بعد عامين من الاحتجاجات التي أسقطت الطاغية حسني مبارك، كانت فتاة في الخامسة عشرة من عمرها على استعداد للمخاطرة بحياتها لتهزم جيش بلادها الوحش، ولم تكن وحدها في ذلك.
كانت رقية تجلس على ركبتيها خلف جدار من أكياس الرمل، محاولة منع العرق من الدخول إلى عينيها، كانت الشمس فوق الرؤوس مباشرة، وكانت رائحة البلاستيك المحترق تحرق حلقها، تعالت الصيحات والصرخات مع تصاعد إطلاق النار، وأصوات طائرات الهليكوبتر وضجيج الجرافات المدرعة، بحسب تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية.
التوقيت هو منتصف أغسطس/آب من عام 2013، بعد فترة قصيرة من عيد الفطر الذي يأتي نهاية شهر رمضان، حينها كانت قوات الأمن تفض اعتصامات المتظاهرين في ميداني رابعة والنهضة وسط القاهرة.
كان عشرات الآلاف من المعتصمين يتظاهرون ضد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي بانقلاب عسكري في مطلع يوليو/تموز.
بجانب رقية، جلست مراهقة وشاب حاولا الالتصاق قدر الإمكان بتلك الأكياس الرملية.
بجانبهم، تتمدد جثتا رجلين سقطا برصاص قناصة الشرطة، وتتجمع حولهما بركة من الدماء على الرصيف الخرساني.
“لا تتحركا حتى أخبركما، بعدها اركضا”، هكذا قال الشاب للفتاتين.
أومأت رقية برأسها في صمت وانتظرت بينما كانت تغلق عينيها وتمسك بيد الفتاة الأخرى، كانت لحظات الصمت تلك تعني أن القناصة يعيدون ملء ذخيرتهم، كانت رقية تعرف كيف تجري بسرعة وبشكل متعرج لجعل نفسها هدفاً أصعب على القناصة.
رصاص القناصة
عندما فتحت عينيها، رأت المزيد من الناس، البالغين والشباب والأطفال، يختبئون في زوايا الجدران، وخلف السيارات، ووراء متاريس صنعوها من حجارة الرصيف، أو أي شيء يمكن أن يحميهم من الرصاص القادم من الميدان، أو من القناصة المتمركزين فوق أسطح المنازل من حولهم.
هنا، وقف رجل ملتح ذو بنية قوية فاتحاً ذراعيه في مواجهة الميدان. صاح الرجل قائلاً: “أنا لن أزحف”، ثم قام بالتكبير. قامت رقية بإغلاق عينيها مجدداً، ولكنها سمعت تحطم رأس الرجل بعدما أصابه رصاص القناصة.
“الآن”، هكذا أشار الشاب للفتاتين اللتين قامتا بالتحرك خلفه بشكل متعرج، من اليمين إلى اليسار، متجهين نحو ملاذ في شارع جانبي، كانت رقية في ذلك الوقت في الـ15 من عمرها، وكانت نحيلة وسريعة، إلا أن الفتاة الأخرى كانت أكبر سناً وأثق،. أصيبت الفتاة الأخرى برصاصة في ساقها وسقطت بينما كانت رقية تتابع المشهد برعب شديد، زحفت الفتاة تلك الأمتار المتبقية تجاههم، تاركةً خلفها أثراً من الدماء.
ارحل.. ارحل
قبل ذلك بـ6 أسابيع، وفي الثلاثين من يونيو/حزيران تحديداً، خرج مئات الآلاف من المصريين في مسيرات في أكبر المدن مطالبين باستقالة رئيسهم، حيث كان مرشح الإخوان المسلمين – محمد مرسي – قد نجح في الوصول إلى الحكم من خلال الانتخابات قبل ذلك بعام واحد أمام مرشح مؤيد للجيش بنسبة 52%.
في البداية، بدت المسيرات المناهضة لمرسي كصدى للتظاهرات الشعبية التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك بعد 3 عقود في الحكم، حتى أن المتظاهرين قاموا بترديد نفس شعارات ثورة الخامس والعشرين من يناير “ارحل.. ارحل”، “الشعب يريد إسقاط النظام”، كما تمكنت حركة تُدعى “تمرد” – قامت بتنظيم المظاهرات – وقالت إنها جمعت 22 مليون توقيع على عريضة تطالب باستقالة مرسي وعقد انتخابات رئاسية مبكرة.
ولكن في الوقت الذي بدت فيه حركة “تمرد” كمنظمة شعبية – يصطف متطوعوها في شوارع القاهرة لجمع التوقيعات من السائقين – كانت الأمور مختلفة خلف الستار، حيث كانت مدعومة من قبل رموز النظام السابق من رجال الأعمال والجيش والذين أرادوا إسقاط الرئيس والإخوان المسلمين.
الخوف من الإخوان.. لماذا؟
كانت مصر دولة عسكرية منذ عام 1952، وقد خاض الإخوان المسلمون صراعاً مع حكامها على مدار تلك السنوات. حتى عام 2011، كانت الجماعة محظورة، كما تعرّض أعضاؤها ومن يشتبه في التعاطف معهم أو مع الإسلام السياسي للمراقبة والسجن والتعذيب وصولاً إلى الإعدام.
