لا يوجد بلد تلقي السياسات والأزمات الإقليمية بظلال تأثيراتها عليه، في العالم، مثلما يحصل في لبنان، ولئن كان هناك دلالة لذلك، فإنها تبقى أن تشير إلى أن أزمات لبنان سوف تبقى مستمرة أبدًا، في ظل وقوع هذا البلد في شِرَاك منطقة تُعتبر من أكثر مناطق العالم اشتعالاً بالأزمات، وعدم استقرار جيوسياستها إلى الآن بفعل اتفاقية “سايكس – بيكو” ومكملاتها مثل اتفاقية “سيفر” التي أرست قواعد حدود الأزمات الحالية في المشرق العربي.
ويعود ذلك إلى طبيعة لبنان ذاته، والذي لم يستقر له شكلٌ محدد بعد للدولة، سواء على مستوى الحدود أو الهوية الوطنية، في ظل استمرار تجاذب هويات أخرى، وطنية وسياسية أكبر وأقوى، للمجموعات البشرية التي تضمها الرقعة الجيوسياسية المعروفة باسم “دولة لبنان”.
والمتأمل لتاريخ لبنان السياسي، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، يجد أنه دائمًا ما كان عرضة لمحاولات هيمنات خارجية، كانت الطائفية هي الرد عليها، مما مثل بيئة خصبة لصراعات أهلية متواترة، بدءًا من الحرب الأهلية في العام 1860م، وحتى الآن، مرورًا بأزمة العام 1958م، والحرب الأهلية الكبرى في الفترة من العام 1975م وحتى العام 1990م.
وعند النظر إلى الحدث السياسي الكبير الذي جرى في لبنان مؤخرًا وهو الانتخابات البلدية؛ سوف نجد هذا الذي نقول واضحًا، حتى بالرغم من قول البعض بوجود مؤشرات على تغير بنية خرائط التحالفات وتوزيع القوى في هذا البلد، من خلال نتائج الانتخابات.
ومن بين أقوى مؤشرات ذلك، قيام حزب القوات اللبنانية الماروني الذي يتزعمه مجرم الحرب السابق سمير جعجع، أحد “أبطال” مذبحة صبرا وشاتيلا، بدعم قائمة اللواء أشرف ريفي وزير العدل المستقيل من الحكومة والمرشح لأن يكون الواجهة السُّنِّية في لبنان خلال المرحلة القادمة في مناطق الشمال وخصوصًا في طرابلس.
هذه التغييرات لا تتعارض مع أهم حقيقة سياسية في لبنان، وهي أن الطائفة هي محرك الأحداث في هذا البلد، وكل ما يجري فوق السطح وأسفله فإنه يتحرك بموجب هذه الحقيقة الراسخة، حيث إنه عندما أرادت أطراف عديدة في الداخل والخارج، إزاحة شخوص وقوى لحساب شخوص وقوى أخرى، كانت الطائفية والحزبية المعبرة عنها، هي المفتاح.
معالم مهمة في الانتخابات ونتائجها
حفلت الانتخابات اللبنانية بالعديد من المتغيرات – كما تقدم – كان من بين أهمها اكتساح قائمة “قرار طرابلس” المدعومة من الوزير ريفي، لمقاعد المجلس البلدي في طرابلس، حيث حصلت على 18 مقعدًا من مجموع 24 مقعدًا.
في المقابل، حصلت قائمة “لطرابلس”، التي يدعمها رئيس الوزراء الأسبق سعد الدين الحريري، زعيم “تيار المستقبل”، ورئيس الوزراء السابق، نجيب ميقاتي، والوزير السابق، فيصل كرامي ابن عائلة كرامي الطرابلسية الكبيرة، والوزير والنائب محمد الصفدي، على المقاعد الستة الباقية.
ويؤذن ذلك بإزاحة سطوة الحريري بالذات والعائلات الكبيرة الأخرى، عن أحد أهم معاقل السُّنَّة في لبنان، وتأطير ريفي كأحد أقوى الشخصيات السياسية السُّنِّية في لبنان بشكل عام.
ولم يكن تراجع الحريري قاصرًا على طرابلس والشمال، حيث امتدت إلى بيروت نفسها، ومن بين مؤشرات ذلك، حصوله على أصوات 30% فقط من المستقلين في أحد أحياء المدينة ذات الطابع السُّنِّي.
نفس الموقف واجهه تحالف “التيار الوطني الحر”، و”القوات اللبنانية”، في عدد من البلدات المسيحية الأساسية، من بينها تنورين والقبيات في شمال البلاد كذلك، والذي يبدو أن عواصف سوريا قد انتقلت إليه سياسيًّا، كما انتقلت إليه قبلاً أمنيًّا، في اشتباكات جبل محسن.
