منذ أكثر ما يزيد عن ربع قرن تقريبًا والعلاقات السعودية الإيرانية تعاني من موجات المد والجذر، وهزات الصعود والهبوط، حتى وصلت في كثير من مراحلها إلى “القطيعة التامة”، وبات تحسن هذه العلاقات ما بين الحين والآخر أمرًا مستغربًا وتغريدًا خارج السرب وشذوذًا عن الدرب قد يصيب البعض بالقلق والترقب.
ومنذ يناير الماضي وإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر، وما سبقها من سقوط عدد كبير من الحجاج الإيرانيين في حادثة تدافع منى، والتي راح ضحيتها ما يقرب من 800 حاج من مختلف الجنسيات، دخلت العلاقات بين طهران والرياض نفقًا مظلمًا جديدًا، تمخض عنه قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ثم جاء قرار الخارجية الإيرانية بمنع مواطنيها من أداء فريضة الحج هذا العام لأسباب أرجعتها إلى العراقيل التي وضعتها السعودية، في مقابل نفي الرياض لهذه الادعاءات وأنها وفرت كافة السبل لتيسير أداء الإيرانيين هذه الفريضة السنوية العظيمة، ليأخذنا المشهد إلى أجواء عام 1987 حيث المواجهات الدامية بين الحجاج الإيرانيين والشرطة السعودية، ويفرض هذا التساؤل نفسه مجددًا: تسييس الحج لصالح من؟
“نون بوست” يستعرض في هذا التحليل أبعاد القرار الإيراني بمنع مواطنيه من أداء الحج، والموقف السعودي حياله، وملامح الحرب الباردة التي طفت على السطح من جديد، وكيف أن هذا القرار يحرج بلاد الحرمين داخليًا وخارجيًا، وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق.
طهران والرياض: تاريخ من التوتر
ما بين 1979 – 2016 مرت خارطة العلاقات السعودية الإيرانية بمحطات هامة وخطيرة ساهمت بشكل كبير في إعادة تشكيل محاورها الرئيسية، فمنذ نجاح ثورة الخميني والقلق السعودي من تصدير هذه التجربة الثورية إلى منطقة الخليج وصولاً إلى إعدام نمر النمر، نستعرض أبرز المحطات الفارقة في تاريخ العلاقات بين البلدين للوقوف على أبعاد الأزمة الراهنة والقطيعة الدبلوماسية الحالية.
1979: اندلاع الثورة الإسلامية في إيران وسيطرة الفكر الشيعي على العقلية الإيرانية، والتلويح بتصدير هذه الثورة إلى الدور المجاورة وهو ما أثار حفيظة وقلق الجار السعودي الذي أعلن حالة الطوارئ القصوى تحسبًا لأي تطور هنا أو هناك.
1980: نشوب الحرب بين إيران والعراق، وما تلاها من انحياز كبير من قبل دول الخليج لصدام حسين في حربه التي دامت ثمان سنوات، توترت خلالها العلاقات السعودية الإيرانية بصورة كبيرة.
1981: الإعلان عن قيام وتأسيس “مجلس التعاون الخليجي” في محاولة لتحقيق التكامل والترابط بين الدول الخليجية وتكوين جبهة واحدة ضد إيران والدول المعادية.
1987: مواجهات دامية بين الشرطة السعودية والحجاج الإيرانيين داخل الحرم، صاحبها رد فعل عنيف من قبل طهران أسفر عن احتلال السفارة السعودية بإيران مما أدى إلى قطع العلاقات بين البلدين حتى 1991م.
1997: فوز محمد خاتمي ذو الفكر الإصلاحي بالرئاسة الإيرانية، شكّل ارتياحًا لدى دول الخليج، مما ترتب عليه تحسن تدريجي في العلاقات الإيرانية الخليجية.
2003: تصاعد حدة التوتر بين السعودية وإيران إثر قيام الإدارة الأمريكية بتسليم مقاليد الأمور في العراق لإدارة شيعية موالية لطهران، مما زاد من حدة المخاوف الأمنية لدى الرياض.
2005: بعد نهاية ولاية محمد خاتمي وتولي محمود أحمدي نجاد الحكم في إيران عادت العلاقات السعودية الإيرانية لمزيد من التوتر مجددًا لاسيما مع تصاعد وتيرة تصريحات نجاد المعادية للسعودية.
2011: مواجهات عسكرية مباشرة بين قوات درع الجزيرة المكونة من جيوش دول مجلس التعاون الخليجي دفاعًا عن أمنها القومي وبين عناصر من الشيعة الموالين لإيران أثناء اندلاع مظاهرات في البحرين، وسط اتهامات لإيران بالتورط في شؤون البحرين الداخلية.
كما شهد هذا العام عددًا من الأحداث التي ساهمت بشكل كبير في تعميق الخلاف الإيراني السعودي، منها، اعتقال إيرانيين عقب محاولتهما اغتيال السفير السعودي السابق لدى واشنطن ووزير الخارجية لاحقًا عادل الجبير، كذلك اشتعال الثورة السورية ودعم إيران لنظام بشار الأسد في مواجهة السعودية الداعمة للحركات الثورية المناهضة للسلطة في سوريا.
