بعد أن كرس كتابه السابق “الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية” لشرح الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للانتفاضة التي عمت المنطقة العربية عام 2011، يركز جلبير الأشقر في هذا الكتاب على تقييم التطورات المأساوية في مصر وسوريا بعد الربيع العربي، مع مسح وجيز جدًا للمسارح الأخرى في اليمن وليبيا والبحرين وتونس.
حيث يتناول المؤلف، التغير الكبير الذي طرأ على استخدام تعبير “الربيع العربي” من اعتباره تحول سياسي يحدث لمرة واحدة، كأنه موسم ازدهار للديموقراطية في المنطقة العربية وانضمامها لموجة التحول الديموقراطي العالمية، إلى تعبير تهكمي نتيجة الفشل المر الذي انتهى إليه مؤقتًا (ص 13-17).
ويؤكد الأشقر، أن الانتفاضة العربية لم تكن – أو لم تكن فقط، أو حتى بالأساس – “انتقالاً ديموقراطيًا”، فهذا الأخير يصبح مفهومًا سطحيًا وفاسدًا حينما يجري تطبيقه دون تمييز على أوضاع مختلفة جذريًا، تتراوح بين حالات تغيير سياسي محض وتحولات شاملة.
فثمة فارق نوعي بالفعل، بين سيرورات يتكيف فيها النظام السياسي مع تنمية رأسمالية اجتماعية – اقتصادية متواصلة، تقتضي وتولد في نهاية المطاف نظامًا برجوازيًا – ليبراليًا – مثل السيرورات التي جرت في أوروبا الجنوبية أو أمريكا اللاتينية أو شرق آسيا -، وبين ثورة سياسية – اجتماعية شاملة تطيح نظامًا اجتماعيًا – اقتصاديًا بأكمله بعد حالة مطولة من انسداد التنمية، مثلما حدث في أوروبا الشرقية.
وفي حين ترجع السلاسة الكبيرة التي جرت بها، الإطاحة بالأنظمة البيروقراطية “الشيوعية” في أوروبا الشرقية، بالرغم من أنها بدت “غير قابلة للتغيير”… إلا أن النظام الدولاني الذي حكم أوروبا الشرقية كان استثنائيًا للغاية في المنظور التاريخي، من حيث خضوعه لا لسيطرة طبقات مالكة بل لسيطرة بيروقراطيين حزبيين وحكوميين، أي موظفي حزب ودولة.
فقد أمكن لهؤلاء البيروقراطيين بغالبيتهم العظمى – خصوصًا في المراتب الدنيا من الهرم – أن يتوقعوا الاحتفاظ بوظائفهم أو إيجاد وظائف جديدة، بل وتحسين قوتهم الشرائية في ظل رأسمالية السوق، بينما أمكن لحصة لا بأس بها من شاغلي المراتب الأعلى أن يتطلعوا إلى مقاولين رأسماليين، بالاستفادة من خصخصة الاقتصاد.
وهو الأمر الذي جعل البعض يعتقد أن “الربيع العربي” سيكون بالقدر نفسه من الإيجاز و”السلمية”…غير أن المفاجأة السعيدة التي أحدثتها السلاسة النسبية في سنة 1989 لم تتكرر سنة 2011، بالرغم من ذلك القسط الكبير من إسقاط الرغبات على الواقع لأن:
- المنطقة العربية شهدت انسدادًا مطولاً للتنمية الاقتصادية على غرار أوروبا الشرقية قبل 1989، ولكن لمدة أطول وفي ظل توترات أكثر حدة بكثير بحيث أتى الانسداد مصحوبُا بآثار اجتماعية أسوأ بكثير.
- هناك فارق كيفي حاسم جعل من المستحيل أن تعيد الانتفاضة العربية إنتاج نمط “الثورة المخملية” الذي اتسمت به أغلب التحولات في أوروبا الشرقية، تمثل في اتسام المنطقة العربية قبل سنة 2011 بغلبة الدول الميراثية في سياق اقتصادي عام من رأسمالية المحاسيب، إلى جانب السمة الريعية التي تتسم بها معظم الدول العربية، وهو ما أدى إلى تطور “نخبة سلطة” ثلاثية عميقة الفساد داخل الدول النيوميراثية العربية ذاتها: من القمم المتداخلة للجهاز العسكري والمؤسسات السياسية وطبقة رأسمالية محددة سياسيًا (برجوازية دولة)، والقمم الثلاث عازمة على الدفاع بشراسة عن استحواذها على سلطة الدولة، المصدر الرئيسي لامتيازاتها وأرباحها (ص 19).