وبالرغم من أن قائمة تحالف “حزب الله – أمل” الشيعي قد نجا من السقوط في معاقل رئيسية له، إلا أنه بات من الواضح أن هناك تراجع كبير في الموقف الشعبي لكليهما، ربما على خلفية موقف “حزب الله” في الحرب السورية، حيث فازت القائمة بـ 54% من مجموع الأصوات في معاقل سابقة لهم.
كما تراجعت شعبية الحزب والحركة في العديد من مناطق نفوذهما أو كانت تابعة بشكل تلقائي لـ “التيار الوطني الحر”، الشريك الأساسي للحزب في “تحالف قوى الثامن من آذار”، بسبب الاصطفافات الحزبية والعائلية التي تغيرت اتجاهاتها في الفترة الأخيرة.
السعودية والتدخل في لبنان
حظي تحالف ريفي بدعم المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى، وهو ما يلقي ظلالاً على مستقبل سعد الحريري وتياره السياسي، بعد وضوح أن ريفي في سبيله لأن يكون رجل السعودية الجديد في لبنان، في لحظة حساسة للصراع الحالي بين المملكة وبين إيران، والتي تجري بالوكالة بين حلفائهما، في لبنان.
ومن الواضح أن هذا التحول يتم الترتيب له من فترة طويلة، في ظل ممانعة يبديها الحريري لضغوط سعودية لتصعيد الموقف ضد حزب الله في الداخل اللبناني، تخوفًا من تكرار أزمة مايو 2008م، التي اندلعت بسبب قرارات حكومية إزاء قيادات أمنية موالية لحزب الله.
فعندما قررت حكومة الأقلية برئاسة فؤاد السنيورة مصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بحزب الله، وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير الموالي للحزب، وقعت اشتباكات في العاصمة بيروت ومناطق أخرى من جبل لبنان، بين تيار المستقبل والحزب الاشتراكي التقدمي الذي يتزعمه وليد جنبلاط، وبين حزب الله وأحزاب أخرى داعمة له، انتهت بسيطرة حزب الله على العاصمة، ولم تنته الأزمة إلا بعد تراجع الحكومة اللبنانية عن قراراتها المتقدمة.
هذا الموقف لم يشأ الحريري تكراره مرة أخرى، إذا ما استجاب للمطالب السعودية، وخصوصًا بعد اتهام الرياض للحزب بدعم الحوثيين في اليمن، وكذلك عقب التصعيد السعودي الأخير ضد لبنان على خلفية أزمة المملكة مع إيران، بعد إعدام الرياض لرجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، في يناير الماضي، حيث أوقفت الرياض مساعدات عسكرية بثلاثة مليارات دولار للجيش اللبناني، وحزمة مساعدات أخرى للحكومة اللبنانية.
أحداث مايو 2008م تركت أثرًا في مواقف الحريري إزاء المطالب السعودية
نقول إن التخطيط لإزاحة الحريري عن الزعامة السُّنِّية، وتكوين تحالف أقوى من جانب السعودية، يدعم مواقفها بصورة أقوى في لبنان، قد بدأ منذ فترة، عندما وقع تقارب بين جعجع والرياض، زار بموجبه جعجع السعودية والتقى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، في يوليو 2015م.
في حينه رأى مراقبون أن الحفاوة التي استقبله بها المسؤولون السعوديون، لم يسبقه إليها سياسي ماروني لبناني، منذ الرئيس كميل شمعون، في سنوات الستينات، خلال أزمة العلاقات السعودية مع نظام جمال عبد الناصر في مصر.
حفاوة بالغة لقاها جعجع في الرياض ضمن إعادة تشكيل الخريطة السياسية في لبنان
كان انقلاب جعجع على النظام السوري ورئيسه – الحليف لإيران – بشار الأسد، هو أحد أهم عوامل تزكية جعجع في الأوساط السياسية السعودية الحاكمة، ولفت الأنظار منذ فترة طويلة بسبب ذلك، حيث قام جعجع بزيارات عدة للقاهرة، سواء خلال سنة رئاسة الدكتور محمد مرسي أو ما بعدها، من أجل البحث عن دور له في لبنان، بعد أن قرأ مبكرًا أثر الحرب السورية على نفوذ حزب الله، وحلفاء سوريا الآخرين في هذا البلد، وخصوصًا في الأوساط المسيحية.
وهو ما يفسر تمامًا “حماسة” جعجع في هجومه على حزب الله، خلال أزمة سحب السعودية لمساعداتها العسكرية والاقتصادية للبنان، ودعوته إلى تشكيل وفد لبناني يزور المملكة، ويقدم اعتذارًا لها، والبحث عن مخرج للأزمة “التي تسبب بها حزب الله وهجومه على المملكة”، كما قال في حينه.