2014: اشتعال الموقف في اليمن، واتهام الرياض لطهران بدعم وتمويل جماعة الحوثي التي سيطرت على صنعاء في سبتمبر 2014 فضلاً عن وضع اليد على العديد من المقار الحكومية والاستراتيجية الهامة.
وفي مارس من نفس العام بدأت عاصفة الحزم بقيادة عشر دول عربية وخليجية وإسلامية ضد جماعة الحوثي المدعومة من إيران والموالين للرئيس الهارب علي عبد الله صالح.
2016: السعودية تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران عقب اقتحام مقر سفارتها بطهران وقنصليتها بمشهد، ردًا على مقتل رجل الدين الشيعي نمر النمر ضمن 47 محكومًا عليهم بالإعدام نظرًا لتهديدهم الأمن القومي السعودي.
الملك سلمان يتجاهل الرئيس الإيراني خلال قمة “التعاون الإسلامي” بإسطنبول
تسييس الحج والعمرة: مسؤولية من؟
ما بين رفع شعارات سياسية وهتافات تنتقص من شأن المملكة من جانب، وتضييق الخناق على تجمعاتهم الشيعية داخل الحرم ومراقبتهم بدقة من جانب آخر، تحولت شعائر الحج والعمرة إلى ساحة للصراع والمبارزة السياسية بين طهران والرياض.
ومنذ إعلان الدولة الإسلامية في إيران نهاية ثمانينات القرن الماضي وتحولت مواسم الحج والعمرة إلى مناطات للتراشق السياسي والإعلامي بين الجانبين، وطفا على السطح مصطلح “تسييس الحج والعمرة” والذي بدا يشكل أحد أبرز وسائل الحرب الباردة بين طهران والرياض.
نستعرض هنا أبرز محاولات تسييس هذه الشعيرة وكيف أنها مثلت ورقة هامة في دفع العلاقات بين البلدين إلى طرق مسدودة، في ظل تشبث كل طرف بمعتقداته وثوابته دون التزحزح عنها قيد أنملة واحدة.
خلال موسم الحج عام 1987 اشتعلت ساحة الحرم المكي بمواجهات دامية بين عدد من الحجاج الإيرانيين والقوات السعودية أسفرت عن سقوط ما يقرب من 400 قتيل معظمهم من حاملي الجنسية الإيرانية، مما أدلى إلى قطع العلاقات بين البلدين حتى 1991م.
وفي أبريل 2015 نشبت أزمة دبلوماسية جديدة بين البلدين إثر ادعاء رئيس بعثة العمرة الإيرانية بتحرش شرطيين سعوديين بشابين إيرانيين أثناء التفتيش بمطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، وعلى الفور أعلنت الرياض إحالتها للمتهمين للادعاء العام بعد إبلاغ السفير الإيراني.
وقال المتحدث الرسمي باسم الداخلية السعودية حينها: “إن أنظمة المملكة القائمة على الكتاب والسنة كفيلة بإيقاع أشد العقوبات على من تتم إدانته بارتكاب مثل هذه الجرائم”، وفي الأسبوع الذي سبق هذه الحادثة أيضًا، وقبل إعلان إيران وقف رحلات العمرة، أعادت السعودية طائرة إيرانية منعتها من الهبوط، وقالت إنها لم تحصل على تصريح.
أما على الجانب الإيراني فقد أعلن وزير الثقافة الإيراني علي جنتي إيقاف رحلات العمرة للسعودية، قائلاً: “إن المراهقين الإيرانيين تعرضا لممارسة بذیئة خلال تفتيشهما ما أساء إلى عزة وکرامة الشعب الإیراني”، مضيفًا أنه سيتم تعليق الرحلات الجوية الإيرانية حتى يحاكم هذان المذنبان ويعاقبان، على حد قوله.
وفي مساء الجمعة 11 سبتمبر 2015، سقطت رافعة سعودية كانت تعمل في مشروع توسعة المسجد الحرام بمكة، خلفت هذه ورائها ما يقرب من 108 شهيد، من بينهم 11 إيرانيًا وحوالي 238 جريحًا، من بينهم 25 إيرانيًا حسب ما أعلن عنه الدفاع المدني السعودي، حيث أعلنت طهران حينها استعدادها للتعاون مع السعودية في التعامل مع هذه الحادثة.
ثم جاء حادث تدافع منى صبيحة 24 سبتمبر 2015، والذي أودى بحياة 769 حاجًا من بينهم 465 إيرانيًا، حسب الرواية الرسمية السعودية، ليشعل الصراع الخفي بين طهران والرياض، حيث حمّل مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان الحكومة السعودية مسؤولية الحادث، مطالبًا بموافاة الجانب الإيراني بالتحقيقات الواردة في هذه الكارثة وما إذا كانت هناك شبهة جنائية أم لا، وهو ما أشار إليه أيضًا على خامنئي بقوله: “يتعين على الحكومة السعودية أن تتحمل مسؤولية هذا الحادث المحزن، سوء الإدارة والأفعال غير الملائمة تسببت في هذه الكارثة”.
