كثر الحديث وعلا الضجيج حول أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يتعلق بمدى صحة نسبتها إليه، ومدى حجيتها في تكوين إيمان المسلم، وفي إقامة الأحكام الشرعية التي تنظم حياة المسلمين.
واختفت الحقيقة في دخان وغبار والمعارك “الكلامية” بل والقضائية التي تشتعل وتحتدم، وما إن تخبو نارها حينًا حتى يتم إيقادها من جديد، بين طرفين، متطرفين، لا يريد أحدهما أن يذعن للعلم “الحق” المتجرد من الأهواء.
أولهما: دعاة “التنوير” والاحتكام إلى العقل، أو من يسمون أنفسهم بهذا الاسم واتخذوا منه شعارًا، إنهم يوجهون سهام النقد الجارح لكتب السنة أو مراجع الحديث، مشككين في صحة نسبتها إلى النبي، مؤكدين احتوائها على خرافات وسوءات خُلقية، ويخلصون إلى عدم الاعتراف بصحة تلك الكتب ويطلبون إلغاء طبعها ومنع تدريسها، بل تطرق بعضهم إلى الدعوة لـ “حرقها”، باعتبار أنها السبب في تخلف المسلمين عن العصر الذي تشهده البشرية الآن.
المشكلة تكمن في استخدام أغلب هؤلاء “التنويريين الإصلاحيين” عبارات مستفزة صادمة للرأي العام الذي عاش قرونًا طويلة على “تقديس” تلك الكتب التراثية، ومن ثم يحس أغلب الناس أن هؤلاء لا يريدون إصلاح الدين، بل يريدون هدمه، فهم دعاة هدم لا إصلاح.
لذلك ينفر “عوام الناس” من دعاة “التنوير والإصلاح الديني”، بل يرد البعض صاع الاستفزاز والصدمة بصاع أكثر تطرفًا ويقابل الشطط التنويري بشطط ظلامي، يدعو إلى المحاكمة والقتل من أجل حبس تلك الأصوات، كانت تلك هي النتيجة!
الطرف المتطرف الثاني: رجال الدين، سواء العلماء “الرسميين” أو أدعياء السلفية المعاصرة، هؤلاء يتشبثون بكل كلمة في تلك الكتب كما لو أنها نصوص مقدسة نزل بها الملائكة، ويعمون عن أن تلك الكلمات أقوال “بشرية” جمعها أناس من الألسنة عبر الآذان ثم دونت في القرن الثاني الهجري، فالعامل البشري جزء لا ينفصل عنها، ثم أن هؤلاء الرجال يحتكرون حق الكلام في تلك المواضيع وكأنها لهم وحدهم ولا يوجد من هو أهل لذا غيرهم.
أكان كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم وحدهم أو خصهم به للحديث عنه دونًا عن سائر البشر؟! المشكلة أنهم يتعاملون أنه لا توجد ثمة مشكلة على الإطلاق!
إنّ الخطيئة الإنسانية التي يرتكبها أدعياء التنوير هي الاستخفاف واحتقار الجهد البشري الكبير الذي بذله السابقون وأفنوا حياتهم في الحفاظ على تراث النبي من الضياع والتلوث بالأهواء البشرية – على قدر اجتهادهم – والخطيئة التي يرتكبها أدعياء الحفاظ على الدين هي “تقديس” ما يحرم شرعًا رفعه فوق مستوى البشرية، والتغاضي عن الاختلافات والخلافات التي كانت على طول الزمان وشكلت أزمة للمسلم العادي البسيط ليتلقى مواعظ وحكم النبي – صلى الله عليه وسلم -.
أعتقد أنه صار حتمًا مقضيًا لأن نلتفت جميعًا لتجاوز هذه المعركة التي أهدرت الكثير من الجهود دون طائل، لغياب إخلاص النية وغياب الإذعان للعلم “الحق” المتجرد من الأهواء.
وما أريد أن أرسله لكل المهتمين، هي حكمة الإمام علي – رضي الله عنه -:
“إنّ للناس أكواخًا من عقائدهم، فلا تهدموها عليهم! ولكن ابنوا لهم قصورًا، فإذا دخلوها هدموا أكواخهم بأيديهم”.