ذكريات
لكل منا صفحات من الذكريات الغابرة مطوية في أعماق وجدانه، قد يأتي حدث معين أو موقف عابر فيوقظها من سباتها ويستحضرها من غياهب النسيان، لتمثل أمام أعيننا كشريط مصور يعكس مرآة الماضي، ويطرق باب الحاضر كضيف قادم بلا استئذان.
وللرياضة كذلك صفحات مطوية تحكي قصص أيامها الغابرة، التي أكل الزمان عليها وشرب ولم يترك منها إلا الذكريات، تلك الذكريات هي ما سنحاول استحضاره في سياق تقريرنا التالي، الذي سنسلط من خلاله الضوء على بعض الرياضات التي كانت رائجةً فيما مضى، وشكلت جزءًا من حياة الناس سواءً في محيطنا العربي والإسلامي أو خارجه، قبل أن يعتريها النسيان وتطويها يد الزمان، بفعل عنصر التقادم والتجديد الذي طال شتى مجالات الحياة، وليست الرياضة عن ذلك باستثناء.
– مبارزة الفرسان
لعبة المبارزة الحديثة
لطالما مثلت ثنائية الخيل والسيف جزءًا من وجدان الإنسان العربي منذ فجر التاريخ، فأغرت القادة والأمراء وألهمت الأدباء والشعراء، وقد كانت المبارزة بالسيف والترس هي التسلية الشائعة بين فتيان العرب وكبارهم، لدرجة كانت فيها ساحات القبائل العربية مسرحًا لعشرات المتبارزين يوميًا، وكيف لا والسيف كان السبيل الوحيد لدى تلك القبائل للدفاع عن نفسها من مطامع وهجمات القبائل الأخرى!
كما كان من متطلبات الفروسية آنذاك إتقان استعمال السيف والترس، لذا برع جميع فرسان العرب وخيالتهم في هذه الرياضة، فكانت المبارزات تعقد بينهم في الساحات وتجتذب مئات المشاهدين من مختلف القبائل، وقد استمرت هذه الرياضة شائعةً في القرون التالية، سواءً في محيطنا العربي أو خارجه، حتى أطفأ جذوتها ظهور الأسلحة النارية.
وفي وقتنا الحالي، ورغم انتشار رياضة ركوب الخيل واعتمادها كرياضة أولمبية دائمة، إلا أنها لم تعد مقترنةً برياضة المبارزة بالسيف، التي استمرت بدورها مع اتخاذها أشكالًا جديدة تضمن السلامة لممارسيها، وهكذا اختفت رياضة مبارزة الفرسان في زمن ندرت فيه أخلاق الفرسان!
– كرة الصولجان
مشهد من لعبة البولو الشبيهة بكرة الصولجان
من ألعاب الكرات التي كان يمارسها الفرسان على صهوات جيادهم، حيث يمسك كل منهم بعصا خشبيةً تشبه الصولجان (العصا المذهبة التي يمسك بها الملوك آنذاك)، ويقومون بضرب كرة صغيرة مصنوعة من العظم لإدخالها ضمن حفرة في الأرض، وقد كان تلك اللعبة ذات الأصل الفارسي تجتذب مئات الفرسان في العصر العباسي، حيث كانوا يعتبرونها سبيلًا لتحسين مهاراتهم في ركوب الخيل، كما اجتذبت تلك اللعبة بعض القادة والأمراء، كالخليفة العباسي هارون الرشيد، والملك العادل نور الدين الزنكي، والسلطان صلاح الدين الأيوبي.
في يومنا هذا لم تعد هذه الرياضة موجودة، ولو أن رياضةً تشبهها ولا تماثلها أعيد إحياؤها في النصف الثاني من القرن الماضي، وتدعى لعبة البولو، التي تلاقي رواجًا في أوروبا والأمريكيتين.
– معركة القوارب
صورة لأحد القوارب الفرعونية
كانت تلك الرياضة رائجةً في مصر قبل حوالي 4000 عام، إبان حكم بعض الأسر الفرعونية لمنطقة وادي النيل، وقد دلت بعض النقوش والرقم الأثرية التي عثر عليها في المنطقة، أن تلك اللعبة كانت تقام في مياه نهر النيل، وتجمع بين فريقين يتألف كل منهما من عدد معين من القوارب، حيث يتقدم أعضاء كل فريق في محاولة لاحتلال قوارب منافسيهم، عبر معارك عنيفةً يسمح فيها باستخدام الأيدي والأرجل إضافةً إلى المجاذيف الخشبية.
وقد اختفت هذه الرياضة بكل تأكيد في عصرنا الحالي، واستبدلت برياضات أكثر أناقةً، كسباقات القوارب الشراعية ومسابقات التجديف.
– المصارعة الرومانيّة القديمة
مشهد من فيلم Gladiator الشهير
لعل كثيرًا منا شاهد فيلم Gladiator الشهير، والذي يحكي قصة نوع من الرياضات الدموية العنيفة التي راجت إبان حكم الإمبراطورية الرومانية، الذي بدأ مع مطلع القرن الميلادي الأول، حيث كانت باحات المسارح الرومانية شاهدةً على نزالات المصارعة المميتة، التي كانت تدور بين العبيد والأسرى والحيوانات المتوحشة، الذين كان يلقى بهم في ساحة عراك مشتركة، تحت أنظار حشود من جميع طبقات المجتمع آنذاك، يتقدمهم حكام روما الأباطرة، الذين كانوا مولعين بهذا النوع من الصراعات الدامية التي ترضي نزعات غرورهم وسطوتهم.
وقد كانت تلك العروض جزءًا لا يتجزأ من طقوس الحياة الرومانية آنذاك، واستمرت بشكل دوري حتى أواسط القرن الميلادي الخامس، حيث بدأت بالاضمحلال دون أن تختفي نهائيًا.