كان النظام الذي دائماً ما جاء برجال الجيش على رأس السلطة بداية من جمال عبدالناصر وأنور السادات وصولاً إلى حسني مبارك، يملك أسبابه للخوف من الإسلاميين. فرغم أن الإخوان قد نبذوا منهج العنف في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن أعضاء مجموعة جهادية قامت في عام 1981 باغتيال الرئيس أنور السادات في عرض عسكري، على بعد 500 متر مما يعرف حالياً بميدان رابعة.
منح سقوط مبارك فرصة جديدة للإخوان تمكنوا من خلالها من الهيمنة على الانتخابات البرلمانية في مطلع 2012. وفي يونيو/حزيران من العام نفسه، أصبح مرسي أول رئيس مدني منتخب في مصر.
هنا، انقسمت البلاد، في الثلاثين من يونيو/حزيران، مع تظاهر المعادين للإخوان ضد مرسي مصوّرين إياهم على أنهم مجموعة من المتشددين الذين يخططون لإنشاء دولة إسلامية على غرار النموذج الإيراني، قام مؤيدو الإخوان بتنظيم تظاهراتهم الخاصة، التي كانت في صورة مسيرات أصغر لدعم الرئيس في القاهرة، انقسمت تلك المظاهرات المؤيدة لمرسي إلى مركزين رئيسيين: أحدهما في رابعة، شرق القاهرة، بينما كان الآخر في ميدان النهضة غرب القاهرة.
الدفاع عن العدالة
اعتصمت رقية في ميدان رابعة العدوية بدءاً من 30 يونيو/حزيران. كان السبب بالنسبة لها أن العالم قد أشاد بالاحتجاجات الضخمة ضد مبارك التي ملأت ميدان التحرير كرمز مُلهم للتعبير عن الحرية والديمقراطية، وأنه بعد الثورة يجب أن تنتقل السلطة ليد الشعب، فلماذا لا يحدث ذلك في رابعة من جديد؟
كان بعض أفراد عائلة رقية وأصدقائها من الأعضاء بجماعة الإخوان، في حين كان البعض الآخر من المتعاطفين مع الجماعة، وجميعهم عانوا بصورة مباشرة أو غير مباشرة من سنوات الاضطهاد.
على الرغم من صغر سنها، فضّل والدا رقية أن يشاهدا ابنتهما تقف للدفاع عن العدالة بدلاً من الرضوخ للوضع المقيت. شعرت رقية بالانتماء لمتظاهري رابعة، وأنه من الواجب عليها أن تساعدهم.
بجانب طلاب آخرين في الثانوية والجامعات، تطوعت رقية عند نقاط التفتيش في مدخل الميدان، حيث كانت تتحقق من الحقائب وبطاقات الهوية للنساء القادمات، حيث تتأكد من عدم وجود أسلحة مخبأة أو متفجرات عند المدخل الغربي للميدان.
وقع الانقلاب
بعد 4 أيام من الاحتجاجات الفوضوية في الشوارع، أعدم الجيش ما كافحت من أجله جميع الفصائل والجماعات، ونفذ ما خافوا حدوثه، الانقلاب العسكري. أتمت رقية عامها الـ15 في الثالث من يوليو/تموز، وهو اليوم ذاته الذي ألقى فيه الجيش القبضَ على مرسي ووضعوه في السجن.
كانت رقية فتاة هادئة ومجتهدة تدرس في مدرسة إسلامية، حيث حاولت الموازنة بين المظاهرات وامتحانات نهاية العام، في الصباح، أنهت رقية آخر امتحاناتها في مادة الجبر وذهبت مباشرة للعمل في نقطة التفتيش، وبحلول المساء، كانت منهكة للغاية، إلا أنها ظلت مستيقظة مع متطوعي التأمين الآخرين للاستماع إلى كلمة الانقلاب المنتظرة من خلال الراديونه لم تشعر رقية بالقلق، فمرسي رئيسهم الشرعي، ولن يخذله الله كما خذل الطاغية مبارك.
ولكن عندما سمعت قائد الجيش عبدالفتاح السيسي يقول إنه قد أُلغِي العمل بالدستور، وتم تعيين رئيس انتقالي للبلاد قبل عقد انتخابات جديدة في وقت قريب، علمت بأن ما حدث كان انقلاباً.
حولها، كان الشباب قد بدأوا في البكاء طلباً لمساعدة الله، دائماً ما بدا هؤلاء في صمود وقوة، ودائماً ما دعموا رقية ودعوها بـ”أختهم الصغرى”، قبل أن يظهر عليهم الضعف والهوان فجأة. في منتصف الليل، سمعت دويّ إطلاق النار في الظلام حيث حاصرت قوات الأمن المنطقة وأغلقتها. كانت المرة الأولى التي تسمع فيها صوت إطلاق الرصاص واقعياً. سقطت على ركبتيها من الخوف، وبدأت في تلاوة بعض الآيات القرآنية والدعاء بألا يصاب أحد بمكروه.
بالتزامن مع الانقلاب العسكري، أُغلقت قنوات التلفزيون الإسلامية المؤيدة للرئيس. وفي الأيام التالية، قامت وسائل الإعلام المؤيدة للجيش ببث لا ينقطع يمتلئ بالرسائل الوطنية، بالإضافة إلى مهاجمة مرسي والإخوان.
