ليس هذا المقال محاولة «للرد» على مقال د. عز الدين شكري فشير «الأشكال الضالة»، بل هو محض بوْح. ففي الكتابة بعضُ الشفاءِ، وأحياناً تمامُه.
****
(1)
لا أظن أني في حاجة لأبدأ مقالي بالثناء، أو المديح ليجد مُدخلًا طيبًا، وأنا واحدٌ من هؤلاء الذين يشعرون (عن حق أو مبالغة أو كليهما) بأن الثورة قصفت أعمارهم، لا أزال أتمسك بآخر أمل في كل قلمٍ أو صاحبِ علمٍ أحسنت الظنّ به، سواءً علمّني في محاضراته، أو درست في كتبه، كما هي الحال مع د. فشير، فكتاباته تعلمني الكثير، وللسببين السابقين ندُخل في الموضوع مباشرة.
بعد أن قرأت ما كتب عن «الأشكال الضالة»، التي تضم «بعض أنصار الثورة» حسب تعبيره، زفرت نفسًا عميقًا في ليل المدينة الأوروبية، التي أقطنها، قلت لا بأس فأنا لا تنطبق عليّ كل الأوصاف، التي تحدث عنها، وإن ضبطتُ نفسي متلبسًا بجُرم اليأس أحيانًا كثيرة كإحدى صفات «الأشكال الضالة»، التي يوردها د. فشير. إذ يُعدّد التحديات التي تواجه من حلموا بالثورة فواجهوها باعتزال السياسة، أو الهجرة للخارج، ويعتبر ذلك ضلالًا.
****
«دايما بسأل نفسي.. إمتى بدأت الحكاية أو الأحداث اللي عشتها؟ هل في بداية محددة؟ ولاّ الحدث نتيجة اختيار وقرار؟ والاختيار يتولد من اللي قبله ويودي للي بعده؟» – آسر ياسين (يحيى) متحدثًا إلى نفسه في فيلم رسائل البحر.
****
(2)
لا أحبذ السرد الشخصي في موضوعٍ عام، لكني سأجدُ في ذاتي بعض الشجاعة للزعم بأن سردي يعكسُ منهجًا ذا مدلولات عامة في التعبير عن شريحة لا بأس بها من أبناء جيلي (مواليد الثمانينيات وطالع).
منذ عرفنا المدونات، (ومن قبلها المنتديات) قبل حوالي عشرة أعوام كانت مساحة للبوح والحلم لأبناء جيلي، الذين ينتمي أغلبهم لطبقة (مستورة الحمد لله) وقلة من الطبقة المتوسطة العليا، ثلة من الأولين والآخرين نالوا قسطًا من التعليم مكّنهم من خوض تجربة معينة تتشابه كثيرًا في منطلقاتها ومحطاتها. أسهمت- بفضل الله ثم الدايل أب ثم الدي إس إل- في مُراكمة بعض الشغف، الذي أدى بدوره لبناء بعض التفكير النقدي.
مارسنا السياسة على الآرائك في الثانوية العامة بمشاهدة برنامج «رئيس التحرير» لحمدي قنديل، بينما ننتظر الساعة المجانية لقنوات الشوتايم لمشاهدة باميلا أندرسون بالمايوه البرتقالي المثير، وبين هذا وذاك نتابع الانتفاضة الفلسطينية (رحمها الله) وأحداث 11 سبتمبر، وضرب كابول، وتمتلئ صدورنا بمشاعر مختلطة نحاول أن نفك طلاسمها دون كثير تشجيع أو توجيه أو حتى لوم.
دخلنا الجامعة وسقطت بغداد، وهناك تعرفنا على المجتمع، الذي كان يتصدره بطبيعة الحال الإسلاميون وأمن الدولة، اخترنا الأولين، وعملنا معهم أو على هامشهم، ووصلنا سريعًا (بفضل الدي إس إل وحركة كفاية 2005- 2006) إلى استنتاج مفاده أن العمل الهوياتي داخل الإخوان ليس طريقًا للتغيير المنشود بحال. بعد أربعة أعوام في كلية الطب انفصلت، وكثيرون مثلي، عن الإخوان، في تجارب منفصلة/ متصلة. بدأنا البحث عن مساحة يمكن أن تضمنا فكانت غالبًا مساحات المشاكسة ذات النفس الاجتماعي المستقل في المدونات وغيرها، التي ربما وصلت ذروتها هي الأخرى في انتفاضة أبريل 2008. قبل أن تتراجع ويخفت بريقها.
******
«أحيانا التجارب الصغيرة بيكون ليها تأثير في مسار الأحداث» – آسر ياسين (يحيى)– فيلم رسائل البحر.