وفي يومنا هذا توجد بالتأكيد كثير من الألعاب القتالية كالمصارعة والملاكمة وغيرها، ولكنها تمارس ضمن ضوابط معينةً تحافظ على طابعها الرياضي، وتحول دون اتخاذها جانب العنف والوحشية الذي كانت المصارعة الرومانية القديمة عامرةً به!
– سباق العربات
عملة معدنية رومانية تخلد ذكرى الفائزين بسباق العربات
في الألعاب الأولمبية القديمة التي كانت تقام في أثينا قبل حوالي 500 عام من الميلاد، كان سباق العربات جزءًا لا يتجزأ من فعالياتها التي استمرت نحو 200 عام، وقد كانت هناك سباقات للعربات ذات الحصانين وذات الـ 4 أحصن، كما كان هناك سباق للعربات التي تجرها البغال، وكان السباق مكونًا من 12 دورةً حول المضمار الذي يبلغ طوله 9 أميال.
في وقتنا الحالي اختفت تلك الرياضة من القاموس الأولمبي، وبقيت مشاهدتها مقصورةً على بعض العروض والمهرجانات التراثية الأوروبية.
– شدّ الحبل
لعبة شد الحبل في المدارس
وهي رياضة معروفة لدى أغلب الناس، ولكن ما يجهله الكثيرون أنها كانت من الألعاب الأولمبية فيما مضى، حيث كانت جزءًا من 6 دورات أولمبية حديثة أقيمت بين عامي 1900 و1920، قبل أن تختفي من المنهاج الأولمبي تمامًا.
وتتميز تلك اللعبة ببساطتها وسهولة ممارستها، حيث تعتمد على فريقين يتجاذبان حبلًا يمسك كل منهما بأحد طرفيه، ويفوز الفريق الذي ينجح في جذب الفريق الآخر نحوه.
ورغم اختفاء مسابقاتها المعتمدة، إلا أن تلك اللعبة اللطيفة بقيت تمارس كنوع من التدريبات المدرسية الرياضية الشيقة، التي تساعد على تقوية عضلات الذراعين والساقين.
– تسلق الحِبال
مشهد من استعراض تسلق الحبال في أولمبياد باريس 1924
إذا كانت لعبة شد الحبال اختفت أولمبيًا نظرًا لسهولتها، فإن لعبة تسلق الحبال اختفت نظرًا لصعوبتها! فبعد ظهورها في أول دورة ألعاب أولمبية حديثة عام 1896 في أثينا ضمن فعاليات ألعاب الجمباز، وفشل جميع المتسابقين المشاركين في الوصول إلى قمة الحبل ضمن الزمن المحدد، ألغيت تلك الرياضة تمامًا من منهاج دورة عام 1900، قبل أن تعود للظهور في عدة دورات أخرى على شكل استعراضات لم تدخل ضمن المنافسات المعتمدة، وكان آخر تلك الاستعراضات في أولمبياد باريس عام 1924.
وفي وقتنا الحالي، أصبحت ممارسة تلك الرياضة الصعبة مقتصرةً على رجال الإطفاء والشرطة، الذين يمارسون تدريباتها بحكم طبيعة عملهم، إضافةً إلى بعض المغامرين من محبي التشبه بالرجل العنكبوت!
– مسابقة المناطيد
مشهد من أحد عروض المناطيد الحديثة
المناطيد هو جمع مفرده منطاد، وهو بالون كبير يحتوي على غاز الهيليوم الخفيف، يستعمل كمركبة جوية تحمل الأشخاص والبضائع ضمن قفة مربوطة به، حيث تطير في السماء في مشهد غريب وأخاذ، ويبدو أن منظمي أولمبياد باريس عام 1900 أعجبوا بمنظر المناطيد وهي تحلق عاليًا، فقرروا اعتماد مسابقة المناطيد ضمن منهاج دورتهم الأولمبية، دون أن ينتبهوا إلى صعوبة ممارسة تلك الرياضة على صعيد تنافسي، نظرًا لتعذر مراقبتها والتحكم بها، إضافةً إلى تأثرها الشديد بالأحوال الجوية.
على كل حال، كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي تظهر فيها تلك الرياضة على الصعيد التنافسي، حيث تم شطبها من المنهاج الأولمبي منذ ذلك الحين، واقتصرت مشاهدتها على بعض العروض السياحية والترفيهية غير التنافسية.
– القفز فوق الجِمال
القفز فوق الجِمال في اليمن
ونختتم جولتنا بواحدة من أغرب الرياضات التي كانت رائجةً بين قبائل شبه الجزيرة العربية قديمًا، وخاصةً في منطقة تهامة المحاذية للبحر الأحمر، حيث كان أهلها بارعين في قيادة الإبل والتعامل معها لدرجة جعلتهم ينظمون مسابقات ومنافسات مشهودة في القفز من فوقها!
تبدأ تلك المسابقة الفريدة التي يمكن تشبيهها بمزيج من رياضتي القفز الطويل والقفز العالي، بالقفز فوق جمل واحد، وتنتهي بالقفز فوق 5 جمال معًا! وقد اختفت تقريبًا وطوي ذكرها في القرن الماضي، واقتصرت ممارستها على أبناء قبيلة الزرانيق اليمنية، الذين يعدون من القلائل الذين احتفظوا بأسرار هذه الرياضة ضمن صفحات تراثهم ومناسباتهم الخاصة، والتي استطاعت إحدى المخرجات الأمريكيات اقتحامها منذ مدة، لإعداد فيلم وثائقي قصير عن هذه الرياضة المندثرة بما تحمله من غرابة وتفرد، إليكم رابطًا لمشاهدة الفيلم الوثائقي: