في المقال السابق رأينا كيف طرأ تحول على السياسة الخارجية الإيرانية زمن الخميني بعد الثورة من العقيدة الدفاعية إلى العقيدة الهجومية؛ حيث شكلت حادثة السفارة الأمريكية في طهران، والحرب العراقية – الإيرانية عقدة هذا التحول، وإذا كان العداء مع أمريكا يتماشى مع المنظومة الأيديولوجية والسياسية التي أسسها الخميني، فإن الحرب العراقية – الإيرانية شكلت صدمة للوعي الإيراني، وأدت سريعًا إلى وقوف الأيديولوجية الثورية والمصالح السياسية على طرفي نقيض، ولكن هذا التناقض الظاهري لم يُعَمّر طويلاً، فقد تم الحسم سريعًا لصالح المصالح السياسية، حيث أثبت الإيرانيون أنه طالما الأمر يتعلق بأمنهم القومي فإن المصالح تغلب الأيديولوجية.
لقد أصبح الانتصار في الحرب على العراق على رأس سلم أولويات الخميني، وبالنظر إلى السياقات التي حاول الخميني من خلالها تحقيق هذا النصر فسوف يظهر جليًا كيف كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة، حيث تم استخدامها كأداة استراتيجية ضمن السياقات الثلاثة التي اتبعها الخميني في حربه ضد العراق والتي تمثلت أولاً: باستغلال حالة الفرقة والخصومة بين الدول العربية للحيلولة دون تشكيل جبهة موحدة ضد إيران.
ثانيًا: اكتساب قلوب الجماهير العربية لتخفيف التهديد العربي ضد إيران أو جعل تكلفة دعم العراق من قبل الحكومات العربية مكلفًا أكثر وذلك من خلال تصعيد الهجوم الخطابي على إسرائيل.
وأخيرًا: فتح قنوات سرية مع الغرب وخصوصًا الولايات المتحدة من أجل التزود بالسلاح وقطع الغيار؛ حيث كان سلاح الجيش الإيراني حتى ذلك الوقت أمريكيًا بامتياز، وقد كان مثيرًا أن تلعب إسرائيل أدوارًا في تسهيل توريد السلاح من أمريكا إلى إيران أثناء الحرب خصوصًا فيما أصبح يعرف بحادثة “إيران – كونترا”.
كما هو معلوم، كان العالم العربي في الوقت الذي اندلعت فيه الحرب العراقية – الإيرانية يعيش حالة من الخصومة والفرقة على إثر معاهدة السلام التي وقعتها بشكل منفرد مصر مع إسرائيل وعلى إثرها طردت من جامعة الدول العربية، كان أكبر المتضررين من هذه الاتفاقية كل من سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية حيث شعرتا بالغدر والخيانة أكثر من غيرهم، وهو ما دفع السوريين للبحث عن حليف آخر غير القاهرة للمطالبة بأراضيهم المحتلة، في حين حاولت منظمة التحرير وزعيمها ياسر عرفات البحث عن مقاربة أخرى للاستمرار في اللعب على معادلة توازن القوى بين الدول العربية والتي سعى من خلالها دومًا لإبقاء القرار الفلسطيني مستقلاً، وغير خاضع لأجندات أي من الدول العربية المحورية في الصراع مع العدو الصهيوني.
تحالف الرئيس السوري السابق حافظ الأسد مع إيران مدفوعًا بخيبة أمله من الرئيس المصري أنور السادات، وعدائه مع الرئيس العراقي صدام حسين، وبذلك شلكت سوريا مع كل من ليبيا والجزائر (إلى حد ما) المعسكر الذي وقف ضد صدام حسين لصالح إيران أثناء الحرب
وعليه فقد تحالف الرئيس السوري السابق حافظ الأسد مع إيران مدفوعًا بخيبة أمله من الرئيس المصري أنور السادات، وعدائه مع الرئيس العراقي صدام حسين، وبذلك شلكت سوريا مع كل من ليبيا والجزائر (إلى حد ما) المعسكر الذي وقف ضد صدام حسين لصالح إيران أثناء الحرب، أما ياسر عرفات فقد انزاح لصالح العراق، فبعد خروج مصر من المعادلة، خشي أبو عمار أن يقع في أحضان السوريين، فقد كان على علم كبير بلهفة السوريين لاستخدام الورقة الفلسطينية في الصراع مع العدو الصهيوني، حيث كانوا يخشون أنه في حال خسارتهم للورقة الفلسطينية بعد خسارتهم لمصر أن يُتركوا في الميدان لوحدهم، ويجبروا بذلك على الرضوخ لحلول قد لا تكون على قدر تطلعاتهم.
زاد من تعقيد وضع منظمة التحرير الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان بغرض تدمير معسكراتها والدفع بها إلى الشمال، حيث شكلت الأوضاع في تلك الفترة الفرصة المثلى لإسرائيل للقضاء على الثورة الفلسطينية، حيث كان الفرقاء في لبنان منهكين بسبب الحرب الأهلية، والعراق وإيران مشغولين بحرب مدمرة، ومصر خارج الحلبة، بينما انشغلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بما كان يعرف بـ”حرب النجوم”.
على إثر الاجتياح الإسرائيلي دعا العراق لوقف الحرب، والوقوف في جبهة واحدة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وبما أن التحقق من صدق هذه الدعوة خارج موضوع هذا المقال، فإن ما يهمنا هو أن هذه الدعوة قد قوبلت بالرفض من قبل الخميني، حيث اعتبر أن اجتياح جنوب لبنان ما هو إلا محاولة من إسرائيل لتشتيت الجهود الإيرانية في معركتها ضد العراق، وأصبح شعار “الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء” يأخذ أبعادًا أوسع، مع العلم أن هناك رويات تشير إلى أن الخميني قد أمر بتجهيز قوة عسكرية لإرسالها إلى الجنوب اللبناني لمحاربة إسرائيل، وبالرغم من وصول بعض طلائع هذه القوات فعلاً إلى أرض المعركة كما تشير بعض المصارد، إلا أنه عاد وتراجع عن قراره هذا وأمر بإرسالها مرة أخرى إلى الجبهات مع العراق.
هذا الموقف من إيران عمَّق المخاوف العربية من نوايا الخميني التوسعية، وبات الخطر الإيراني يتقدم على باقي الأخطار الأخرى التي تتهدد الدول العربية مثل الخطر الصهيوني، فقد تشكلت قناعة لدى الدوائرة الرسمية في الدول العربية بأن إسرائيل وبالرغم من كونها العدو التقليدي للعرب إلا أنها لا تسعى لإسقاط الأنظمة العربية في المنطقة على عكس إيران التي تجاهر بسعيها لتغيير بنية الأمر الواقع في المنطقة العربية عبر استبدال الأنظمة الحالية بأنظمة إسلامية.
أدت هذه القناعة التي تشكلت لدى الدول العربية المتوجسة من الخطر الإيراني إلى ضرورة ترميم التضامن العربي الذي تضرر بعد اتفاقية كامب ديفيد وطرد مصر من الجامعة العربية، فالكل حينها كان على قناعة أن تحقيق القدر الأدنى من التضامن المطلوب لمجابهة التهديد الإيراني لا يتحقق من غير مصر.
ولكن لعودة مصر إلى حضن الإجماع العربي من جديد كان لا بدَّ من إحداث مقاربة جديدة في التعاطي العربي مع عملية السلام مع إسرائيل، وبما أن سوريا كان خارج المعادلة لتحالفها المبكر مع إيران ضد العراق، فإن المقاربة الجديدة تجاه عملية السلام كانت لا بدَّ أن تمر من خلال البوابة الفلسطينية وتحديدًا عبر منظمة التحرير الفلسطينية، بنهاية المطفاف إذا رضي أصحاب القضية بالسلام مع إسرائيل فلا حاجة لمعاقبة مصر، والإبقاء على عزلتها!
تبنى الأردن دور الوساطة في إحداث مثل هذه المقاربة الجديدة لعملية السلام بإشراك منظمة التحرير، وقد توصل بالفعل الملك الراحل الحسين بن طلال لاتفاق مع أبو عمار في شباط عام 1985 سمي “باتفاقية حسين – عرفات” تضمنت انسحاب إسرائيل لحدود 1967، وحق تقرير المصير للفلسطينين، وحل لقضية اللاجئين، وعقد مؤتمر دولي للسلام لوضع حد للصراع.
تعمقت المخاوف الإيرانية عندما تمت الدعوة إلى قمة عربية طارئة في الدار البيضاء في آب من عام 1985 للتصديق على الاتفاقية والاعتراف رسميًا بعودة القاهرة إلى الحاضنة العربية، والخروج بإجماع وحيد هو إدانه إيران وتحميلها المسؤولية عن استمرار الحرب، وبدا الانطباع من نتائج القمة أن الخطر الإيراني وليس الخطر الإسرائيلي هو ما يشغل الوجدان العربي الرسمي.
رحبت مصر مباشرة بهذه الاتفاقية، وعدتها اختراقًا في مسيرة السلام، وتوالى الترحيب بعد ذلك من العراق، وقد أثمرت هذه الاتفاقية سريعًا عندما وضعت كل من العراق ومصر في نفس الخندق، فبعد شهرين فقط من إعلان هذه الاتفاقية سافر الرئيس السابق حسني مبارك والملك حسين في زيارة تاريخية إلى بغداد للتعبير عن تضامنهم مع الرئيس السابق صدام حسين، وهو ما شكل صدمة لدى الإيرانيين الذي عملوا مباشرة على تشكيل جبهة رفض شملت سوريا والفصائيل الفلسطينية المنضوية تحتها وجنوب اليمن والجزائر للتنديد بهذه الاتفاقية والمطالبة بإنشاء دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني.
تعمقت المخاوف الإيرانية عندما تمت الدعوة إلى قمة عربية طارئة في الدار البيضاء في آب من عام 1985 للتصديق على الاتفاقية والاعتراف رسميًا بعودة القاهرة إلى الحاضنة العربية، والخروج بإجماع وحيد هو إدانه إيران وتحميلها المسؤولية عن استمرار الحرب، وبدا الانطباع من نتائج القمة أن الخطر الإيراني وليس الخطر الإسرائيلي هو ما يشغل الوجدان العربي الرسمي.
وهكذا تشكلت معادلة وأخذت تترسخ مع مرور الوقت هي أنه كلما اشتدت الخصوصة بين إيران وبين الدول العربية فإن الخاسر الأول هو القضية الفلسطينية، وتتوارى لتكون في الخلف في سلم أولويات العرب، حيث يعمد النظام العربي إلى تقديم تنازلات في سبيل إما تسكين توتراتهم مع إسرائيل أو العمل على ضمها سواء بشكل سري أو علني إلى تحالفات ضد إيران.
وكما هو راسخ ومعروف فإن التقارب مع إسرائيل يجلب مزيدًا من الدعم والتعاطف الأمريكي للعرب على حساب إيران والتي تعمل على استخدام مثل هذه التحركات كمادة أساسية في البروباغدا الخطابية من أجل رفع منسوب شعبيتها في الشارع العربي على أساس أنها الحامي والضامن لحقوق المسلمين في فلسطين.
وإذا كان هناك حقيقة لا يمكن إنكارها فهي أن الخصومة والفرقة في العالم الإسلامي تضر بشكل جوهري بالقضايا والحقوق العامة للمسلمين وعلى رأسها القضية الفلسطينية.