“كل اختيار تقوم به معلق بالملايين من الأوتار الصغيرة التي قد تدمر حياتك كل مرة تختار، وقد لا تدرك هذا إلا بعد عشرين سنة من تدميرك لحياتك، وقد لا تَرُد كل أَثَرٍ لمصدره، وليس لديك إلا فرصة (حياة) واحدة”.
سينكدوكي، نيويورك
تشارلي كوفمان
الأفلام VS المسلسلات
برأيك، ما هو الفارق الأساسي بين الأفلام والمسلسلات كمجالين فنيين؟ من أول وهلة، المجالان يبدوان متشابهين بدرجة كبيرة، فكلا المجالين يستخدم أدوات التصوير نفسها، كلاهما يعتمد بشكل رئيسي على تمثيل الممثلين وكتابة الكتاب وإخراج المخرجين، وعزف الملحنين وسحر المحررين وخبراء المؤثرات البصرية.
منذ اختراع التلفاز وخلال القرن الماضي بدا أن الفارق الوحيد هو “الرخص”، فأدوات تصوير المسلسلات كانت أقل جودة من تلك المستخدمة في الأفلام، والممثلون والكتاب والمخرجون والملحنون والمحررون وخبراء المؤثرات البصرية العاملون على المسلسلات كلهم كانوا عادة أقل خبرة من هؤلاء العاملين على الأفلام، لأن عائدات الإعلانات لا تغطي تكلفة صناعة فيلم.
المسلسلات كانت جوهريًا مجرد سلاسل طويلة من الأفلام القصيرة والرخيصة (الحلقات)، والحلقات عمومًا لا تحكي قصص متصلة رغم أنها تعرض نفس الشخصيات، كل حلقة تقدم صراعات جديدة للشخصيات الرئيسية وتنتهي هذه الصراعات بنهاية الحلقة لينتهي درس الأسبوع، ومع بداية الحلقة التالية، تنسى الشخصيات صراعات الحلقة الماضية، ولا يظهر لهذه الصراعات أي أثر على الشخصيات، وينسى المشاهدون درس الأسبوع الماضي.
والمؤسف في هذا الوضع هو أن مجال صناعة المسلسلات به ميزة عظيمة تجعله يفوق مجال صناعة الأفلام فنيًا، ميزة تم تضييعها وإهمالها لأكثر من سبعين سنة، الميزة هي “الوقت”.
الفارق الذي يجب أن يكون الوحيد بين الأفلام والمسلسلات هو الوقت، فمتوسط مدة الفيلم عادةً ما يكون ساعتين، تخيل لو أردت مشاهدة الأحداث التي مر بها مايكل كورليون خلال السنة منذ عودته من إيطاليا وحتى تزوج من كاي، الأحداث التي حولته من مايكل المنطوي الذي يريد تجنب عمل العائلة إلى مايكل العراب، كان فرانسيس فورد كوبلا حينها سيحتاج ربما لعشر ساعات لسرد هذه الأحداث، لكن بالتأكيد لن يشاهد أحد فيلم مدته عشر ساعات، لكن الجميع سيشاهد مسلسل بعشر حلقات.
فكما أن فيلم العراب قد يعتبر أفضل استغلال لكل ما يجود به مجال صناعة الأفلام (من تمثيل وكتابة وإخراج وموسيقى تصويرية وتحرير … )، فإن “بريكينغ باد” هو أفضل استغلال لكل ما يجود به مجال صناعة المسلسلات (من تمثيل وكتابة واخراج وموسيقى تصويرية وتحرير … و”وقت”).
الوتر
في تحفة تشارلي كوفمان “سينكدوكي، نيويورك”، وفي أهم مونولوج، يقول كوفمان على لسان شخصية الكاهن “إن كل تجربة يمر بها الإنسان تؤثر في كل اختيار يقوم به، وكل اختيار يؤثر في ملايين الاختيارات اللاحقة، حتى إذا انتهى به الأمر، لا يعرف أي اختيار أودى به إلى القاع، فهناك شبكة متشعبة من عدد لا نهائي من الاحتمالات، وحياة الإنسان ليست إلا وتر واحد في هذه الشبكة، وتر تحدده اختيارت كل فرد، فإذا كنت على أي جزء من هذا الوتر فقد يكون من المستحيل أن تتبع أي اختيار كان سينتهي بك إلى حال أفضل، مما يجعل عملية الاختيار مهما كانت صغيرة مرعبة لأبعد درجة”.
