مدينة العنقاء
ما على المدن العربية وأهلها أن ييأسوا إذا تم تدمير المباني السكنية والمعالم التاريخية والبنية التحتية فيها، ففي التاريخ شواهد على مدن أبيدت ومن ثم أعاد سكانها بناءها أجمل من السابق، والشواهد كثيرة في العديد من المدن حول العام في ألمانيا واليابان وإيطاليا وفرنسا، شهدت المدن حروب ضروس وتدمرت بشكل شبه كامل وما إن انتهت الحرب ووضعت أوزارها حتى تم إعادة بناءها سواء بجهود محلية أو دولية، فكيف بتلك المدن إذا قد حققت نجاحًا باهرًا على كل الأصعدة وبنت نماذج تدرس للتاريخ وقامت بمعجزات للنهوض باقتصادياتها ونجحت في المحافظة على هويتها الثقافية والتاريخية على الرغم من تدمير معالمها.
العاصمة البولندية وارسو “مدينة العنقاء”
“باريس الشمال” قبل الحرب العالمية الثانية وبعد الحرب حور الاسم إلى “طائر الفنيق” الذي يحيا من رماده، فمن الحرب النازية إلى القمع السوفيتي استطاعت المدينة النهوض بنفسها وبنائها من جديد، وكذلك كنيت بـ “المدينة العنقاء” لكثرة الحروب التي مرت عليها في تاريخها الماضي والحاضر والتي كان أبرزها الحرب العالمية الثانية، حيث اضطرت المدينة إلى إعادة بناء نفسها أكثر من مرة بعد تدمير أكثر من 80% من مبانيها.
قصفت وحوصر أهلها في مساكنهم ولم يستطيعوا الخروج ومات الكثير منهم جوعًا، وتعرضوا لحملات قتل ممنهجة من قبل الإدارة الاستعمارية النازية في الوقت الذي فعلت الأفاعيل بالسكان الذين قاموا بثورات ضدهم وخصوصًا اليهود القاطنين في أحياء المدينة والذين كان لهم أكبر تجمع في أوروبا، وعند نهاية الحرب العالمية الثانية ثار سكان وارسو على النازيين الذين عمدوا إلى نسف المدينة فوق رؤوس سكانها إلى أن جاء السوفييت وتم تحريرها، وكان حصيلة من قتل من البولنديين في الحرب قرابة 6 مليون شخص.
في العام 1945 وبعد توقف الحرب والقتال والثورات التي أدت إلى هدم جزءًا كبيرًا من المدينة، حكم السوفييت في ظل النظام الشيوعي دول أوروبا الشرقية ومن بينها بولندا وأقاموا حواجزًا تجارية ورقابة صارمة أدت لعزل الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية عن بقية دول العالم، فيما سمي بـ “الستار الحديدي” كناية عن العزلة التي اعتمدها الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية.
بعد سقوط الستار الحديدي
منذ قرابة ثلاثة عقود أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط الستار الحديدي، دخلت بولندا النمو من أوسع أبوابه، ومن خلال اعتماد النظام الرأسمالي استطاعت في الخمس وعشرين سنة الماضية مضاعفة متوسط دخل الفرد خلال تلك الفترة، ودخول الاتحاد الأوروبي في العام 2004 إلا أنها أبقت على عملتها “زلوتي”.
بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2015 بعنوان “إنجازات التعاملات التجارية في بولندا” فإنه أصبح من السهل في بولندا تحقيق تعاملات تجارية ناجحة والبدء في تأسيس شركة جديدة.
ذكرت شركة ماكينزي الاستشارية في تقرير لها عام 2015 أن النموذج الاقتصادي البولندي من المتوقع أن يصبح القوة المحركة لأوروبا، خصوصًا بعد نجاح الحكومة الشعبوية المنتخبة مؤخرًا في عدم تنفير رأس المال والاستثمارات الأجنبية.
وكان الفضل في هذا النمو يعود لموقع مدينة وارسو المركزي والاستراتيجي لبولندا ولأوروبا مع ما تتمتع به من قوى عاملة متعلمة وبتكلفة منافسة مع جودة عالية أدى لاعتماد شركات كبرى عالمية تأسيس فروع لها في المدينة مثل غوغل وفيسبوك وهيم وإنفنتي غيرها.
وبحسب فوربس فإن وارسو احتلت المرتبة الثالثة عالميًا لتفضيل الشركات الصغيرة لتأسيس مقارها فيها وبسبب هذا أصبحت المدينة لاعبًا مهمًا في أسواق العالم الناشئة الصغيرة.
تشكل الصناعة في بولندا اليوم نصف الناتج المحلي، وأهم الصناعات التي تقوم فيها هي بناء السفن والسيارات والآلات وتكرير البترول والزجاج والمنسوجات.
ويعمل 32% من السكان في الزراعة البالغ عددهم زهاء 38 مليون نسمة، وتعد الزراعة أحد أعمدة الاقتصاد البولندي خصوصًا بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، حيث باتت تستخدم 60% من مساحة بولندا للزراعة، وأهم المنتجات الزراعية الحبوب كالقمح والشعير والبطاطس والخضروات والفاكهة، ومن المتوقع في الأعوام القادمة أن تعتمد أوروبا على بولندا كأهم بلد تنتج منتجات زراعية، فضلًا عن الثروة الحيوانية التي تزخر بها البلاد، وتعد كذلك بلدًا مهمًا فيما يتعلق بالتجارة والنقل بين شرق وغرب أوروبا وبين البلقان وشمال أوروبا.