أما على المستوى الشعبي فقد تظاهر مئات الإيرانيين في 27 سبتمبر أمام السفارة السعودية في طهران احتجاجًا على مقتل الحجاج الإيرانيين، متهمين السلطات السعودية بتدبير هذا الحادث والتسبب فيه، مما زاد حالة الاحتقان بين الشعبين أكثر فأكثر.
شهداء حادث التدافع بمنى سبتمبر2015
إيران تتهم والسعودية تنفي
في خطوة تصعيدية اعتبرها البعض جولة جديدة من الحرب الباردة الدائرة بين السعودية وإيران، أعلنت طهران عدم سفر مواطنيها لأداء فريضة الحج هذا العام، حيث حملّت الرياض المسؤولية واتهمتها بوضع العراقيل أمام زيارة الإيرانيين لبيت الله الحرام، حسبما أشارت مؤسسة الحج والزيارة الإيرانية في بيانها الذي جاء فيه أن “الإيرانيين سيحرمون من أداء هذه الفريضة الدينية للعام الجاري بسبب مواصلة الحكومة السعودية وضع العراقيل بما يحملها المسؤولية في هذا الجانب”، مضيفة أن “السعودية مسؤولة عن منع الحجاج الإيرانيين من أداء فريضة الحج للعام الجاري”، مما وضع بلاد الحرمين في موقف حرج أمام المجتمع الدولي.
وزير الثقافة الإيراني أشار بدوره إلى فشل المفاوضات مع الجانب السعودي في التواصل إلى نقاط مشتركة ترضي الطرفين بخصوص إصدار تأشيرات حج للإيرانيين، حيث توجه وفد إيراني للرياض والتقى عدد من المسؤولين السعوديين واستمرت المناقشات ما يقرب من أسبوع كامل لكنها باءت بالفشل نتيجة القيود التي فرضتها السعودية على إيران، على حد قول الوزير.
وفي المقابل استنكر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الاتهامات الإيرانية، مؤكدًا أن المملكة لا تمنع أي شخص من أداء فريضة الحج، وملفتًا إلى أن بلاد الحرمين لبت جميع المطالب الإيرانية بشأن فريضة الحج لمواطنيها، لكن الأخيرة أصرت على إقحام السياسة خلال الاجتماعات المشتركة التي جمعت بين البلدين.
الجبير، أشار في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره البريطاني فيليب هاموند بجدة، أن الوفد الإيراني رفض التوقيع على مذكرة التفاهم وطالب بالحق في تنظيم مسيرات خلال موسم الحج هذا العام.
أما المعارض الإيراني عبد الله عباس فكان له رأي مختلف، حيث أشار أن منع النظام الإيراني مواطنيه من أداء فريضة الحج هذا العام جزء من مخطط معد مسبقًا يهدف إلى إحراج المملكة دوليًا وأمام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
عباس أكد أن المخطط الإيراني يبدأ بترويج الشائعات عبر وسائل إعلامه بأن السعودية لا ترغب في استضافة الحجاج الإيرانيين ثم يتم العزف على هذا الوتر كثيرًا حتى يتحول إلى قرار رسمي، مضيفًا أن الخارجية السعودية أعلنت عزمها توفير تأشيرات الحج في القنصليات الإيرانية في عدد من الدول الأخرى، أو عبر البريد الإلكتروني، إلا أن طهران رفضت هذا العرض، ولم تكتف بذلك فحسب، بل اتهمت المملكة بوضع “العراقيل” أمام تيسير أداء الحج للمواطنين الإيرانيين.
أما أنور عشقي، رئيس مركز الدراسات القانونية والاستراتيجية بجدة، فقد أكد أن هذه ليست المرة الأولى التي تسعى فيها طهران لـ “تسييس” الحج بهدف تحقيق مصالح أخرى، منوهًا أن إيران تتاجر بالدين من أجل تصفية حسابات سياسية، وهذا بلا شك يخالف تعاليم الإسلام، فالحج علاقة بين العبد وربه، وأن الإيرانيين رفضوا التوقيع على محضر إنهاء الترتيبات.
عشقي كشف عن ملامح المخطط الإيراني الذي يهدف إلى الإساءة لصورة بلاد الحرمين أمام الرأي العام الدولي، وأن هذا الموقف ما هو إلا واحدة من وسائل الحرب الباردة بين البلدين، محذرًا من استخدام الدين بهذه الطريقة التي تضر جميع الأطراف.
مما سبق يتضح أن فصول الحرب الباردة بين طهران والرياض لم ولن تنتهي، وأن مساعي “تسييس” الحج لن تتوقف مهما فرض من قيود أو ضوابط، فكيف يكون الحال إذا ما التزمت إيران بموقفها الرافض لأداء مواطنيها فريضة الحج، وتشبثت السعودية بالضوابط التي وضعتها لإصدار تأشيرات الحج للإيرانيين؟ وهل آن الأوان لدور الوسيط لتقريب وجهات النظر بين البلدين مؤقتًا أم ستطول أمد الحرب الباردة بينهما هذه الجولة؟