*****
(3)
كانت الفترة 2009 و2010 كبيسة على المستويين الشخصي والعام، تراجع فيها حلم التغيير، لكنّ الحراك الثقافي المجتمعي (البعيد غالبًا عن ضوء الإعلام) كان مستمرًا، كنت ألمس ذلك بوضوح ولا أجيد التعبير عنه، لكني كنت أطالع انتشار المكتبات في مصر (منطقة وسط البلد على الأقل)، وتنوع الأجيال المتعاقبة من الكُتّاب الشباب، والحراك الشبابي الذي استنشق الأكسجين مع مهبط البرادعي كالمعجزات من السماء.. إلى آخر ذلك من عوارض الحيوية.
في وسط 2010 تلقيت وظيفة كطبيب مقيم (معيد) في كلية الطب، وبعد استدعاء قصير لأمن الدولة، للاطمئنان على صحتي السياسية، كانت أقوالي مُقنعة فيما يبدو، فسمحوا لي بالوظيفة. (كانت نغمة موبايل الضابط الذي اتصلت به تقول: اللهم أرنا الحق حقًا بصوت الشيخ يعقوب، لا أنسى ذلك)، لكني لم أكن سعيدًا فليس هذا ما أرغبه، إذ وددتُ دائما لو درست العلوم الاجتماعية.
(4)
في هذا الإحباط الشخصي والعام، اندلعت الثورة في يناير، شعرتُ كأن القدر يُجاملني شخصيًا، تلك الهتافات الشافية لألم الصدور، ولو أوجعت الحناجر، وجو الميدان الفردوسي، الذي أخرج أفضل ما فينا، وعشرات الكتابات المحمومة والاجتماعات المعبأة بحماسة حسبنا أنها ضاعت للأبد.
لكني كنت على موعد مع التجنيد، في بداية فبراير وقبل تنحي مبارك بدأت مهمتي المملة كطبيب مجند، هكذا قضيت عامًا يعج بالأحداث المهولة والأمنيات المتحققة، والأخرى المسفوحة، كمشاهد.. محض متفرج.. كانت سنة مليئة بألم الترقب، لكنها كانت فرصة لأرى الأشياء من الداخل على حقيقتها.. أرى كيف يفكر هؤلاء الضباط، وبماذا يؤمنون، وماذا يظنون أن الثورة فاعلة بهم، أو هم فاعلون بها. شاهدت ضباطًا لأول مرة يتعلمون ويسألون ما معنى كلمة «سلفي» أو «علماني» والبعض لا يكترث.
شاهدت الشباب الذين لم يطُلْ وصفهم بأنهم «الورد اللي فتح في جناين مصر» يتحولون إلى جثث بعد شهور قليلة تسعى الشاشات إلى تسفيههم، والدبابات إلى دهسهم، والإخوان إلى التأكيد على أن عمليتي التسفيه والذبح تتمان وفقًا للشريعة.
(5)
أنهيت خدمتي في مارس 2012 وذهبت لكلية الطب بتصميم، لأول وآخر مرة، أن أقدم استقالتي من وظيفتي، عملت في مؤسسة حقوقية، واستطلعت بعض الأحزاب اليسارية، لكني لم أنضم لأي منها، وأثناء ذلك وصلني إيميل يخبرني بأني قُبلت في منحة لماجستير الدراسات الشرق أوسطية في أوروبا. حمدت الله شاكرًا وسافرت.
لم أكن أرغب في الهجرة، ولم أفكر فيها أبدًا، فقط أرغب في أن أتعلم وأقرأ وأمارس حياة مثمرة مستقرة لا تغيب فيها هموم بلدي عن ذلك كله. كان الإخوان في الحُكم، وعلمتُ أن الأمر سيأخذ وقتًا، ويمكن أن نفيد بما نقرأ ونكتب.
لكن انهيار الإخوان كان يتسارع كما لم يتوقع ألد خصومهم. كانت السياسة وستظل مفككة الأيديولوجيا الأولى، وكانت ملامح تيار مدني حقيقي متجهة إلى سيرورة التكوين، خاصة في الجامعات؛ نعم كان الإخوان يفقدون حاضنة التجنيد الأساسية لهم، وكانت نتائج انتخابات الاتحادات الطلابية، وبعض النقابات دالّة وكاشفة عن التحول المستمر على الأرض. هكذا عدت إلى مصر في عطلتي يوم 29 يونيو 2013 مبتهجًا راغبًا في المشاركة، أيدنا عزل الإخوان وتصحيح مسار الثورة.
في يوليو وأغسطس، كنت أؤدي عملًا صحفيًا بتغطية ميدانية لأحد المواقع الإخبارية.. في 14 أغسطس وأثناء محاولة تغطية فض اعتصام رابعة اكتشفت عبثية المحاولة، وأنّ أي شخص هناك مُعرض للموت. تخيلت نفسي ضئيلًا أصرخ في رعب أمام فوهة مدفع: «أنا صحفي إلكتروني.. أنا صحفي إلكتروني» بينما المدفع يتحدث بصوت آلي: «إلكتروني على نفسك ياض!» فتركت المعركة لمن يحب المعارك، وذهبت إلى صديق قريب أتابع الأخبار. في اليوم التالي عدت إلى البيت محطمًا في يأس حقيقي. وأخبرت الزملاء بأن يبحثوا عن بديل لي. قررت قطع إجازتي «عملي» في مصر والعودة لأوروبا.
*****
(6)
كنت عند الحلاق بعد يومين أستعد للسفر في جلسة حلاقة تخللتها بالطبع مناقشات سياسية حادة، أصبحت تدور فجأة بين مجموعة كبيرة من البشر. كان الحلاق الذي لم أعهده يومًا ثوريًا يهاجم الجميع، ويلعن «الداخلية» والبرادعي والإخوان، ويتحدث عن أمله في أن يحصل على علاج آدمي، وسكن آدمي، وألا يقع في يد ضابط فيهينه ويعتدي عليه لمجرد كونه ضابطًا، بينما كان الرجل الآخر ذو الشعر الأشيب يدافع عن الجيش والنظام.
استدار الرجل الأشيب إلى الحلاق في حنق، وقال له: «لو مش عاجبك البلد دي شوفلك بلد تاني تعيش فيها».
أحسست بأنّ العبارة مصوّبة تجاهي تمامًا، خرجت من المكان، وأنا أحس ببرودة فوهتها في ظهري.
*****
(7)
عزيزي د. فشير، سعدت بمقالك التالي «الحلم سيتحقق»، الذي أكدت فيه أن أهداف الثورة متحققة لا محالة، بينما تحثنا على التمسك بالأمل، والمزيد من المثابرة والصبر و«الأثمان».
وآه من الأخيرة تلك ..
عزيزي د. فشير.. لا أظن أني أحد هؤلاء الذين يحلمون بمناصب تنفيذية كبيرة أو قيادة حزب سياسي أو حركة شبابية تغيّر وجه الحياة في المعارضة أو السلطة.. المسيسون (نص لِبّة) مثلي لا يريدون مانديلا أو تشي جيفارا يمشون وراءه. طموحاتنا بسيطة جدًا؛ حياة مدنية حقيقية، تعددية حزبية تسمح لنا بالاختيار، كتلك التي كنا نبنيها منذ يناير 2011 قبل أن تنهال علينا الدماء والمدرعات والخوذ الميري والإسلامي. دولة لا توجّه مخابراتها الإعلام ولا تسعى الأجهزة الأمنية لاختراق الأحزاب، وتفجيرها من الداخل حتى بعد الثورات. كل ما نطلبه أننا إذا خرجنا للشارع ألاّ نقتل أو نسجن، وإذا خرجن لا تكشف عذريتهن، وتعرى أجسادهن، وإذا انضم أحدهم لحزب لم يُضايق في معاشه وأرزاقه وسمعته. هل تعرف أين وائل غنيم الآن؟ أين عبدالرحمن منصور؟ أين مئات الشباب «الورد»، وإلى أي حد يرغب الآلاف غيرهم في الرحيل؟ هل أجريت إحصاءً لتعرف كم شابًا في العشرين عرف الطريق إلى «الزانكس والسيبرالكس والبروزاك» إلى آخر «ليستة» الأدوية النفسية؟
هل تظن أننا كلنا مثلا في مثل شجاعة وتضحية «علاء عبدالفتاح» لمجرد أننا أصدقاؤه؟ أو أننا كلنا مستعدين لدفع الثمن، الذي يدفعه «أحمد ماهر» أو «حسن مصطفى» أو «ماهينور المصري» في النيابات رايح جاي؟ يا سيدي إحنا ناس غلابة، وأغلب اللي راحوا منا في الميدان راحوا وهما نفسهم يعيشوا وعهد الله. لدنيا أحلام بعمل مستقر وأسرة مستقرة، وحياة خاصة لا تتناولها ألسنة إعلام السلطة بالنهش والتجريح دون حساب ولا مسؤولية.
أتفق معاك تمامًا أن «الجبل يتصدع» كما تصفه، وأن الدولة البالية المتهالكة موشكة على الانهيار، لكني لا أحمل نفس يقينك بخصوص النتائج، وما إذا كان هذا الانهيار سيكون في صالحنا على المدى القريب، أو سيعيد إنتاج صراعات تستمر سنين عددًا.
*****
عندي الآن 29 من السنين، والفرق بيننا الآن وبين عشر سنوات مضت أننا نعرف جيدًا أن الدنيا فيها أكثر بكثير جدًا من برنامج «حمدي قنديل» الأسبوعي، وساعة الشوتايم المفتوحة، التي ننتظر فيها المايوه البرتقالي المثير، ونعرف أن هناك دولًا أخرى يوجد فيها ذلك «الأكثر بكثير»، علاوة على أن الناس في الشارع تبتسم، ولا تقتل بعضها، والبنات لا يعدن إلى المنزل عبر رحلة تحرش يومية.
إنني أحسد هؤلاء الذين يبقون ويقاومون، وأعترف بضيق صدري، لكن أشك أن الضلال وصفٌ منصفٌ لمن رحل يا سيّدي.
نُشر هذا المقال لأول مرة على موقع المصري اليوم