تثار في السنوات الماضية العديد من النقاشات الأكاديمية والدراسات البحثية حول نموذج النمو الاقتصادي في الصين الذي قاد النمو العالمي خلال العقد الماضي وافتخرت بأنه مؤلف من رقمين، وبات أثره يعود على اقتصاديات دول العالم ككل، فما إن ينخفض معدل النمو في الصين حتى ترتعب أسواق المال العالمية ويعود شبح الأزمة المالية العالمية التي حدثت عقب انهيار بنك “ليمان برذرز” في الولايات المتحدة في العام 2008 والتي كان سببها الرئيسي هو الديون.
فماذا يقول خبراء الاقتصاد حول هذا النموذج، هل ينجح ويستمر في قيادة النمو العالمي أم أنه نموذج هش ضعيف غير قادر على الاستمرار أكثر بقيادة النمو على مستوى العالم وينبئ بانفجار فقاعات وأزمات مالية على المستوى العالمي.
معجزة الصين الاقتصادية
لم يجد خبراء الاقتصاد تسمية اقتصادية لاقتصادي ألمانيا واليابان في القرن الماضي إلا كلمة “المعجزة الاقتصادية” لما حققتاه البلدان من نهضة ونمو وتنمية في جميع المجالات، ويحلو لكل دولة أن تسمي اقتصادها أنه معجزة العصر وأنها حققت معدلات تنمية خلاقة لم تحدث في الدول المتقدمة من قبل، والصين تدعي أن الحركة النهضوية التي قامت بها في العقود الثلاثة الماضية أدت لخلق “معجزة اقتصادية”.
حيث تزعم أنها أقامت نموذجًا اقتصاديًا فريدًا من نوعه ارتكز على معدل نمو بلغ 9.8% استمر لسنوات طويلة وانعكس على معدلات التشغيل العامة حيث ارتفعت من 28% في العام 1978 إلى 72% عام 2013، ونجحت في زيادة نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي من أقل من 400 دولار في العام 1978 إلى 7400 دولار عام 2015 أي بمضاعفة 185 مرة، واستطاعت تجميع أكبر احتياطي من النقد الأجنبي في العالم يقدر بـ 4 ترليونات دولار، ونجحت في تمكين حوالي 660 مليون نسمة من سكان الصين للتخلص من الفقر، وبعد الأزمة المالية العالمية 2008 ساهمت الصين بزيادة في حجم الاقتصاد العالمي بنسبة 50% في الفترة الممتدة من 2008 إلى 2014 أي أن نصف حجم الزيادة في الاقتصاد العالمي كان بمساهمة الصين، فضلاً عن هذا كله بات الاقتصاد الصيني يعد ثاني أكبر اقتصاد عالمي وأكبر شريك تجاري لأكثر من 130 دولة.
وانتقدت الحكومة الصينية في الشهر الماضي قرار البرلمان الأوروبي الصادر مؤخرًا حول رفض منح الصين سمة “اقتصاد السوق” واعتبرته “خطوة غير بناءة” من قِبل أوروبا، فالصين تعتبر نفسها أنها باتت أساسًا لحماية التجارة الحرة العالمية.
ولكن هل لا تزال الصين في طريق المعجزة أم أنها حادت؟
تلقى معدل النمو الاقتصادي في الصين في العام 2014 ضربة قوية عندما سجل أدنى مستوى له منذ 24 عامًا، فالناتج المحلي الإجمالي الصيني سجل في العام 2014 نحو 7.3% مقارنة بـ 7.7% في العام الذي سبقه 2013، وخيبت نسب النمو التوقعات في العام 2015 عندما سجلت 6.9% وهو أبطأ وتيرة نمو في الصين منذ عام 1990 ويتوقع جملة من المحللين أن يستمر الاقتصاد الصيني في التباطؤ ليلامس مستوى 6.5% للعام الجاري.
ومنذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008 والعديد من المؤشرات تشير أن “المعجزة الصينية” بات وميضها يخفت والاقتصاد العالمي كل شيء فيه يسير نحو الانخفاض بقيادة الصين صاحبة “المعجزة” كما تدعي، ولا يبدو بنظر اقتصاديين أن أيًا من تلك المؤشرات تدعو الاقتصاد الصيني للتفاؤل في الفترة القادمة وتحقيق معدلات نمو عالية كما في السابق. ومن تلك المؤشرات معدلات الدين العام التي ارتفعت بشكل كبير في الصين، ومعدلات نمو التجارة الدولية التي تقلصت في كل مكان في العالم وقلصت معها حجم الصادرات وفي مقدمتها الصادرات الصينية.
يمر الاقتصاد الصيني منذ عدة سنوات بحالة من الانكماش والتباطؤ الاقتصادي مع ارتفاع في معدلات الدين العام التي لامست في العام 2015 نحو 250% من الناتج المحلي الإجمالي مرتفعًا بشكل مطرد منذ العام 2003 إذ كان يعادل 160% من الناتج المحلي، وتتساوى نسبة الدين العام في الصين مع مثيلتها في الولايات المتحدة إلا أن الفارق أن الدين العام في الولايات المتحدة مر في حالة شبه استقرار منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية 2008، ويرى محللون أن معدلات النمو الاقتصادية في الصين ستنخفض أكثر عندما تبدأ الصين بخفض معدل الدين العام لديها، وربما يؤدي هذا التصحيح في مسار الاقتصاد خلال فترة التخفيض تلك إلى ركود أو حتى أزمة مالية تنفجر فيها فقاعة التضخم التي تنفخ فيها الصين منذ سبع سنوات.
وقد أدرك العديد من المستثمرين الصينيين هذه الفقاعة وأن الأزمة قادمة لا محال، وبدأوا بإخراج أموالهم من الصين إلى اقتصاديات أكثر استقرارًا، حيث تشير البيانات المالية أنه تم سحب ما يقرب من 675 مليار دولار في العام 2015 إلى خارج البلاد، كما يظهر الرسم البياني أدناه الذي ورد في صحيفة النييورك تايمز لحركة رأس المال في الصين منذ عام 2003 وحتى العام 2015 وكيف بدأت حركة خروج الأموال من الصين ما بعد عام 2013.
الصين خلقت تلك المعجزة من خلال الاستثمار في الصناعات التصديرية واعتمدت على إبقاء سعر صرف الرينمينبي منخفضًا لتكسب منتجاتها ميزة تنافسية في العالم، وهذا ما كان يثير حنق الولايات المتحدة وتستعر التصريحات بين الدولتين حيث يضر خفض العملة الصينية صادرات الولايات المتحدة.
وبدأت الأصوات تعلو عند بدء حملات الانتخابات الأمريكية، فالمرشح المرجح للانتخابات التمهيدية عن الحزب الجمهوري لم يخف غضبه من سياسة الصرف الصينية التي تؤثر على الدولار وعلى الاقتصاد الأمريكي وصرح أن خفض العملة الصينية سيكون له وقع “مدمر على الاقتصاد الأمريكي”، وفي حال وصوله للبيت الأبيض سيعمل على كبت جماح الصين وعملتها، كما أنه من اشترطات صندوق النقد الدولي على الصين لإدخال عملتها في سلة العملات الاحتياطي في الصندوق أن تعمل الحكومة على تحريرها بحيث تتغير قيمة العملة وفق تقبات الأسواق وأن تكون قابلة للاستخدام بحرية في الأسواق، وهذا يشير أن الصين مقبلة على إصلاحات هيكلية في الاقتصاد لتتلائم مع الأسواق العالمية وسياسة الصرف مع العملات العالية، وهذا سيأثر أكثر على حركة صادراتها وميزتها التنافسية وسيضغط على معدلات النمو أكثر.
ويتوقع محللون أن يتباطأ الاقتصاد الصيني بشكل أكبر مما هو عليه الآن خلال الخمس سنوات المقبلة، فتبعًا لبحث في صحيفة النييورك تايمز أجري على أسوأ 30 حالة للديون في الخمسين سنة الماضية، بيّن أن البلدان التي ارتفعت فيها الديون على مدى أكثر من خمس سنوات بأكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي، تباطأ الاقتصاد بشكل حاد بأكثر من النصف في السنوات الخمس اللاحقة في الثلاثين حالة المدروسة.
