غالبًا وعلى العادة تكون استجابة الحكومات في الأنظمة الديمقراطية لمطالب شعوبها على وفق مبادئ الدستور والقوانين التي تنظم الحياة الاجتماعية، بما تنتج من معالجات، فهي تصب في الحفاظ على النظام الديمقراطي من جانب وعلى مصالح الشعوب من جانب آخر، إلا عندما تتعارض المطالب مع رؤية الحكومة أو عندما تمتنع الحكومة عن تنفيذ الاستجابة لمطالب الشعب، فينفصل الوثاق الأول بين الشعب والحكومة من العقد الاجتماعي، ومن ثم في هذه اللحظة الانفصالية يتحول النظام الديمقراطي إلى النظام اللاديمقراطي (سمها ما شئت) ليحاول النظام في صورته الجديدة الدفاع عن مصالحه الحزبية في شعار الدولة.
لا شك أننا لا يمكن أن نتبنى نظامًا ديمقراطيًا بمعزل عن الممارسات أو الآليات التي تحقق مفاهيم مبادئ الدستور الديمقراطي والقوانين المشرعة التي يفترض أن تمتاز بالشفافية وفصل السلطات وأخذ دورها في الحياة الاجتماعية، وما جرى في العراق من مصداق عملي للمكتوب والمخزون في ذاكرة العقل السياسي أو المواطن العراقي، أفرز تناقضًا كبيرًا، مما أدى وعلى مرور سنوات عديدة متراكمة إلى تأثير ملحوظ على تفاعل الشعور السيكولوجي المأزوم نتيجة الذاكرة السياسية لتاريخ الشعب.
حاول السياسي العراقي أن يتجاوز اللحظة التي توثق فشله الطبيعي في سياق التجربة العملية والتي تؤشر حالة الانعكاس غير المقصود أو العلة التي تقف أمام تقدم العملية السياسة، بدأ بخلق مجموعة كبيرة من الأفكار أو تاريخ من السرد الحزين لتحصيل السعادة العراقية ولا سيما بعد أن مرّ العراق بتاريخ كبير من الأزمات التي جعلت منه كائنًا متهالكًا يبحث عن لحظة استراحة وانتظار جيل سوي يؤسس لفلسفة الدولة المعاصرة التي تسير مع ركب الحضارة والعمران.
ولا يفوت الباحث الرصين أن يجمع بين الأحداث الفردية منها أو المركبة التي أنتجت جسمًا “مشوها” شوشّ على اللحظة الحاضرة التي يحتاجها العقل الفردي محاولاً الفصل بين الماضي والحاضر في إقامة ورش عملية عديدة ومتنوعة لخلق الحالة الفضلى التي يمكن أن تنعش الذاكرة وتعْبر الحالة السيكولوجية المصاحبة للشخصية العراقية، إلا أنه وللأسف الشديد على الرغم من التنوع الكمي والنوعي سواء أكان لمراكز البحوث العراقية أو منظمات المجتمع المدني، إلا أن كل ذلك لم يجدِ نفعًا إلا في مخزون الذاكرة المؤرخة لتتحول إلى حجج منطقية ربما تمتلك الإجابة الصريحة على أسئلة أجيال المستقبل، وهذا يعني أن هناك فصل تام بين المنتوج المعرفي والسلوك السياسي الذي يحاول الاستفادة من قراءة الأحداث الجزئية التي تشكل اللوحة الحاضرة لحركة ووجود دولة العراق.
فالاختفاء خلف المشكلات التي جاءت بعد 2003 في تحويل حالة الحرب الشاملة التي لاحت بعض الأماكن من صروح الدولة إلى حرب اجتماعية وانحسار مناطق التخوم بين الحرب والسلام.
شكلت هذه الحروب المعاصرة من إرهاب المجتمعات السلمية نمطية جديدة في شكل كيفية الحياة المعاشة والمطلوبة من الفرد العراقي، وتفاعله مع المنتجات التكنولوجية التي جعلت من العالم مفتوحًا على لوحات المرايا الهندسية المتنوعة (المقعرة، والمحدبة، والمستوية)، استفادت منها الدول المتقدمة في رؤية وجهها وصورتها الواقعية والحقيقية التي اكتشفت وشخصت من خلال المرآة المستوية مجموعة من المشكلات في العمليات العلمية، على عكس هذه الشعوب التي عاشت عقودًا طويلة من الزمن الصعب والتي لم يتح لها استنشاق تيارات من الهواء الحر الطلق في محاولة استعادة عافية جسم الدولة.
يمكن أن يكون العراق أنموذجًا لهذا العنوان الذي يسجل تاريخه العام والشامل لحالة اللااستقرار، إذ كان ينحصر بين تاريخين مهزومين، إما تحت احتلال أو حكومات دكتاتورية مستبدة، مما شكلّ ثقافة متوارثة من خلال الممارسات المستسلمة لمقولات السلطة عنوانًا ومناخًا عمليًا للشعب العراقي، لذلك كانت آنذاك عندما تتصدى نخبة معينة للعمل السياسي أو الاجتماعي كانت المهمة شاقة وعسيرة على القيادات الاجتماعية أو السياسية.
ذلك أن العمل الميداني تسبقه فكرة سليمة حتى تتحول إلى ممارسة عقائدية يخلص لها الفرد في سبيل تحقيق الأهداف والنهايات التي تفصل بين التاريخ المؤلم والتاريخ السعيد، وأن الطرح النظري كان يصطدم غالبًا بصنميات صُنعت نتيجة لسيرورات التجهيل المقصود من السلطات غير الشرعية لتحويل الكتلة البشرية إلى روبوتات تنفذ مصالح السلطة في تصعيد حالة اللذة والسعادة لهذه السلطات.
واستطاعوا من خلال وعاظ السلاطين أو المجموعة السوفسطائية إلى ترسيخ مفهوم “السلطة المباركة” في العقل الجمعي من تاريخ طويل، فبدا الفهم حينها يتجاوز المقدمات القَبْلية من المنطق العقلي إلى إيحاءات عاطفية تتعامل مع الصورة المحسوسة على وفق فرضية الأمر الواقع، والارتفاع بها إلى الميتا (واقعية) وإلباسها القوى الفاعلة والمحركة للأنطولوجيا، فتحولت إلى سرديات من الخرافة والأساطير.
ومن هنا كان لا بد من العمل على إشعار الفرد وتثقيفه على تنظيم الحرية الحقيقية من خلال الحرية الفكرية التي تولد مع الإنسان ولا يمكن إيقاف التفكير أيًا كان لونه أو نوعه، بل كان من اللازم أن تبدأ المرحلة الأولى من ممارسة الحرية بشكلها المسؤول عن تنظيم الأفكار وفق المبادئ الإنسانية الصحيحة وخلق حالة كبيرة من الاحتواء وفق نقد الأفكار وتوليد مناخ عام يصلح أن يكون مقدمة مثالية لقبول الآخر وليس على مقولة (التسامح) التي تشعره ضمنيًا بأنه كائن آثم حتى تفضل عليه الآخر وجاء سماحه في سبيل أن يعيش بقية الحياة، بل لا بد أن يقال وفقًا لمقولة الشراكة الضرورية شراكة المكان الذي أنتج مفهوم الجماعات المتعايشة أو حدود الدولة التي ساهم الكل في وجودها.
المصدر: المدى