“إن الأحداث التي أمر بها حاليًا ليست جرّاء مرضٍ ما، إنها متعلقة باختيارات، اختيارات اتخذتها أنا، اختيارات لازلت أقف عندها”.
وولتر وايت، بريكينغ باد (S04E06)
(ملاحظة: في الجزئية التالية مفسدات لقصة المسلسل، إذا لم تشاهده بعد، تابع القراءة من “تأثير المسلسل”)
دعنا على سبيل المثال نتتبع أحد هذه الأوتار التي انتهت بأهم حدث في المسلسل، مقتل هانك:
ـ لماذا قتل هانك؟ لأنه اكتشف حقيقة وولتر وايت وأراد القيام بواجبه كشرطي بإدارة مكافحة المخدرات.
ـ كيف اكتشف حقيقة وولتر؟لأنه اكتشف المجاملة التي كتبها غيل بيتيكر (كيميائي المخدرات) في كتاب وولتر.
– كيف عرف هانك بشخصية غيل بيتيكر؟ لأن غيل قُتِل ومعه مذكرات تشرح عملية تصنيع الميث.
– لماذا قتل غيل؟ لأن وولتر أمر جيسي بقتله.
– لماذا؟ لأن جاس كان سيقتل وولتر.
– لماذا؟ لأن وولتر قتل اثنين من رجال جاس.
– لماذا؟ لينقذ جيسي الذي ذهب لقتلهما دون أي تخطيط.
– لماذا أراد جيسي قتلهما؟ لأنهما قتلا صديقه.
– لماذا قتلا صديقه؟ لأنه كان يبيع المخدرات في منطقتهم.
– لماذا كان يبيع في منطقتهم؟ لأن جيسي أمره بذلك.
– لماذا أمره بذلك؟ لأن وولتر أمره بذلك
– لماذا أمر وولتر بذلك؟ لأنه وجد فرصة جيدة لاستغلال سمعة جيسي المهيبة.
– كيف حصل جيسي على هذه السمعة؟ لأن وولتر أمره بمعاقبة المدمنين الذين سرقا مخدراته، فقُتِل أحدهم خطأً.
– لماذا أمر وولتر بذلك؟ لأنه تعلم من توكو أن مجال تجارة المخدرات، يجب أن يكون المفترس وإلا سيكون الفريسة.
– لماذا قابل وولتر توكو؟ لأنه أراد أن يبيعه شحنة صغيرة من المخدرات.
– ولماذا لجأ وولتر لتصنيع المخدرات؟ لأنه أراد أن يورث أهله ما يكفيهم حياة كريمة بعد موته، وعمله كمدرس كيمياء لا يكفي.
أو لأنه باع حصته من شركة عملاقة في بدايتها، لأنه انفصل عن حبيبته الأولى، والآن يريد تعويض ما خسره، أو لأنه لم يرد تكون أكبر إنجازاته في الحياة هي زوجة متذمرة وابن مصاب بالشلل الدماغي وطفلة أنجبها عن غير قصد ستكون عبء على أمها بعد موته.
أو مجملاً لأن البشر ما لم يكونوا أنبياءً أو فلاسفة ليسوا أكثر من نتاج بيئتهم وتجاربهم.
فكل الاختيارات التي اتخذها وولتر لم تكن لتتغير لأن أيًا من تجاربه السابقة لم تتغير، وكل الاختيارات كانت ستؤدي لمقتل هانك، ليست فقط اختيارات وولتر، بل أيضًا اختيارات جيسي وهانك وجاس ورجال جاس وباقي الشخصيات.
تأثير المسلسل
من الصعب أن تجد أي مسلسل سابق لبريكينغ باد بهذا الكمال، أو بهذا الذكاء في استغلال كل ما يجود به مجال صناعة المسلسلات، وعظمة بريكينغ باد لا تتوقف فقط عند كونه مسلسل كامل، لكن تمتد لتأثيره على المجال بأكمله، المسلسل أثبت أن مستوى عاليًا جدًا من الكمال ممكن تحقيقه، وحوّل المجال من مجال ترفيهي رخيص لمجال فني رفيع.
بسبب بريكينغ باد، أصبحنا نعيش في العصر الذهبي للمسلسلات، منذ عام 2013 (العام الذي انتهى فيه المسلسل)، بدأت مجموعة من أعظم المسلسلات في التاريخ مثل “House of Cards” و”Fargo” و”True Detective” و”Better Call Saul“، مسلسلات تحترم جمهورها وتتعامل مع المجال كمجال فني جاد لا مجال ترفيهي رخيص، كله بفضل “عراب” المسلسلات.