كان اتفاق الطائف عام 1989م، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، ورعته السعودية، نقطة مهمة لدخول النفوذ السعودي إلى ساحة التأثير في هذا البلد، ربما في قراءة مبكرة من الرياض لخريطة ساحات الصراع الإقليمي المقبل مع إيران الخومينية الشيعية، بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وظهور حزب الله كوكيل للنظام الإيراني في هذه المنطقة، والتي تعتبرها سوريا امتدادًا طبيعيًّا لها.
سوريا التي يحكمها حزب البعث ونظام علوي موالٍ لإيران، دفع السعودية مبكرًا إلى البحث عن موطئ قدم لها في لبنان المهمة، وكان ذلك من خلال رفيق الحريري، الذي كان يحمل الجنسية السعودية بجانب جنسيته اللبنانية.
وبعد أن حاز على ثقة السلطات السعودية، عمل الحريري الأب خلال الثمانينات كمبعوث شخصي للعاهل السعودي في ذلك الحين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، في لبنان، حيث لعب دورًا مهمًّا في صياغة اتفاق الطائف، وفي ضمان تنفيذه في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال دور اقتصادي بالأساس، في جزئية إعادة إعمار لبنان، وخصوصًا العاصمة بيروت، من خلال شركته الشهيرة “سوليدير”.
ومنذ ذلك الحين، كان الحريري الأب ثم الحريري الابن، بعد اغتيال رفيق الحريري في فبراير من العام 2005م، وتيار المستقبل هو “الممثل الشرعي” – لو صحَّ التعبير – للسعودية في لبنان.
وازدادت أهمية تيار المستقبل، بعد ما عرف بثورة الأرز التي تلت اغتيال الحريري الأب، وأدت إلى طرد الجيش السوري من لبنان، بعد اتهامات لحزب الله ودمشق بالتورط في عملية الاغتيال.
إلا أن الأمور لم تسِر على ما يرام، حيث إن التوترات الأمنية التي تشهدها مناطق جبل محسن بين فترة وأخرى، بين العلويين والجهاديين السُّنَّة المدعومين من جانب بأهالي المنطقة، وكانوا يقدمون إسنادًا لفصائل المعارضة السورية المسلحة التي تقاتل ضد النظام السوري، وذكريات أحداث مايو 2008م، كلها أدت إلى مخاوف حقيقية لدى “تيار المستقبل”، من أعمال عنف واسعة تستهدف السُّنَّة بشكل عام في لبنان.
هذا الهاجس قائم، حتى بالرغم من تأكيدات مراقبين من أن الحزب لم يعد قادرًا على تكرار سيناريو مايو 2008م، بسبب فقدانه لقيادات عديدة، كان آخرها مصطفى بدر الدين، وآلاف من عناصره المقاتلة في الحرب في سوريا، وانشغاله بإغلاق الحدود اللبنانية مع سوريا في وجه عناصر الفصائل الجهادية السُّنِّية المسلحة هناك.
وهو تقييم سليم إلى حدٍّ كبير فالحزب، حتى ولو لم يفقد “لياقته” العسكرية، فإنه سياسيًّا لن يستطيع التصرف بنفس الصورة داخل لبنان في هذه المرحلة، وإلا كانت حربًا أهلية جديدة، لن يكون قادرًا على خوضها أو التصدي لتبعاتها في ظل انغماسه الحالي في الأزمة السورية حتى ما بعد الأذنين.
إلا أنه تبقى أن مخاوف الحريري هذه، حقيقية ومؤثرة لديه، ومنعته من أخذ خطوات أوسع ضد حزب الله كما ترغب السعودية، ضمن استراتيجيتها الإقليمية لبناء تحالفات تضم حكومات وجماعات، تحاصر النفوذ الإيراني.
وهي ليست المرة الأولى التي ترفض فيها أطراف إقليمية هذه المطالب السعودية التي تزج بها في أزمات هي لا ترغب في التورط فيها، إما لأنها غير قادرة على ذلك، أو على تحمل تبعاته، مثل حالة الحريري وتياره، أو غير صاحبة مصلحة فيها من الأصل، مثل حركة “حماس”.
وفي الأخير، تبقى الانتخابات البلدية اللبنانية شاهدة على تحولات عدة في بُنية الخريطة السياسية، الحزبية والطائفية، في لبنان، وتوزيع القوى عليها، بشكل قد يميل في الوقت الراهن لكفة المملكة وحلفائها، لكن يبقى السؤال عن حقيقة الموقف، كيف سيكون إذا ما انتهت الحرب في سوريا وعاد حزب الله إلى قواعده سالمًا؟! وقتها قد يكون هناك واقع آخر في لبنان، وخصوصًا لو انتهت الحرب في سوريا، بالحفاظ على النظام الحالي للبلاد، وهو أمر متوقع في ظل الواقع الإقليمي والدولي الراهن الذي لا يميل إلى تكرار تجربة العراق مرة أخرى.