هوس الاقتراض هوى بالاقتصاد الصيني
الفقاعة سببها كان هوس الاقتراض في الصين الذي انتشر بكثرة في الفترة الماضية لدرجة أنه تجاوز البنوك إلى المواقع على الإنترنت التي توفر للمواطن اقتراضًا سهلاً جدًا ولو بمبالغ بسيطة تقدر بـ 15 سنتًا، وباتت البنوك العامة والخاصة تتنافس مع تلك المؤسسات في سوق الإقراض، وهوس الصين في سوق الاقراض يعد الأكبر من بين الأسواق الناشئة في العالم، فبعدما كان معدل الدين العام على الناتج المحلي الإجمالي شبه مستقر عند 150% ارتفعت الديون العامة والخاصة للصين في العام 2014 إلى نسبة 230% من الناتج الإجمالي والزيادة المقدرة بـ 80 نقطة مئوية تعد أكثر من ثلاثة أضعاف الزيادة في الولايات المتحدة الأمريكية قبل انفجار الفقاعة في العام 2008.
ومنذ نهاية العام 2014 والحكومة الصينية تعتبر أن الاستتثمار في الأسهم هو أمر وطني، حيث حفزت الجميع من كل طبقات المجتمع لشراء الأسهم، فدخل ملايين الصينيين لأسواق المال بدون أدنى علم بقواعد الاستثمار والكثير من الطلاب في المدارس بدأوا يقترضون المال لشراء الأسهم كون الأسعار ترتفع وتغري لجني الأرباح وهذا يشابه ما مرت به الولايات المتحدة ما قبل اندلاع الأزمة المالية من توسع كبير في سوق الإقراض.
ونتيجة خشية المستثمرين من نتائج النمو في الاقتصاد اجتاحت موجة بيع في كل أسواق المال الصينية في منتصف العام الماضي، ما أدى إلى انخفاضات كبيرة في أسواق الأسهم الصينية، أجبر الحكومة الصينية بإعطاء أوامرها على الأسواق بوقف عمليات البيع وإغلاق البورصات خشية من الانهيار المالي.
حيث شهدت بورصة شنغهاي في آب/ أغسطس العام الماضي انخفاضات حادة أخافت الجميع من انفجار الفقاعة، وأغلقت البورصة في 25 ذلك الشهر بانخفاض قدره 8.49% وهي أكبر خسارة يومية لها منذ ثمان سنوات وتبعها ثاني يوم بانخفاض 6% أخرى، وكانت الأسبوع الذي سبقها خسرت البورصة ما يقرب من 11% وفي نفس الوقت تراجعت أيضًا بورصة شنجن قرابة 7%، وتدهورت سوق الأسهم الصينية لتضيع مكاسب عام بأكمله، كل هذا يعود بسبب تخوف المستثمرين من استمرار تباطؤ الاقتصاد الصيني، فاجتاحت موجة بيع في أسواق الأسهم جميعها أدت لانخفاضات حادة، وعلى موجة الهبوط في الصين تبعتها معظم أسواق المال في العالم، علمًا أن هذه الأحداث شابهت كثيرًا ما حصل للأسواق المال العالمية بعد انهيار مصرف “ليمان برذرز” الأمريكي في 14 أيلول/ سبتمبر 2008.
يظهر الشكل أعلاه تطورات وتوقعات لمؤشر القوة العاملة في الصين للأعمار من 15- 64 سنة للخمسين سنة الماضية والخمسين سنة المقبلة بالمقارنة مع نفس المؤشر في الولايات المتحدة في نفس الفترة، ويظهر العجز المتوقع في القوى العاملة الذي سيصيب الصين في الخمسين سنة المقبلة.
قاد الاقتصاد الأمريكي الركود العالمي في فترة ما بعد الحرب أدى لانزلاق العالم في الركود مع تراجع في أسواق المال في الولايات لمتحدة، ولكن هذه المرة يبدو أن الاقتصاد العالمي سيخيم عليه الركود بسبب الاقتصاد الصيني الذي كان أكبر مساهم في النمو العالمي في العقد الماضي، ويبدو بحسب خبراء اقتصاديين أنه أكثر هشاشة وضعفًا مما كان يتصور، فمعجزة الاقتصاد الصيني يبدو أنها شارفت على الانتهاء وقرب انفجار الأزمة بات شيكًا.