شهدت الفانتازيا في العقود الماضية ازدهارًا ملحوظًا وخاصة مع الحمى التولكينية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، واليوم عادت الفانتازيا تتصدر المشهد السينمائي بتحويل سيد الخواتم وهاري بوتر ونارنيا وغيرها من روايات الفانتازيا إلى أفلام، وحتى ألعاب الفيديو مثل لعبة The Witcher وDragon Age وElder Scrolls وغيرها من الألعاب التي يلعبها الملايين، بل إن إحدى الألعاب وهي World of Warcraft بلغ عدد مشتركيها أكثر من 13 مليون لاعب.
حتى الموسيقى لم تسلم من حمى الفانتازيا فظهرت العديد من الفرق التي تقتبس كلمات أغانيها من روايات تولكين ومصطلحاته وغيرها من روايات الفانتازيا، ويقول سير كريستوفر لي ـ صاحب دور سارومان في فيلم سيد الخواتم ـ عن تأسيسه لفريق “شارلمان” الغنائي: “لقد مزجت موسيقى الميتال بالفانتازيا، بسبب قدرة الموسيقى الكبيرة على التعبير”، ولعل من أفضل محاولات تحويل رواية فانتازية إلى موسيقى هي تحويل رواية “ابنة ملك الإيلف” للورد دونساني إلى ألبوم غنائي بالتعاون بين سير كريستوفر لي وماري هوبكن وغيرهم من الفنانين ليخرجوا ألبومًا غنائيًا مذهلاً، ويمكن الاستماع لإحدى أغانيه الرائعة من هنا:
فما سر هذه الشعبية الطاغية للفانتازيا في العقود الأخيرة؟
شعبية الفانتازيا حقيقة لا يمكن إنكارها، فالكتب صاحبة الأرقام القياسية في المبيعات تنتمي إلى الفانتازيا، مثل روايات سيد الخواتم وهاري بوتر وأغنية الثلج والنار “صراع العروش”، وأيضًا الأفلام الأكثر شهرة هي اقتباسات مبنية على هذه الروايات الشهيرة، كما أن أفلام ومسلسلات الأبطال الخارقين تعد جزءًا من الفانتازيا.
ولا نعني بالفانتازيا فقط السيوف والتنانين والسحر، فالفانتازيا معنى كبير وواسع يشمل أكثر من ذلك، بل قد يشمل كل ما هو خيالي، ولكن ما يميزها عن الخيال العلمي، أنها لا ترتبط بحقائق علمية محددة، بل يمكنك أن تقدم تاريخًا بديلاً، أو حقائق علمية مختلقة، أو عوالم جديدة في الفضاء أو عوالم أخرى سحرية، إنها خيال بلا حدود، ويقال إن الفانتازيا تبدأ من حيث ينتهي العلم.
يقول مارك تشادبورن المؤلف الفانتازي البريطاني: “كلما أصبح العالم أكثر عقلانية، جنحنا إلى اللامعقول في خيالنا”.
تقدم الفانتازيا مجالاً للهروب من الواقع، ومن ضغوط الدراسة أو العمل، حيث يتنفس الإنسان الصعداء قليلًا في مغامرة خيالية شيقة قبل أن يعود إلى عالمه الواقعي، فإن كنت في ملحمة شيقة من تنانين وسحرة وجن وأقزام، فإن مشاكل عالمك الواقعي تصبح بعيدة، فأنت قد غادرت عالمك لتحلق في عالم آخر بعيد، كما أن الفانتازيا سهلة القراءة، لا تتطلب منك معرفة علمية أو تاريخية أو سياسية مسبقة، بخلاف أفلام الخيال العلمي كفيلم Interstellar الشهير للمخرج كريستوفر نولان الذي يتطلب منك معرفة عميقة ببعض قواعد الفيزياء النظرية كي تستمتع بالفيلم على الوجه الأكمل، أما في الفانتازيا فقط اربط الحزام واستعد لمغامرة شيقة مثيرة، بل قد تطالبك الرواية بالتخلي عن المنطق مثل رواية أليس في بلاد العجائب، حيث تدور في إطار عبثي، ولكنها لا تخلو من المتعة والتسلية أيضًا.
بين تولكين والآلات والدرويدية
ومن أسباب نجاح روايات الفانتازيا وبخاصة النوعية التولكينية هي جنوحها للطابع القديم، فتولكين كان يكره الحضارة الحديثة، والآلات ويقول عنها في خطابه لابنه كريستوفر عندما كان جنديًا في الحرب العالمية الثانية:
“تتضح هنا مأساةُ جميع الآلات والماكينات وإحباطاتها، فعلى عكس الفن الذي يكتفي بخلق عالم ثانوي جديد في العقل، تحاول الآلات أن تخلع على الرغبة طابعًا ماديًا، ومن ثَمَّ خلق قوة في هذا العالم، ولا يمكن لذلك حقيقةً أن يتمَّ بأي رضا حقيقي، إن الآلات الموفِّرة للجهد لا تخلق سوى جهدٍ وشقاءٍ أسوأ لا نهايةَ لهما.”
ويحلو للنقاد وصف تولكين بأنه Anti-Urban أو مضاد للحضارة، والحقيقة أن هذه ليست سمة تولكين فقط، بل هي سمة عامة لعشاق هذا النوع من الفانتازيا بالذات، فما يقدمه تولكين ولويس صاحب سلسلة نارنيا وغيرهما من الكتاب هي نسخة أخرى من إنجلترا أو ما يطلق عليها اسم “Merry England“، وهي نسخة يوتوبية من إنجلترا حيث كان الإنسان سعيدًا مع الطبيعة والحقول الخضراء، وترتبط أيضًا بحكايات الجنيات والإيلف وغيرها من المخلوقات الأسطورية، ولعل الحنين إلى الماضي جزء لا يتجزأ من وجدان أي مجتمع بشري، والفانتازيا تلعب على هذا الإحساس بالذات، الحنين إلى زمن ماضٍ حتى وإن لم يكن ماضيًا حقيقيًا.
ولعل هذا لا يقتصر على الروايات والأفلام والموسيقى فقط، بل امتد الأمر للديانات، فشهدنا إعادة إحياء ديانة الدرويدية الأيرلندية القديمة على شكل Neo-Druidism، فالدرويد ارتبطوا بالطبيعة والأشجار وبخاصة شجرة البلوط، وإعادة إحياء هذا الارتباط يعبر عن نزعة الإنسان للبعد عن الحضارة المادية والتناغم أكثر مع الطبيعة، وقد بلغ عدد أعضاء منظمة Order of Bards Ovates and Druids (OBOD) على الفيسبوك أكثر من 42 ألف مشترك، ويقول فيليب كار جروم وهو باحث في الدرويدية وأحد مؤسسي المنظمة: “إن هناك الآلاف كل عام يقرأون كتب عن الدرويدية أو يتصفحون على الإنترنت المواقع الخاصة بالدرويدية الموجودة الآن”.
ولعل الفانتازيا تتشارك مع الدرويدية في الرغبة في العودة إلى الماضي وإلى الطبيعة بعيدًا عن ضغط العصر الحديث المادي الذي يجثم على أنفاس الناس.