الهدامة الذي تكلمت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كوندوليزا رايس، وهي في المنصب.
وبالتدقيق في تطورات الحدث العسكري في سوريا، سوف نجد أن المتحكم الاستراتيجي في المشهد العسكري الميداني، هما الولايات المتحدة وروسيا بينما طهران، وهي الطرف الإقليمي الأقوى في معادلة التأثير العسكري والسياسي، لا ترغب حتى في أن تسمع عبارة “مفاوضات”، وبالتالي فإنها لا تعمل بأي حال على التأثير على موقف النظام السوري في المفاوضات السياسية.
المفاوضات السورية… تعقيدات أسوأ من الحرب!
الاعتبار الثاني، يتعلق بطبيعة المفاوضات نفسها، والهدف منها، فالمجتمع الدولي وتحديدًا واشنطن، لا ترغب في حلٍّ سياسي للأزمة السورية في الوقت الراهن، وإنما سوف تفرض هذا الحل، عندما تنتهي الحرب في سوريا من تحقيق المستهدف منها في صدد إعادة رسم السياسة الإقليمية بالكامل، بما في ذلك جيوسياستها.
المدهش أن الموقف الأمريكي، يضر أكثر ما يضر حلفاء واشنطن، سواء الإقليميين مثل تركيا، بسبب قضية الأمن والهجرة والأكراد، والأوروبيين، بسبب الموضوع الأمني والهجرة، إلا أن واشنطن مستمرة فيما تفعل، مع بدء الأمور في الجانب الأمني، في الانفلات من قبضة سيطرة الدول والحكومات في تركيا والاتحاد الأوروبي.
والكلام السابق تحليل يؤيده الواقع، وتؤيده معلومات أكيدة، بعضها منتشر في مصادر إعلامية دولية موثوقة لذلك لا يمكن الركون إلى التقديرات التي تشير إلى أن هناك ضغوط أمريكية أو روسية قادت إلى دفع علوش إلى الاستقالة، من أجل تغيير المشهد التفاوضي، فالأزمة السورية وُجِدت لتبقى حتى حين، وهذا الـ”حين” تحدده إرادات الدول الكبرى، وتحديدًا فإن الإرادة الأمريكية هي التي ترغب في استمرار الأزمة السورية كما تقدم.
والأمر الوحيد الذي يمكن أن يمازج بين الأمرَيْن أن تكون استقالة علوش بناء على ضغوط شاركت فيها الولايات المتحدة، من أجل تحريك العملية السياسية في واشنطن، وبين توظيف واشنطن الحرب السورية في تحقيق أجندة أهداف بعينها، أن تكون هذه الأهداف، ترى واشنطن أنها قد تحققت، والبعض يركز في ذلك على خطوة الأكراد في مارس الماضي، بإعلان فيدرالية خاصة بهم في شمال سوريا، وتمكينهم من التمركز السياسي والعسكري في مناطقهم، وعلى تدمير الجيش السوري النظامي.
ولذلك يرى البعض أن توقيت أغسطس المقبل الذي حددته الولايات المتحدة لبدء عملية سياسية في سوريا، تفضي إلى تحقيق السلام، ليس اعتباطيًّا.
إلا أن هناك ما يفت في عضُد هذا التقييم هو أن تمكين الأكراد لم يتم بالشكل المرغوب فيه أمريكيًّا وإسرائيليًّا؛ حيث إن مشروع الدولة الكردية هو أحد أهم مفردات المشروع الصهيوني في المنطقة، لأجل ألا تكون إسرائيل حالة شاذة، والتعاون الكردي الصهيوني قائم منذ الثلاثينات من القرن الماضي قبل حتى قيام الدولة العبرية.
كما أن “داعش” لا تزال قائمة، ولا يمكن تصور عملية سياسية في سوريا تحذف الرئيس السوري بشار الأسد من المعادلة، وقيام نظام انتقالي بديل أو حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات ومستقرة، في ظل وجود داعش، التي هي بدورها ذات طبيعة وظيفية تكمل بعض جوانب المشروع الأنجلوساكسوني الجديد القديم، في المنطقة العربية.
في المقابل، فإن الفترة المتبقية على أغسطس الأمريكي هذا، لا يمكنها أن تطرح علاجًا نهائيًّا لملف داعش.
داعش لاعب رئيسي في توجيه الجدول الزمني وأجندة أهداف الحرب في سوريا
يُضاف إلى ذلك أننا أمام تصريحات عديدة لمسؤولين عسكريين ودبلوماسيين أمريكيين، من بينهم الرئيس الأمريكي نفسه باراك أوباما، قالوا إن موضوع داعش سوف يتطلب سنوات للقضاء على التنظيم، كما أن هناك – وهو الأمر الطريف في الموضوع – مشروعات أمريكية للتعامل مع ملفات منبثقة عن الحرب في سوريا، مثل ملف اللاجئين، موضوع لها تواريخ في 2017م وما بعده!
