كثيرا ما قادت شدة الغيرة على شخص أو هيئة أو قضية إلى ضرب من الخنق أو القتل، وفي الأقل إلى الإساءة من حيث أريد الإحسان والحفظ، وهو ما يأتيه هذه الأيام بعض الغيورين على المشروع الإسلامي التونسي في ردّ فعل مبتسر متسرع لما أقدم عليه إخوانهم في تونس من تطوير لمشروعهم:
– لم ينقله – كما توهموا، ظانين ظن السوء انتقالهم- من الإسلام إلى العلمنة.
– بقدر ما كان انتقالا من نوع آخر، فهو تطور طبيعي عرفته كل ظاهرة حضارية، إذ تتطور من العام إلى الخاص، من الشمولية إلى التفرغ والتخصص داخل الدائرة نفسها، إذ شمولية الفكرة الإسلامية لا تقتضي ضرورة شمولية كل تنظيم يعمل على تمثيلها وتجسيدها في الواقع لا بمعنى وحدة البواعث والمقاصد: “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين”.
صحيح أن المشروع الإسلامي قد تكثفت نواته الأولى في شخص رسول الله عليه السلام، فكان إمام الصلاة، وإمام الحكم، والقاضي، والقائد العسكري والمفتي.. مما يعرف بـ”تعدد مقامات النبي”، ولكن هذه الوظائف بعد انتصار الفكرة وازدهارها، توزعت في المجتمع الإسلامي، فتميزت وظائف القضاء عن وظائف الحكم، عن الوظائف العلمية والوقف والسيف والقلم.
وفي مرحلة ما بعد سقوط آخر خلافة، وفي سياق أنظمة شمولية سائدة كالنازية والشيوعية والفاشية والقومية، نشأت تنظيمات إسلامية شمولية، تختزن داخلها تمثيل كل أبعاد المشروع الإسلامي الدعوية والسياسية والخيرية وحتى العسكرية، مما حسبه البعض لازما من لوازم الإسلام والعمل لإحيائه، وليس بالتأكيد كذلك.
وهو نهج وإن كانت له مبرراته ومنافعه، إلا أنه جلب على المشروع الإسلامي بلايا عظيمة لجمعه بين أعمال من طبائع مختلفة إن لم تكن متصادمة،كالجمع بين العسكري والمدني، والجمع بين السياسي والحضاري، فكان يكفي أن تصطدم السياسة بالحكم وهي كثيرا ما تكون في مشاكسة وحتى صدام ، فتهب ريح السَّمُوم على كل غراسات الحقل لا تبقي ولا تذر.
وقد يصل الأمر إلى أن تصير الصلاة تهمة، والحجاب جريمة، والمصحف حجة إدانة، والكتاب الإسلامي والجمعيات الخيرية محل مطاردة، فماذا كسب الإسلام من هذه التنظيمات الشمولية غير البلاء؟!
ألم تلاحق الأحزاب الإسلامية تهمة توظيف الدين والمساجد؟
فضلا عما لحق مؤسسات المجتمع المدني – الجمعيات الخيرية والمدارس- من كوارث جراء هذا الارتباط التنظيمي بين مؤسسات من طبيعة مختلفة.
ألا يكفي ذلك حجة لفك الارتباط التنظيمي بين أبعاد المشروع الإسلامي؟!
ولا نعني بحال الارتباط الفكري فهو حاصل، وينبغي تأكيده في عقل المسلم ونيته بالحرص على وحدة اتجاهه بكل أعماله إلى وجهة واحدة الله جل جلاله،لا سيما ونحن في عصر التخصص.
هل بقي مجال في مجتمع مفتوح متطور إلى قيام مؤسسة أخطبوطية هي بمنزلة دولة شمولية تدير أخطبوطا من المؤسسات المترامية الأطراف المختلفة الطباع؟ وما ضرورة ذلك؟
إننا نرى في مجتمعنا مثلا مشروعا يساريا تقوم على خدمته عديد الأحزاب، تلتقي معها موضوعيا مئات الجمعيات والمؤسسات الحقوقية والنقابية ومراكز الدراسات ونوادي السينما والمسرح والغناء، تصب كلها في اتجاه المشروع اليساري لا يجمعها رباط تنظيمي، وإنما يجمعها المشروع والفكرة.
إن الاسلام كبير، كبير من العبث أن يحاول تنظيم مهما اختبط أن يحتويه.
نحن هنا في النهضة اخترنا بعد تجربة زهاء نصف قرن في خدمة الإسلام والوطن، أن نقوم على خدمة ديننا ووطننا تونس ودولتنا الحبيبة انطلاقا من هذه الرؤية، من حزب سياسي مسلم ديمقراطي متفرغ متخصّص في الحقل السياسي، تاركين المجالات الأخرى من المشروع الإسلامي للمتخصصين فيها، ملتقين معهم في خدمة الوطن والدين والأمة.
(وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ).