في جلسته الصباحية ينتفض البرلمان الأردني لعروبته وتعلو أصوات أعضائه رفضًا لأن تطئ أقدام أي مستثمر صهيوني أرض الوطن، ثم ترفع الجلسة للاستراحة، والجموع تترقب قرار المجلس النهائي الذي انتصر أخيرًا لغيرتهم على بلادهم وعرضهم، وفي المساء أثناء انعقاد الجلسة المسائية وفي أقل من خمس دقائق، البرلمان يقر قانون صندوق الاستثمار الأردني لعام 2016 بالسماح للشركات الإسرائيلية للمساهمة في المشاريع الحكومية الاستثمارية.
قرار أثار الجدل وأصاب الكثير بالصدمة، فما بين تصويت بالإجماع ضد استثناء الكيان الصهيوني من التملك والاستثمار داخل الأراضي الأردنية إلى موافقة غير متوقعة بعد أقل من خمس دقائق فقط من بدء الجلسة المسائية عقب تقديم النائب حديثة الخريشا، مقترحه النيابي الذي يسمح للشركات الإسرائيلية بالمشاركة في استثمارات الصندوق، ليضع العديد من علامات الاستفهام حول كواليس ما دار بين الجلستين – الصباحية والمسائية -، وهل بات التطبيع بالأمر المباشر دون أي اعتبارات لبرلمان أو شعب؟
المثير للدهشة في هذا القرار تصويت عضو لجنة فلسطين النيابية ردينة العطي برفع يديها – الاثنتين – لصالح مقترح عدم استثناء إسرائيل، في الوقت الذي تخرج فيه لتلتقط الصور مع الطفل الفلسطيني أحمد الدوابشة الناجي من المحرقة الإسرائيلية التي تعرضت لها عائلته في بلدة دوما بالضفة الغربية.
الأردن وإسرائيل: تاريخ من التطبيع
تعد العلاقات الأردنية الإسرائيلية هي الأفضل عربيًا بالرغم من وجود بعض الملفات الشائكة بين البلدين، كما تعد الدولة الثانية بعد جمهورية مصر العربية التي وقعت اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني.
والمتابع لتاريخ علاقات الدولتين يجد أنها أقدم وأسبق من تاريخ معاهدة السلام “وادي عربة” الموقعة بين الطرفين في 1994، حيث التقى الراحل حسين ملك الأردن، وإسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي أكثر من مرة قبل توقع الاتفاقية كان آخرها لقائهما الشهير بواشنطن قبيل التوقيع بثلاثة أشهر وإعلانهما من الولايات المتحدة عن نهاية الحرب والصراع بين البلدين ودخول مرحلة جديدة من السلام والتعاون المشترك.
العديد من الملفات الشائكة تهدد العلاقات بين عمّان وتل أبيب، في مقدمتها، النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، قضية اللاجئين، الجدار الإسرائيلي العازل، مبادرة السلام العربية، والمستوطنات، إلا أن ذلك لم يمنع البلدين من تحقيق تعاون في العديد من المجالات، السياسية، الاقتصادية، الأكاديمية، والزراعية، ومع ذلك فهناك معضلة تهدد مستقبل اتفاقية السلام المبرمة بين الجانبين، تتمثل في تنامي الموقف الشعبي الأردني المعارض للتطبيع مع إسرائيل وهو ما يشكل حجر عثرة أمام الإدارة الأردنية في مساعيها الرامية إلى مزيد من التطبيع مع الكيان الصهيوني.
خرق للدستور وتهديد للأمن القومي
شن عدد من الحقوقيين والدستوريين هجومًا لاذعًا على السلطة الأردنية بعد قرار مجلس الأمة بشقيه النواب والأعيان بإقرار مشروع قانون صندوق الاستثمار 2016، حيث اعتبروه خرقًا واضحًا لمواد الدستور لاسيما المادة (11) والتي تنص على حماية الملكية الخاصة وعدم جواز نزعها إلا للمنفعة العامة ونظير تعويض عادل حسبما يعينه القانون.
عضو لجنة شؤون المهنة في نقابة المحامين الأردنيين والخبير القانوني قتيبة بني صالح، أشار إلى أن مشروع القانون المصدق عليه من البرلمان يخالف في كثير منه بعض مواد الدستور، مشيرًا أن تعريف مصطلح الشركة الوارد في مشروع القانون، عرفها بأنها: “شركة مساهمة تؤسسها الصناديق السيادية العربية ومؤسسات الاستثمار العربية والأجنبية”، أما المادة (13) من مشروع القانون والتي نسلط الضوء عليها هنا فتنص على ما يلي: “إذا تطلب إنشاء أي مشروع تملك الصندوق أو الشركة لأي عقار وامتنع مالك العقار عن بيع ذلك العقار أو أي جزء منه بسعر عادل فللصندوق أو الشركة الطلب من المجلس (مجلس إدارة الصندوق) استملاك ذلك العقار، فإذا وجد المجلس أن ذلك العقار ضروري لإنشاء المشروع يقرر التوصية إلى مجلس الوزراء الموافقة على استملاك ذلك العقار أو الجزء اللازم منه لمصلحة الصندوق أو الشركة باعتبار أن إنشاء المشروع يحقق النفع العام بالمعنى المقصود في قانون الاستملاك”.
بني صالح أوضح أن هذه المادة تشكل مخالفة دستورية واعتداءً فجًا على حق الملكية الخاصة التي أوردها المشرع الأردني في المادة (11)، حيث أكد على حماية هذه الملكية الخاصة وعدم جواز نزعها إلا للمنفعة العامة ونظير تعويض عادل يقره القانون، مشيرًا أن مشروع قانون صندوق الاستثمار والذي يحتوي على شركات أجنبية تحقق أرباحًا لا توفر حالة النفع العام الذي استقر عليه القانون والاجتهادات القضائية بتوصيف النفع العام في قانون الاستملاك.
تعد العلاقات الأردنية الإسرائيلية هي الأفضل عربيًا بالرغم من وجود بعض الملفات الشائكة بين البلدين، كما تعد الدولة الثانية بعد جمهورية مصر العربية التي وقعت اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني.
عضو لجنة شؤون المهنة في نقابة المحامين الأردنيين أشار إلى أن المنفعة يجب أن تعود لخزينة الدولة أو إحدى المؤسسات الحكومية وهنا تكمن الخطورة بمشروع القانون الذي ذيل آخره بعبارة “على الرغم مما ورد في أي قانون آخر”، ما يعني أن هذا القانون أعطى لمجموعة شركات استثمارية حق الاستيلاء على الملكية الخاصة! بما يعني أن مجلس إدارة الصندوق سيضم بعضويته شركات أجنبية وعربية هدفها الاستثمار وتحقيق الأرباح دون الالتفات إلى المصلحة العامة للدولة أو المصلحة الوطنية، وسيكون بيد هذه الشركات وسيلة ضغط من خلال الاستثمار بهذا الصندوق للتأثير في السياسات الداخلية والخارجية وعلى المجتمع ككل، دون أن يكون هناك رقابة مباشرة على سياسات هذا الصندوق وآلية عمله في تطبيق مشاريعه وتنفيذها، وسينحصر دور مجلس الوزراء والحكومة بإعطاء غطاء قانوني لما يقوم به مجلس إدارة الصندوق المكون من الشركات الأجنبية والعربية.
كما حذر الخبير القانوني الأردني من بعض المواد الواردة في مشروع القانون الجديد والتي تحمل أبعادًا خطيرة تهدد منظومة الأمن القومي والمجتمعي للمملكة، منها ما ورد في المادة (10) الفقرة (ب) والتي نصت على: “على الرغم مما ورد في أي قانون أو تشريع آخر تفوض الحكومة الصندوق بقرار من مجلس الوزراء بحق التصرف والإدارة في أملاك الخزينة والحراج اللازمة لإقامة المشاريع الواردة في حقوق التطوير والاستثمار المشمولة بهذا القانون…” مما أعطى الحق لتلك الشركات بتملك الأراضي الأميرية تحت ذريعة الاستثمار بأي مشروع، الأمر الذي يهدد المساحات الحرجية والخضراء والتي تعد نسبتها حسب الدراسات في الأردن 1% وستواجه شبح التغول وإقامة المشاريع عليها، بما يهدد مستقبل غذاء الملايين من الشعب الأردني.
هاجس التغول على المساحة الخضراء في الأردن والتي لا تتجاوز 1%
استراتيجية جديدة للتطبيع
أما على الصعيد السياسي فقد صبّ نخبة من السياسيين والحقوقيين والمهتمين بالشأن العام في الأردن سخطهم على النواب المصوتين لصالح هذا القرار، حيث اعتبروه تطبيع من نوع جديد، وانتقال العلاقات الأردنية الإسرائيلية من مجرد تبادل الزيارات واتفاق الرؤى إلى تملك الأراضي والاستثمار.
مناف مجلي، رئيس مقاومة التطبيع النقابية، وصف قرار النواب بالسماح لإسرائيل بالمشاركة في الصندوق بـ “الأكثر اتساقًا مع مجلس نواب ويدرك الأردنيون أنه لا يمتلك قراره”، ملفتًا أن القرار أثبت أن النواب لا حيلة لهم ولا قوة، وأنهم ليسوا أكثر من “دمى” تحركها أصابع السلطة لتحقيق أهدافها.
مجلي قال إنه كان ينتظر أن يفاجئنا النواب بالتمسك بموقفهم الأول لكنهم لم يفعلوا، منوهًا أنه بعد فشل جهود الحكومة في خلق تطبيع شعبي على أرض اقتصادية، لجأت إلى هذه الاستراتيجية الجديدة لتحقيق مبتغاها، مستشهدًا بعدد من المشروعات الموقعة بين حكومة الدولتين على غرار مشروع ناقل البحرين واتفاقية استيراد الغاز الطبيعي من الجانب الإسرائيلي، والتي تتمسك بها السلطة رغم المعارضة الشعبية والبرلمانية لها.
أمّا القيادي بجماعة الإخوان المسلمين سالم الفلاحات، فعبر عن رفض الجماعة لهذا القانون جملة وتفصيلاً، مشيرًا إلى أن حل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها المملكة يكون من خلال بوابة الاستثمارات العربية وليس السماح للصهاينة بزرع أقدامهم الاقتصادية في البلاد.
الفلاحات أشار إلى أن السماح للمستثمرين الصهاينة بالتملك والتواجد داخل الأراضي الأردنية يعد ضربة موجعة للضمير العربي والأردني والإسلامي، مختتمًا حديثه ساخرًا بقوله: ليس بعيدًا أن أرى أحد المصانع التجارية “الإسرائيلية” بجوار منزلي.
البرلمان الأردني أثناء التصويت على مشروع القرار
للصندوق أهداف أخرى والمجلس ليس سيد قراره
(… إن إصرار الحكومة على حذف التعديل النيابي وحجم الضغط على النواب، يؤكد على أن هذا الصندوق الاستثماري له أهداف أخرى، قد تكون أولاها فتح باب الاستثمار المشترك بين دول عربية بعينها والكيان الصهيوني…) بهذه الكلمات علق عضو حزب الوحدة الشعبية فاخر دعاس على مشروع القانون الذي صدق عليه البرلمان الأردني، منتقدًا ما أسماه “تفاخر” النائبة ردينة العطي بأنها أول من تراجعوا عن قرارهم، متباهية برفع كلتا يديها لتأكيد موافقتها شمول شركات إسرائيلية بقانون الاستثمار.
عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية، أكد أن تراجع المجلس عن قراره في الجلسة الصباحية بعدم السماح للكيان الصهيوني بالتملك والاستثمار إلى السماح، والموافقة في الجلسة المسائية يؤكد على أن هذا المجلس ليس سيد نفسه ولا يمتلك قراره، وأن هناك أصابع تحركه وقرارات يتم اتخاذها بوسائل أخرى غير التصويت ورأي الأغلبية.
دعسان أشار في تدوينة له على مواقع التواصل الاجتماعي أن أخطر ما في القانون المادة (13) والتي تنص على “إذا تطلب إنشاء أي مشروع تملك الصندوق أو الشركة لأي عقار وامتنع مالك العقار عن بيع العقار أو أي جزء منه بسعر عادل، فللصندوق أو الشركة الطلب من المجلس استملاك ذلك العقار، بما يعني أن الشركة المستثمرة من حقها وضع يديها على أي قطعة أرض – حكومية كانت أو خاصة – وافق عليها أصحابها أو لم يوافقوا، الأمر الذي يعني “توغل” صهيوني جديد على منابع الاقتصاد الأردني.
وفي سياق متصل شنت الكاتبة الأردنية لميس أندوني هجومًا لاذعًا على أعضاء البرلمان، واصفة إياه بأنه يغرد – كالعادة – خارج السرب، ففي الوقت الذي يتوحد فيه الصحفيون والكتاب والباحثون الغربيون على ضرورة مقاطعة الكيان الصهيوني نظرًا لجرائمه العنصرية ضد الشعب الفلسطيني يخرج علينا برلمان دولة عربية ليقر قانونًا يسمح لرجال أعمال صهاينة بتملك أراضي عربية.
أندوني أشارت في تدوينة لها عبر صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي “كل هذا الشذوذ السياسي والقومي ثم يتحدثون عن السيادة الوطنية، والمفارقة وربما ليست مفارقة يحدث ذلك في أسبوع ذكرى عيد الاستقلال”.
مواقع التواصل الاجتماعي تشتعل
شعبيًا لم يمر القانون مرور الكرام، حيث دشن عدد من الناشطين الأردنيين حملات على شبكات التواصل الاجتماعي لانتقاد قرار البرلمان الأردني، متهمين أعضاء البرلمان بالازدواجية المتمثلة في قرارهم بالموافقة على استثمار الشركات “الإسرائيلية” في الأردن، وموقفهم الداعم للقضية الفلسطينية، متسائلين كيف يستوي القرار مع مبدأهم، على حد قولهم.
كما أطلق الناشطون عدد من الـ “هاشتاجات” التي تعبر عن رفضهم لهذه “الصفقة” المشبوهة، والتي تم تمريرها في أقل من خمس دقائق فقط، منها: قانون_صندوق_الاستثمار، #أردني_أرفض_الاستثمار_الإسرائيلي، #مجلس العار.
كما رصد عدد من التغريدات التي عبر أصحابها من خلالها عن رفضهم القاطع لهذا القرار، منها ما جاء على لسان الإعلامي محمد فريج في تغريدة له: “صحيح أنني ضد الاستثمار الإسرائيلي في الأردن بس برضه تنسوش أنه قانون صندوق الاستثمار بذاته مصيبة على الاقتصاد الوطني”، أما الناشط هاني عواد قال: “مجلس نوابنا الموقّر .. حلّوا عنا وريحووونا” أما الصحفي أسامة حسين كتب: ”#أردني_أرفض_الاستثمار_الإسرائيلي.. والمجلس الذي مرر هذا القرار لا يمثلني”.
وكتب المحامي محمد أبوغنيمة: “لفت انتباهي عبارة التصويت بشراسة على منح الصهاينة حق الاستثمار!!! بالطبع في نواب الله يرضى عليهم وافقوا بدون شراسة”، وطايل السمور علق قائلاً: “أنا #أردني_أرفض_الاستثمار_الإسرائيلي لأني اعتبره إهانة لدم الشهداء بعد سبعين عامًا من الاستقلال ومئة عام من النهضة”.
حالة من الغليان يشهدها الشارع الأردني بشقيه – السياسي والشعبي – جراء هذا القانون الذي يضرب بالانتفاضة الشعبية الرافضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني عرض الحائط، ولا يبالي لتحركات المقاومة الساعية إلى توسيع دائرة تضييق الخناق على تل أبيب بالمقاطعة الدولية، فضلاً عن كونه خنجرًا جديدًا في ظهر الضمير العربي، ومابين التراشق هنا وهناك، هل تستيقظ الأردن على انتفاضة شعبية جديدة تهدم المعبد على رأس الجميع، وتلقي باتفاقية “وادي عربة” في البحر الميت؟ أم تنجح الحكومة – كالعادة – في ترويض القوميين عبر حزمة من الإجراءات الجديدة التي تعتمد على المنهج السياسي المتبع في كثير من الأنظمة العربية “بص للعصفورة”؟