كما أن ظروف الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل، كما هو معروف بالضرورة من السياسة الأمريكية، لا تسمح بموقف أمريكي جاد لإنهاء الحرب في سوريا أو حتى بدء عملية سياسية انتقالية مستقرة.
إلا أنه على المستوى السياسي القريب، يمكن القول أن تأثير غياب علوش سوف يبدو في تركيبة الوفد السوري المعارض في المفاوضات، حيث هناك رغبة في تغيير تركيبته، لضم ما يُعرف بـ”معارضة القاهرة” (شاركت أطراف معارضة للنظام السوري في أكثر من مؤتمر في العاصمة المصرية في 2015م، في يناير وفي يونيو وفي ديسمبر).
ومعارضة القاهرة مختلفة تمامًا في مواقفها وأجندتها، وأقرب إلى الموقف الروسي فيما يطرح في مفاوضات جنيف، حيث لا تطرح مبدأ رحيل بشار الأسد وأركان حكمه عن السلطة، ولا تتمسك بمبدأ تشكيل الهيئة الانتقالية بصلاحيات كاملة، مع وضعها للجيش السوري النظامي كممثل وحيد للدولة السورية، وهو بطبيعة الحال يبدو وكأنه موقف يطرحه النظام السوري ومؤيدوه أنفسهم!
وهو ما نراه في تصريحات للقيادي في مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية أنور المشرف، لوكالة “سابوتنيك” الروسية، الإثنين 30 مايو، قال فيها: “ادعاء علوش أن الجيش العربي السوري يقاتل ويقتل المدنيين، كذب، وسيبقى الجيش السوري أحد مؤسسات الدولة والوحيد المفوض لمحاربة الإرهاب، فحتى إذا توصلنا لحل سياسي سيبقى الجيش السوري وسندعمه”!
هذا يمكن تفهمه وتصديقه، أن روسيا مارست ضغوطًا لاستقالة علوش، لتغيير تركيبة وفد المعارضة السورية في جنيف، الذي يغلب عليه ما يُعرَف بمعارضة الرياض – إشارة إلى مؤتمر المعارضة السورية المنعقد في العاصمة السعودية في ديسمبر الماضي – باعتبار أن علوش وأسعد الزعبي، معروف عنهما أنهما معارضان لمشاركة الأكراد في وفد المعارضة، باعتبار الموقف التركي، بينما الأكراد متحالفين مع الولايات المتحدة.
كما أنه وفيما ترى روسيا أن “جيش الإسلام” هو تنظيم إرهابي ومرتبط بفكر تنظيم القاعدة، فإن علوش مقرب للغاية من جيش الإسلام الذي تدعمه المعارضة السورية المدعومة بدورها من الرياض.
ولكن هل الموقف الروسي سيقود إلى نتيجة؟!
في اعتقادٍ خاصٍّ فإن ذلك لن يحدث، وربما يكون الموقف الروسي هذا – لو صحت التقارير والتصريحات المتعلقة بهذا الأمر – مجرد مناورة، للتأثير على موقف المعارضة السورية وطعنها في مصداقيتها بمشاركة شخصيات مثل المشرف فيها.
مباراة صفرية!
وبعيدًا عن كل هذه التفاصيل، وحتى لو صدقت نوايا الروس والأمريكيين في صدد حلحلة الأزمة السورية في صيف العام الجاري؛ فإنه لا يمكن القول بأن هناك نتيجة يمكن الخروج بها من المفاوضات في جنيف، باعتبار صفرية الحرب.
فلا يمكن بحال تصور أن تتخلى إيران أو روسيا عن الأسد أو عن بنية النظام السوري الحالي، في ظل اعتبارات مصالح سياسية واقتصادية وأيديولوجية، تقول باستحالة قبول إيران أو روسيا التخلي عنها.
المسافة بين المقاعد تعكس مساحات شاسعة في المواقف على الأرض!
كما أنه وفي حالة إيران بالذات، فإن الخيارات الموضوعة: إما سوريا كلها أو لا أحد، لأن هذا صلب مشروعها الإقليمي، وهو المبدأ نفسه الذي رفضت بموجبه تقسيم العراق، لأنها تريد العراق كله، كما لا يمكن تصور أن تقبل إيران أو حلفاؤها في سوريا وخصوصًا “حزب الله” اللبناني، بمشاركة فصائل من السلفية الجهادية (تكفيرية بحسب تعبيرات حسن نصر الله)، في عملية سياسية توافقية، لأنهما ضدان أيديولوجيًّا وسياسيًّا وحتى دينيًّا، وكلاهما يقصي الآخر.
وكما لا نتصور ذلك في حالة إيران وحلفائها، فإنه كذلك غير متصوَّرٍ أن تقبل المعارضة الجهادية في سوريا، بـ”النصيريين” “الرافضة” “الكفرة”، في عملية سياسية واحدة، يشاركون هم فيها، خصوصًا بعد كل هذا الدم الذي أُريق والخراب الذي تم.
في المقابل، لا يمكن بحال من الأحوال تصور أن تجتمع المعارضة السياسية السورية التي توصف بالمعتدلة مع النظام السوري الحالي، حتى من دون بشار، لأنه وقتها سوف تفقد كامل مصداقيتها، باعتبار أنها وضعت أيديها في أيدي نظام مجرم ملطَّخ بدماء السوريين.
ونفس المنطق بالنسبة للقوات التابعة لفصائل المعارضة السورية “المعتدلة”، والتي تُعتبر أكثر الأطراف غموضًا في الموضوع برمته، حيث لا يوجد اتفاق على قائمة واحدة لها، ولا على تعريف ثابت لهذا المفهوم نفسه، حيث لا يمكن تصور أن تنخرط في الجيش السوري مجددًا، حتى ولو تحت سيطرة حكومة انتقالية لا يشارك فيها الأسد ولا نظامه.
كما لا يمكن تصور أن تقبل السعودية، وهي الداعم الأكبر للمعارضة السورية المسلحة مع تركيا، ذلك، في ظل عداوات شخصية بين آل سعود وبشار، ومصالح حيوية للسعودية فيما يتعلق بتعطيل المشروع الإيراني في سوريا، وفي الإقليم بشكل عام.
استقالة علوش وكوارث التقديرات الخاطئة!
لعله في ظل التباس وغموض الموقف العسكري والسياسي في سوريا، وآفاقه المستقبلية، تبقى نقطة شديدة الأهمية، في استقالة محمد علوش، وتحديدًا في منطق استقالته ذاته.
فهل هو كان يتصور أن هناك حلاًّ سياسيًّا للأزمة في سوريا، في ظل الحقائق السابقة لهويات ومواقف أطراف الحرب؟! وهل من المعقول أن يكون قد ارتكن على تصرف إقليمي أو موقف دولي؟!
لو كان تصور ذلك، فهو خاطئ، لأن الأزمة في سوريا – كما تقدم – لن يكون لها حل توافقي وإنما صفري، وفي الغالب سوف تنتهي بإبادة قوات المعارضة السورية على الأرض، بعد بضع سنين، عندما ينتهي دور الحرب في رسم حدود جديدة للجغرافيا السورية والمشرقية.
قد يعذر البعض الرجل بسوء التقدير، ولكننا لو تأملنا تصريحات ومواقف مماثلة حول سوء التقدير، وكيف قاد إلى كوارث، فإننا لا يمكننا بحال أن نعذره أو نعذر غيره لمجرد استقالة مسبَّبة أو كلمة اعتذار.
توني بلير وبوش الابن، بعد تخريب العراق ومقتل ما يقرب من مليون ونصف من أبنائه نصفهم من الأطفال تقريبًا، سواء بفعل الحرب والاحتلال أو الحصار من قبل، عادوا فقالوا: غزو العراق كان قرارًا خاطئًا، والمعلومات التي بُني عليها كانت – كذلك – خاطئة! هكذا ببساطة.
نفس المنطق يمكن تطبيقه على مَن خرجوا من بين ظهراني القوى الثورية العربية، وعلى رأسها القوى الإسلامية، وقالوا: مصر والعالم العربي، كانت قرارًا مبكرًا، ولم نكن مستعدين له، يقولون ذلك، بينما بلدان تمزقت وغرقت في أزمات وانقسامات مجتمعية وسياسية، لا يمكن لها أن تقوم منها الآن، والوضع في ليبيا واليمن واضح، وكذلك في مصر وتونس، وإن كان بدرجة أقل.
وفي سوريا، “يؤكدون” على أن قرار تسليح الثورة بدوره “كان خاطئًا”، وأن سوريا من الأصل لم تكن بحاجة لثورة على خلفيات اجتماعية أو اقتصادية، في ظل نجاح سياسة النظام الحالي قبل الحرب، في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وتحسين مستوى الخدمات التعليمية والصحية، وغير ذلك.
يقولون الثورة كانت خطأً وكانت مسيسة من الخارج وتسليحها كان أكبر خطأ… يقولون ذلك كله، بعد ضياع البلد بالكامل وتخريبه وتدمير أجيال كاملة منه، آنية وقادمة!
نعم، هي بالفعل قرارات خاطئة، لكن ليس بمفهوم الخطأ، وإنما اشتقاقًا من مفهوم الخطيئة!