بدا غالبية المصريين في حالة امتنان لعودة الحكم العسكري المألوف بالنسبة لهم بعد 18 شهراً من الاضطرابات.
ضد العسكر
على الجانب الآخر، كان هناك الكثير من الرافضين أيضاً، من بينهم مريدو الإخوان المسلمين، وغيرهم من الإسلاميين، بالإضافة إلى اليساريين والليبراليين. لم تكن كل تلك المجموعات داعمة لمرسي، إلا أن بعضها كان معارضاً للحكم العسكري، أو يرغب في الدفاع عن العملية الديمقراطية، كانت معاقل هؤلاء الرئيسية في ميداني رابعة والنهضة، التي كانت بتنظيم وقيادة الإخوان المسلمين.
بحلول بداية أغسطس/آب، كان ميدان رابعة يضم ما يقارب 85 ألف معتصم من أنحاء البلاد، يعيشون في خيام تمتد على مساحة كيلومتر كامل. حلم هؤلاء بإعادة رئيسهم المنتخب وإعادة الجيش لثكناته في الصحراء، كما كانوا على استعداد للمخاطرة بكل شيء – بمشيئة الله – لتحقيق ذلك.
وتقول رايتشل أسبدين كاتبة تقرير “الغارديان” “في وسط فترة الاعتصام، ذهبت لزيارة رابعة، كان ذلك أثناء الصيام في شهر رمضان، حيث كانت حرارة الصيف مرتفعة للغاية كما لو كانت في وسط الصحراء، أغلق الجيش الطرق المؤدية للاعتصام، لذلك اضطررت للسير مسافة كيلومتر متجاوزاً الدبابات المتجمعة والحواجز والمتاريس التي أقامها المحتجون من الطوب وحجارة الرصيف، حتى وصلت إلى نقطة التفتيش التي تقف فيها رقية.
توقعت أن يكون المزاج العام في المخيم كئيباً، إلا أنه كان احتفالياً تماماً كميدان التحرير في ذروة مظاهرات الخامس والعشرين من يناير.
أثناء انتظاري في صفوف النساء للدخول، مر بعض الشباب في دوريات لرشاش رذاذ المياه وسط الأجواء الحارة. كانت النساء من حولي يرتدين الحجاب والأثواب الثقيلة، وكن يضحكن ويتنافسن للحصول على بعض الماء على وجوههن.
في الداخل، كان التجمع في الميدان يعطل حركة المرور، حيث كان حجم الاعتصام كبيراً للغاية، كما كانت الخيام مرتبة بعناية وسط الشارع، حيث تجلس بداخلها الأسر على الحصير ويقومون بقراءة القرآن أو النوم حتى يحين الغروب ووقت الإفطار.
على الأرصفة، كان الباعة المتجولون يقومون ببيع الدجاج المشوي ومسدسات المياه، بالإضافة إلى الفاكهة والنظارات الشمسية. كانت اللافتات تحمل عناوين مثل: “مرسي رئيسنا الشرعي”، “الديمقراطية ضد الانقلاب”.
في الميدان
وأمام مسجد رابعة العدوية بالميدان نفسه، يمكن رؤية المنصة الرئيسية، حيث يقوم متحدثون متعاقبون بالتحدث ورفض ظلم الانقلاب، بالإضافة إلى بعض التلاوات القرآنية.
مؤيدو الجيش ادّعوا أن المعتصمين قاموا بتعذيب وقتل البعض تحت تلك المنصة، وأنهم يخزنون السلاح والمتفجرات هناك، وتضيف “عندما ذهبت أسفل المنصة، كان كل ما رأيته هو مساحات فارغة بين السقالات التي حملت المنصة”.
وتضيف رايتشل مكثت في خيمة ذات أجواء منزلية مع مجموعة من النساء، أغلبهن من المحاضرات بكلية الهندسة وحاملات الدكتوراه، حيث استطاعوا تأمين مصدر للكهرباء من إنارة الشارع، وقاموا بتوصيل المراوح، مع موقد غاز صغير، ولافتة كُتب عليها “مهندسون ضد الانقلاب”.
لن نغادر أبداً
“لن نغادر أبداً”، هكذا قالت سيدة في منتصف العمر، كانت تُدرِّس الهندسة بإحدى جامعات منطقة الدلتا، وأضافت: “الأمر يتعلق بحقوقنا، وكرامتنا وبالديمقراطية، لماذا يسيطر الجيش على البلاد مجدداً بالقوة؟”.
علقت امرأة أصغر سناً قائلة: “نحن مستعدون للموت هنا. نفضل الموت أحراراً على أن نعيش في الظلم، ونعلم أن الله لن يخذلنا حتى لو كان الجيش قد خذلنا”.
وافقت الأخريات على ما قالته، بمجرد أن تعبر نقاط التفتيش عند مدخل الميدان، فالله – وليس الجيش – هو الحكم الأعلى للسياسة الدنيوية.
تقول رايتشل أسبدين لم أعتد أبداً سماع أشخاص يتحدثون عن الاستشهاد، إلا أنه بعد تاريخ صراعهم الطويل مع الدولة، كان ذلك جزءاً أساسياً من الصورة الذاتية للإخوان المسلمين.
يقول مؤيدو الجيش إن متظاهري رابعة والنهضة يسعون للموت، وإنهن يضعن النساء والأطفال في تلك الاعتصامات كدروع بشرية، إلا أن أحدهم لم يسأل: لماذا يحتاج متظاهرون سلميون إلى دروع بشرية في مواجهة قوات الأمن في بلادهم؟
لكن بعد مرور عدة أسابيع، كان من الواضح للجميع بمن فيهم أشد المؤيدين أن مرسي لن يعود، كان الجيش قد احتجزه في مكان سري منذ الانقلاب، وكان الكثيرون قد نسوا أمره.
بالنسبة للغالبية، بدت رابعة كمكان غير واقعي، وأن ما حدث كان ماضٍ يجب تجاوزه، إلا أنها كانت بالنسبة لرقية بمثابة المدينة الفاضلة، عندما نظرت حولها وجدت أن كل شيء في الاعتصام منظمًا وله هدف محدد، كالمطابخ الجماعية وتنظيم الجدول الزمني للمتحدثين على المنصة، ونصب الخيام، وتأمين الاعتصام الذي كانت تشارك فيه.
ظنت رقية – كما ظن مَنْ كان في التحرير في 2011 – أن رابعة هي نموذج مصغر لمستقبل مثالي لمصر.
بالنسبة لها، كانت رابعة أجمل بكثير من التحرير لأن الروح الحقيقية للإسلام هي التي كانت ترشدهم، كانت تعلم في قرارة نفسها أن الانتصار قادم لا محالة.
يأسوا من خطابات الكراهية
لكن رابعة كان لها جانب مظلم، فالشباب الإسلاميون التقدّميون الذين كانوا ينظمون لائحة المتحدثين والعلاقات بوسائل الإعلام يأسوا من الشيوخ الذين يلقون خطابات تثير الكراهية الطائفية ضد المسيحيين وغيرهم ممن قاموا بخيانة مرسي، بدلاً من تحدثهم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
كان هؤلاء الشباب يمزحون عبر فيسبوك قائلين: “ندعوك يا الله أن ينال هؤلاء الشيوخ شرف الشهادة قبل غيرهم”.
بالرغم من زعم قادة مصر العسكريين الجدد أن شرعيتهم مستمدة من مظاهرات 30 يونيو الحاشدة ضد مرسي، إلا أنهم لم يسمحوا بأي شكل من أشكال التعبير عن الرأي قد يهدد مصالحهم، بما فيهم الاعتصامان. حاصرت قوات الأمن اعتصام رابعة، وبدأت في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة.
بداية القتل
في الثامن من يوليو/تموز، قُتِل 42 متظاهراً وأصيب 400 آخرون في اعتصام بالقرب من ميدان رابعة. في السادس والعشرين من الشهر نفسه، طلب السيسي – الذي أصبح المتحدث الرئيسي باسم الانقلاب – من مؤيديه الاحتشاد في مظاهرة لتفويضه “لمكافحة الإرهاب”، على حد وصفه، وخرج عشرت الآلاف في مسيرات تحت حراسة الجيش والشرطة. التظاهر في الشوارع الذي كان وسيلة الشباب لاستعادة السلطة من نظام مبارك، أصبح الآن خاضعاً لأهواء النظام.
كان السيسي قد صرح قبلها بيومين في كلمة ألقاها في حفل تخريج طلاب الكليات العسكرية قائلًا: “الشعب هو مصدر الشرعية، وصندوق الاقتراع هو وسيلتها. لو كانت هناك طريقة أخرى غير النزول إلى الشوارع للتظاهر ضد الشرعية (شرعية مرسي) لقام الناس بها”.
لكن السيسي لم يسمح بذلك لمعارضيه، ففي اليوم التالي للمسيرة المؤيدة له، قُتل حوالي 90 متظاهراً عزّلاً من مؤيدي مرسي برصاص قوات الأمن بالقرب من رابعة. وفي الثامن من أغسطس/آب أعلن رئيس الوزراء الذي عينه الجيش أنه سيتم فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة.
يوم المذبحة
في الساعات الأولى من يوم 14 أغسطس جلست رقية ملتفة بغطاء عند نقطتها، حيث كان عليها العمل يومين متتاليين بلا راحة. قبل الفجر، كان هاتفها يرن، حيث كان عمها يصيح قائلاً: “الجيش يقتحم الميدان، يجب أن تخرجي”، ضحكت رقية وردت قائلة: “يقولون هذا في كل يوم يا عمي، لا تقلق”.
بعد ذلك، سمعت صوت إطلاق النار وظهرت رائحة الغاز المسيل للدموع في الهواء. أسرعت رقية إلى داخل الميدان لدى رؤيتها جرافات مدرعة، تتبعها ناقلات الجنود. كانت والدتها وأختها يحتمون داخل المستشفى الميداني، الذي كان عبارة عن ساحة صغيرة بالقرب من المسجد يحتوي على بعض العلاجات الخفيفة لضربات الشمس والإنفلونزا.
بعدما اطمأنت عليهم، عادت بسرعة إلى مكانها عند أطراف الميدان، حيث كان زملاؤها من حراس الميدان يلقون بالحجارة على المدرعات التي واصلت التقدم وسط سحابة من الغاز المسيل للدموع.
بعد ذلك سمعت دوي الرصاص من حولها. بحسب علم رقية، لم يكن هناك أية مسلحين داخل الاعتصام، على الرغم مما اتضح بعد ذلك من امتلاك 10 أو 20 من المعتصمين أسلحة فيما بعد. بعد دقائق من بدء عملية الفض، استخدم الجنود على الأرض والقناصة من أسطح المنازل المحيطة الذخيرة الحية بلا تمييز تجاه الاعتصام بالكامل.
طبقاً لخطة قوات الأمن، كان من المفترض أن تكون نقطة التفتيش التي تقف عندها رقية بمثابة ممر الخروج الآمن للمعتصمين.
مع اقترابها، واصلت مدرعات الجيش بث رسالة مسجلة تؤكد وجود مخارج آمنة، في الوقت الذي صاح فيه متحدثو الإخوان من المنصة الرئيسية قائلين إنها محض وعود كاذبة، وقاموا بحث المتظاهرين على عدم المغادرة، إلا أن الوقت كان قد تأخر بالفعل. مع انطلاق النيران والغاز وتقدم المدرعات، لم يكن هناك فرصة للهرب.
صاح الرجال في نقطة التفتيش مطالبين النساء بالاحتماء بساتر، إلا أن رقية رفضت أن تتحرك، بعدها سقط صديقها عمرو. على مدار 6 أسابيع، عملوا سوياً بشكل يومي عند نقطة التفتيش.
ركضت نحو الأمام، بينما كانت تصرخ في حين كان الجميع في حالة ذهول، فأي امرأة في الصفوف الأولى ربما يجب أن تكون طبيبة. عندما انحنت بجانب عمرو، شاهدت الدماء تسيل بلا حول لها ولا قوة نتيجة لرصاص أصابه في الصدر والرأس، بينما رأته يموت في تلك اللحظة.
كانت أول مرة ترى شخصاً يموت، كان ذلك في السابعة صباحاً، بعد أقل من ساعة من بدء الهجوم على الاعتصام.
بحلول منتصف النهار، كانت رقية قد نسيت أعداد من رأتهم يموتون أمامها، حيث كانت الجرافات تزيل المتاريس وتسحق من تحتها. في وقت متأخر عصر اليوم، تمكنت قوات الأمن من الوصول إلى وسط الميدان، حيث اقتحمت القوات الخاصة آخر موطئ قدم للمحتجين، وهو أحد المباني الفارغة، وأحد المستشفيات، وأخيراً مسجد رابعة وساحته.
إنهم يخلون الميدان
كان من المفترض أن يكون المسجد والمستشفى مكانين آمنين، إلا أنهما امتلآ بجثث المعتصمين الذي قُتلوا أو سُحقوا أو حُرقوا، حيث يوجد المئات من القتلى على الأرض، مع أوراق صغيرة ربطت بشكل سريع على الكاحلين والمعصمين والفكين.
عند الخامسة والنصف مساءً هدأ إطلاق النار، بينما كانت مكبرات الصوت تعلن عن وجود ممر آمن للمعتصمين عند الجهة الغربية. التقت رقية بوالدها، بينما قامتا بسحب اختهما الصغرى صوب أطراف الميدان. صاحت والدتها ووجهها يمتلئ بالدموع قائلة: “إنهم يخلون الميدان، ويقومون بإجلائنا، علينا المغادرة”، وعندما رفضت رقية المغادرة، صفعتها والدتها بقوة على وجهها، وقامتا بالركض سوياً محاولتين المرور بين الجنود.
ومع مغادرتهما، كان المستشفى الميداني والمنصة الرئيسية والمسجد والمستشفى الرئيسي جميعاً تحترق، كما حرقت الكثير من الجثث التي حُفظت داخل تلك الأماكن.
القاهرة تحت الطوارئ
بنهاية شهر أغسطس، بدت القاهرة كمدينة مختلفة، قام الجيش بإعلان حالة الطوارئ من جديد والتي عاشت فيها مصر بشكل متواصل تقريباً منذ عام 1967، كما فُرِض حظر صارم للتجوال من المغرب حتى الفجر.
تقول رايتشل أسبدين “القاهرة التي عرفتها هي مدينة لا تنام، دائماً ما تكون شوارعها يقظة بالعاملين والبائعين والعائلات حتى الساعات الأولى من الصباح، والآن، عندما وصلت إلى المطار بعد ذلك الحظر، كانت الشوارع ساكنة في الوقت الذي كان التاكسي يقلني بين نقاط تفتيش للجيش يقف فيها جنود يحملون الأسلحة وكلاب الحراسة ليتحققوا من بطاقة الهوية الخاصة بي وتفتيش حقائبي”.
وتضيف “كانت الأسلاك الشائكة تغلق نهاية الشارع الذي أعيش فيه، كما وضع أصحاب مقهى الشيشة سيئ السمعة عند الزاوية، حيث يجلس رجال من الخليج مع نساء يضعن المكياج الثقيل حتى الفجر، العلم المصري في أحد أوعية النباتات عند أحد طرفي الأسلاك الشائكة”.
تمركزت الدبابات وناقلات الجنود عند التقاطعات، بينما أسلحتهم صوب الشوارع الرئيسية، في حين يشرب الجنود الشاي الذي أعده لهم جيراني. في منطقة يعيش بها مواطنون من الطبقة المتوسطة، لا يرغب سوى عدد قليل للغاية في استعداء الجيش.
منع التجمعات وحظر الإخوان
كانت معاني الاعتماد على الذات والتمكين قد انتهت بعد ثورة 2011، حين انسحبت الشرطة من الشوارع في ذلك الوقت، وكان على كل منطقة تأمين نفسها والدفاع عن شوارعها ومنازلها أمام الجريمة الانتهازية.
بحلول خريف 2013، منع الحكام الجدد للبلاد أية تجمعات محلية مماثلة لما حدث في 2011، وأصدروا تعليمات للجميع بالالتزام بحظر التجول حيث عادت المناطق لسيطرة الشرطة من جديد.
حُظِرت جماعة الإخوان من جديد بشكل رسمي، تماماً كما كانت في الفترة من 1954 حتى 2011، كما صادرت الدولة الممتلكات التابعة لها.
لوقت طويل، لم يكن من المعلوم عدد القتلى في رابعة والنهضة تحديداً، وفي تصريح لوزير الداخلية محمد إبراهيم لقناة “CBC” المؤيدة للجيش في 31 أغسطس، قال: “العدد الرسمي للجثث القادمة من رابعة كان بضعاً و40 شخصاً، لقد جاء الإخوان بجثث من المحافظات أخرى إلى مسجد الإيمان ليقولوا إنهم ماتوا في رابعة”.
زعم الإخوان أن أعداد القتلى بلغت 6000 شخص، في حين أن التقارير المستقلة لمجموعات حقوق الإنسان قدرت الأعداد بـ1000 شخص قتلوا في غضون 12 ساعة.
حرق الكنائس
جاء الانتقام متأخراً في أعقاب ذلك، فبسبب دعم المسيحيين المفترض للنظام، قام بعض الإسلاميين بإحراق 37 كنيسة ومهاجمة بعض المدارس والأعمال والمنازل التابعة لمسيحيين، ما أدى لمقتل 4 على الأقل، بالإضافة إلى بعض الهجمات على الدولة أيضاً، حيث تمكن بعض المحتجين من قتل 14 من أفراد الشرطة في قرية خارج القاهرة.
على جدران كنيسة القرية التي أحرقت بالإضافة لمركز الشرطة، كُتب بدهان مرشوش: “سنريكم الغضب والإرهاب”.
في شمال سيناء، قام مسلحون بنصب كمين تمكنوا خلاله من قتل 25 من رجال الشرطة خارج خدمتهم، بينما فشلت قنبلة قوية زُرِعت وسط القاهرة في قتل وزير الداخلية محمد إبراهيم، الذي اعتبروه مسؤولاً عن فض الميادين.
كان ذلك أول انفجار كبير في المدينة على مدار سنوات، وقد هزت القاهريين الذين يفتخرون بكون مدينتهم أكثر أماناً من بغداد ودمشق.
أعلنت جماعة مسلحة في سيناء تدعى جماعة أنصار بيت المقدس مسؤوليتها عن الهجوم. لم يكن هناك أي دليل على صلة هذه الجماعة بالإخوان، لكن في ظل حظر التجول وبقاء الناس أوقاتاً طويلة في منازلهم أمام التلفاز، وصف مقدمو البرامج التلفزيونية متظاهري رابعة بأنهم “إرهابيين وعملاء للعدو”، أو ببساطة وصفهم بأنهم “إخوان”.
السيطرة على الإعلام الفاسد
لم يكن مفاجئاً أن يسيطر الجيش على الإعلام الفاسد المحافظ بسهولة، ولكن ما كان صادماً أن الناس العاديين الذين كانوا يؤيدون الإسلاميين ويدعمون رؤيتهم لمستقبل مصر قد انقلبوا عليهم.
أصبحت كلمة “الإخوان” مرادفاً لكل شيء مكروه يجب الخوف منه من قِبل خصومهم الذين أُطلِق عليهم “المواطنون الشرفاء”. في الوقت ذاته، كان أنصار الإخوان يبالغون في محنتهم عبر الإنترنت، مدّعين أن طائرات الجيش قد قصفتهم، داعين إلى انتقام دموي ضد النظام ومن أيّده وبخاصة المسيحيين.
لقد كانت أعداد الأعضاء المنضمين رسميًا إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، صغيرةً نسبيًا، إذ تراوحت بين 300 ألف ومليون، بيد أن الشكوك امتدت إلى ما هو أبعد من الأعضاء الرسميين في الجماعة. لقد بات اليوم مجرد التلويح بإشارة رابعة سببًا كافيًا للاعتقال والاحتجاز، كما تم تشويه تلك العلامة على وسائل الإعلام.
حتى أن مجرد استخدام لفظ “الانقلاب العسكري” قد يكون سببًا كافيًا لجارك أو زميلك، ليقوم بالتبليغ عنك على أرقام الخطوط الساخنة للشرطة المصرية التي تم الإعلان عنها في برامج الأخبار المسائية، كما يشير لفظ “المواطنون الشرفاء” إلى من قاموا بثورة 30 يونيو.
كذلك في عطلة 6 أكتوبر الرسمية كان ميدان التحرير، وهو رمز الثورة ضدّ مبارك، في قبضة الجيش بشكلٍ كامل. أغلقت الدبابات الشوارع المحيطة بالميدان، واصطفّ الضباط على المدخل الوحيد لنقطة التفتيش.
أما داخل الميدان فقد كان البائعون منشغلين ببيع البلالين، والحلويات وملصقات السيسي مع عبدالناصر، والسيسي مع الأسد الذي يزأر، والسيسي بنظارته الشمسية ذات العلامة التجارية. كما باتت صورة القائد العسكري رمزًا للبطولة على أزياء الرجال، ورمزًا للفخر على الدبابيس التي تستخدمها النساء.
شكراً للجيش
يصيح أحد المنظمين للمظاهرة: “تريد مصر أن تقول شكرًا للجيش”، فتهتف الحشود: “شكرًا، شكرًا للجيش”.
كان ثمّة رجلٌ يحمل صورة السيسي ويقوم بتقبيله باستمرار في فمه، ويقول: “أنا أحبّ السيسي، فقد أنقذنا من الإخوان الإرهابيين”.
لم تخلُ تلك الاحتفالات بالجيش على شاشات التفاز من مظاهر العنف والحقد. رجلٌ آخر، كان منشغلًا بالرقص، ثمّ ناولني ملصقًا قمتُ بفتحه فوجدتُ مرسومًا عليه صورة السيسي يبتسم ويستعد لذبح خروفٍ برأس مرسي!
أبلة فاهيتا
مع حلول شتاء 2013، تمّ رفع حظر التجوال، ولكن تزايدت الهيستيريا من الإخوان المسلمين. في ديسمبر/كانون الأول، شكك أمن الدولة في إعلانٍ نشرته شركة فودافون، استخدمت فيه دمية مشهورة لدى المصريين تسمى “أبلة فاهيتا” واتهمتها بإرسال رسائل مشفرة مسؤولة عن عملٍ إرهابي لجماعة الإخوان المسلمين.
في الأسبوع ذاته، تمّ القبض على 3 صحفيّين يعملون في قناة “الجزيرة” الإخبارية، يحمل اثنان منهم جوازي سفر أجنبيين، وذلك من فندق ماريوت بالقاهرة، كما تمّ بثّ لقطات من إلقاء القبض عليهم على القنوات التلفزيونية الموالية للجيش، مع موسيقى تصويرية متوعّدة، وتمّ اتّهامهم بمحاولة زعزعة استقرار الدولة المصرية.
في بداية عام 2014، استعدّت مصر لأداء استفتاءٍ شعبيّ، كان يتمّ التصويت فيه ظاهريًا على الدستور الجديد الذي تمّ صياغته بعد الإطاحة بمرسي، ولكنّه كان في الواقع تصويتًا على ترشيح السيسي المتوقع لرئاسة الجمهورية.
لم تخلُ عملية التصويت من سخرية المعارضين للانقلاب العسكري، الذين قاموا بتنظيم بعض المظاهرات الصغيرة في الشوارع، بالرغم من أنّ التظاهر قد بات الآن غير قانوني، وبات من حقّ قوات الشرطة اعتقال كل من يرتدي زيًا محافظًا أو يشتبه في كونه إسلاميًا.
اعتقال رقية
في اليوم الأول من التصويت، تمّ القبض على رقية وشقيقتها الصغرى وصديقة شقيقتها، أثناء محاولتهم الدفاع عن فتاتين محجبتين قامت الشرطة باختطافهما. مكثت الفتيات في قسم الشرطة في غرفةٍ بلا نوافذ للتهوية، حيث كان يصطف 6 من الفتيان على الأرض معصوبي العينين ومرتدين ملابسهم الداخلية.
علمت رقية فيما بعد، أنهم جميعًا يدرسون في المدارس الإسلامية، وكانت رقية أكبرهم سنًا وهي في الـ15 من عمرها. جاء ضابطٌ لإلقاء نظرةٍ عليهم ثم قال: “لم يقم آباؤكم بتربيتكم بالطريقة الصحيحة، وسنقوم نحن بذلك، علينا التأكد من حسن سلوككم قبل أن تغادروا”. بعدها تمّت معاقبة اثنين من الفتيان لأنهما ضحكا معًا.
مع حلول المساء، أخذ رجال الشرطة رقية وأختها وصديقتها إلى الزنزانة الجماعية أسفل قسم الشرطة، حيث تحتجز النسوة اللاتي يتهمن بارتكاب جرائم جنائية، مثل تجارة المخدرات والدعارة والعنف. كانت الرائحة هناك كريهة، وكانت إحدى هؤلاء النسوة مهمتها تفتيش كل من تأتي من الخارج. قامت بتفتيش الفتيات بصورة فظة.
كان الجو في الزنزانة حاراً بصورة لا تطاق، ولا توجد بها تهوية. كان بها 30 امرأة مكدسين معاً في مساحة ضيقة، معظمهن كن يدخنّ السجائر. رمقت النسوة الفتيات بنظرات مريبة، ودققن النظر في وجوههن الخائفة وملابسهن الأنيقة. قالت إحداهن: “أصدقاؤكن الذين قتلوا في رابعة ذهبوا إلى الجحيم”.
نكره الظلم
في منتصف الليل، أخذ شرطي رقية للأعلى للتحقيق معها. سألها عن تأييدها لجماعة الإخوان وقرأ عليها قائمة اتهامات تضمنت محاولة تصوير منشآت عسكرية وتعطيل عملية الاستفتاء على الدستور والانتماء لجماعة الإخوان.
قالت رقية: “نحن لسنا أعضاء بالجماعة، نحن نكره الظلم فقط”.
أُطلق سراح الفتيات بعد يومين دون اتهامهم بشيء. لقد شعرن بأنهن محظوظات، فقد سمعن حكايات عن التعذيب والاغتصاب في أقسام الشرطة والسجون. كانت الثورة ضد مبارك قد أشعلها وحشية الشرطة، التي تفتقر إلى التدريب ولا تخضع للمساءلة. بعد 3 سنوات لم يتغير الحال كثيراً.
بعد عدة أيام، سمعت رقية على الراديو نتائج الاستفتاء، 98% من المشاركين صوتوا بنعم لدستور السيسي. كان الأمر أشبه بعهد مبارك، كما سمعت من والديها، حين كان الرئيس يستمر في منصبه بنسبة أصوات تزيد على 90% في كل مرة.
بعد ذلك بقليل، أعلن السيسي استقالته من منصبه في الجيش من أجل الترشح للرئاسة.
انتشرت لافتات في الشوارع تحمل صور السيسي يرتدي الملابس المدنية بدلاً من الزي العسكري، وتظهر “زبيبة الصلاة” على جبهته.
الجيش فرقهم
وحّد سقوط مبارك المصريين – ولو مؤقتاً – من جميع الاتجاهات، ليبراليين وإسلاميين، كبار السن وشباب. ولكن عودة الجيش تسببت في اندلاع الخلافات بينهم مرة أخرى.
برر الجيش الاستخدام المفرط للعنف بمحاربته للإرهاب والتطرف، لكن كل ما فعله هو الدفع بالشباب في هذا الاتجاه أكثر فأكثر.
بينما قام النظام بإيقاع الفتنة بين المواطنين، حاول إظهار صورة تعكس التضامن والتفاؤل. بعد مرور عدة أشهر على فض اعتصام رابعة، بدا المكان كأي تقاطع مروري آخر في القاهرة.
أما المسجد، فقد أعيد بناؤه وطلاؤه بسرعة. تطل لافتة على الميدان كتب عليها: “تجميل وتطوير ميدان رابعة العدوية”، وترى في المنتصف كرة من الرخام يمسك بها ذراعان معوجان. فسر المهندسون العسكريون الذين قاموا بإنشاء هذا “العمل الفني” أن الذراع الكبير يمثل الجيش، والصغير يمثل الشرطة، أما الكرة فهي تمثل الشعب المصري.
رئاسته أتت بمزيد من الكوارث
من السهل أن ترى كيف أن الوعود التي قطعها الجيش ببزوغ فجر جديد كانت وهمية. وصل السيسي إلى كرسي الرئاسة في مايو/أيار 2014 بنسبة تصويت تجاوزت 96%، لكن رئاسته جاءت بالمزيد من الكوارث.
الاقتصاد المتهاوي يستند إلى القروض التي تمنحها دول الخليج الثرية، في محاولة يائسة لاستمرار تدفق الأموال، باع السيسي جزيرتين في البحر الأحمر، لهما موقع استراتيجي، للسعودية.
بالرغم من إلقاء القبض على أكثر من 12 ألف شخص في عام 2015، تحت دعوى انتمائهم لجماعات إرهابية، ظل الإرهاب الحقيقي في ازدياد، فجماعة أنصار بيت المقدس التي بايعت داعش، واتخذت لنفسها اسم “ولاية سيناء”، قامت بتفجير الطائرة الروسية في السماء.
في تلك الأثناء، أنفقت الحكومة مليارات على تفريعة قناة السويس بلا جدوى، وقامت بقتل السياح المكسيك في الصحراء الغربية، كما أنكرت الحكومة تورطها في مقتل الطالب الإيطالي ريجيني الذي وجدت جثته في القاهرة تحمل علامات تعذيب تشتهر بها قوات الأمن.
الولايات المتحدة التي تعتبر السيسي حصناً ضد الجماعات الجهادية تستمر في إمداد مصر بمساعدات تقدر بـ1.3 مليار دولار سنوياً.
وتقول رايتشل أسبدين “آخر مرة رأيت فيها رقية كان في صيف عام 2014 في أحد المقاهي في السوق التجاري الأشهر بالقاهرة، مع تنامي اضطهاد الدولة للمعارضين أصبح من الأفضل أن نلتقي في مكان مزدحم كهذا. أعادت روايتها عما شهدته من القتل وسفك الدماء بصوت خافت، وقد أحاط بنا الكثير من المراهقين يضحكون، والعائلات المثقلة بحقائب التسوق”.
وترى رايتشل أن رقية تمثل جيلاً من الشباب المصريين الذين قادوا المظاهرات من 2011 إلى 2013. رأوا نظاماً يسقط، وشهدوا انتخابات حقيقية لأول مرة في تاريخ مصر، وذاقوا – ولو لبرهة – طعم الحرية واحترام الذات.
لن يقبل هذا الجيل أن يقايض الحرية بالأمن والاستقرار الظاهري كما قبل آباؤهم وأجدادهم. فمحاولة سحقهم خلقت قنبلة موقوتة. فمهما بدت الدولة مستقرة فإنها لن تستمر على هذه الحال طويلاً.
المصدر: الغارديان / ترجمة هافنغتون بوست