- إضافة إلى صعود نجم الحركات الأصولية الإسلامية، التي تتسم بالرجعية العميقة على أسطع ما يكون إذا ما قيست بمعيار التطلعات التقدمية لـ “الربيع العربي”.
فسقوط قمة جبل الجليد في تونس ومصر ومن بعدهما اليمن، لم يكن بحال من الأحوال قابلاً للمقارنة بالإسقاط الشعبي لمجمل النظام الاجتماعي – السياسي “الشيوعي” شرقي الستار الحديدي، كما يعتقد المؤلف.
صراع مثلث الزوايا
أسفر هذا الوضع السياسي الإقليمي بالغ التعقيد كما يشير المؤلف، عن صراع مثلث الزوايا، لا مواجهة ثنائية بين الثورة والثورة المضادة، كما هو الحال في أغلب الاضطرابات الثورية في التاريخ، وإنما صراع مثلث بين قطب ثوري واحد ومعسكرين متنافسين مضادين للثورة – النظام القديم الإقليمي وخصومه الرجعيين – المتماثلين في عدائهما للتطلعات التحررية لـ “الربيع العربي” (ص 22).
ففي غياب قوى تتمتع بما يكفي من القدرة التنظيمية لتجسيد القطب الثوري و/ أو القدرة السياسية على قيادة تحول اجتماعي – سياسي من شأنه تلبية “إرادة الشعب”، كان محتمًا أن يسود الصدام الثنائي بين معسكري الثورة المضادة، محيلاً القطب الثوري إلى الصف الخلفي.
سورية: صدام الهمجيات
يؤكد المؤلف أن الهجوم الذي شنه النظام السوري بمساندة إيرانية في ربيع 2013، تطور هام وفاصل، أشار إلى الدخول في مرحلة مضادة للثورة على صعيد المنطقة بأسرها، فقد سقطت سوريا في هاوية سحيقة من العنف، مع مستوى المروع من القتل والدمار، والمأساة الإنسانية العظيمة المتمثلة في اللاجئين والنازحين (حوالي نصف سكان سوريا) ويرجع المؤلف ذلك إلى أن:
- كل القوى الخارجية التي تدخلت في الثورة السورية كانت تريد التأكد من أن مئات الآلاف من اللاجئين الذين يفرون من الجحيم لن يخلقوا وضعًا رهيبًا يقوض استقرار بعض جيران سوريا (ص 36)، واتفق الجميع على أهمية الحفاظ على سلامة الدولة السورية ومؤسساتها، ولاسيما القدر الكافي من البنية التحتية الأمنية لمنع نوع الفوضى التي شهدناها في العراق، حتى لوكان الثمن فشل الثورة واستمرار نظام الأسد (ص 37).
- القوى التقدمية الجديدة التي نشأت في سورية مع بداية الانتفاضة سنة 2011 قد خنقتها، دينامية حرب أهلية لم تكن مستعدة لها على الإطلاق، وتدخلات إقليمية ودولية مغرضة، فلم تستطع أن تمسك بزمام الأمور لصالحها (ص 61).
مصر”23 يوليو”: عبد الفتاح السيسي
يؤكد المؤلف أن ثورة مصر، نجحت فقط بالإطاحة بجزء هام من المكون السياسي لـ “نخبة السلطة”، علاة على فصيل “الرأسمالية المحددة سياسيًا” الأوثق صلة بالأسرة الحاكمة السابقة، بيد أن البنية الطبقية الرأسمالية المسؤولة عن الانفجار الاجتماعي – مزيج من برجوازية الدولة وبرجوازية السوق في إطار يستلهم النيوليبرالية – نجت من الزلزال، مثلها في ذلك مثل النواة الصلبة القمعية للدولة، المكونة من الجيش والجسم الرئيسي للقوات شبه العسكرية (ص 88).
وإذا أضفنا لذلك، الفشل الذريع لمرسي والإخوان المسلمين في استعادة “القانون والنظام” وإعادة تشغيل الاقتصاد، بما في ذلك الفشل في إجراء الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية التي اشترطها صندوق النقد الدولي، علاوة على محاولتهم وضع أيديهم على قطاع من الدولة بعد آخر، أدى إلى نفاد صبر المجلس العسكري، وتخليه عن موقفه الانتظاري، لينجح في لعب دورًا محوريًا في نجاح الحشد العملاق ضد مرسي حتى إسقاطه.
انقلاب رجعي، لا ثوري
يرى المؤلف أن المقارنة بين عبد الناصر والسيسي مقارنة ظالمة، فانقلاب عبد الناصر كان انقلابًا ثوريًا حالة نموذجية من الانقلاب الثوري، يؤكد أن الانقلاب الذي جرى تنفيذه يوم الثالث من يوليو/ تموز 2013 ، كان انقلابًا رجعيًا يستعيد النظام القديم في مصر، بل وبانتقام (ص 82).
وقفات مع الكتاب
1- يؤكد المؤلف أن إسقاط الرغبات على الواقع، كلف الحركات الثورية ثمنًا باهظًا على مر التاريخ، وهي مقولة صحيحة وصائبة وتحتاج فعلاً إلى مراجعات دقيقة من كل القوى الحية الراغبة في تغيير حقيقي في بلداننا العربية، لكن المؤلف نفسه يقع في هذا الإسقاط في حديثه عن اليسار العربي باعتباره الأمل في تغيير حقيقي، فأين هو اليسار العربي في الواقع العربي؟؟
2- يقول المؤلف إن “ما من ثورة ستنجح في تفكيك الدولة العسكرية – الأمنية ما لم تتمكن من كسب قلوب وعقول قاعدتها، عوضًا عن ارتكاب الخطأ المميت المتمثل في السعي وراء تأييد قمتها”، وهي ملاحظة في منتهى الأهمية فعلاً من المؤلف، فعدم فهم نفسية الشعوب العربية، وما عانته خلال العقود الأربعة الماضية، والزلزال الذي أصابها خلال السنوات الخمس الماضية، يجعل مهمة أي محاولات جديدة للتغيير صعبة جدًا، ما لم تفهم هذه النفسيات، وتتعرف لكيفيات التعامل معها لاكتساب ثقتها ودافعيتها للتغيير.
3- مقولة المؤلف عن النبوءة المحققة لذاتها في شأن الإرهاب سلاح ذو حدين، وهي مقولة هامة جدًا أيضًا، لأن الأنظمة العربية جميعها تتخذها ذريعة لاستعادة كل ما فقدته من هيمنة واستبداد خلال السنوات الخمس الماضية، وهنا يقع عبء كبير على القوى السياسية التي تنجرف لعنف أو التي تبرر استخدامه من قبل هذه النظم، لأنهم معًا يمهدان السبيل المفتوحة أصلاً لاستمرار حالة الاستبداد والفساد، ومن ثم يكون احتواء أي عنف أو محاولة جر هذه المعارضات للعنف، مدعاة لاستمرار هذه الأنظمة، وزيادة تشبث غالبية شعوبنا بها، لا سقوطها.
4- مقولة المؤلف عن قمة الهرم العسكري – الأمني التي هي مكون أساسي من مكونات قمة الهرم الاجتماعي، وأنها لن تتردد في سحق أي حركة جماهيرية سحقًا دمويًا، مهما كان الثمن بالأرواح البشرية، لا نراها صحيحة، وتحديدًا في مصر، فالعنف المفرط مع الإخوان أو حتى مع المعارضة المدنية له حدود لا يمكنه تعديها بحال، وأي حركة جماهيرية حقيقية تتدرع بالسلمية، ولديها القيادة الحكيمة التي تلجأ للسبل الديموقراطية بذكاء لن تواجه بأي عنف من الجيش المصري تحديدًا، لكن السؤال هو أين هذه الحركة؟؟
5- مقولة المؤلف عن جهاز الشرطة وأنه يعكس في نهاية المطاف التراتبية الاجتماعية العامة في مصر، في معرض حديثه عن إضرابات أمناء الشرطة، تجعل المؤلف يقع في تناقض مع ما سبق وقرره من سحق أي حركة بدموية، فإذا كان جزء كبير يمثل أداة العنف الرئيسية في جهاز الشرطة، يعاني كما يعاني باقي الشعب، ويعترض ويضرب، فكيف سيقمع غيره وهو المقموع الذي ينقم على الظلم في البلاد، وإذا كانت آلة العنف في الجيش من نفس الطبقة، بل هي أشد إملاقًا، فكيف سترضى بقمع الشعب؟
اليسار العربي وتحدياته الاستراتيجية
يكيل المؤلف اتهامات قاسية وحقيقية لليسار العربي المناهض للإمبريالية الذي
- لا يظهر التفهم والتأييد، إلا حينما يقود هذا الشعب أناس “يشاطرون الأيديولوجية الخاصة بذاك اليسار”، لكنه يلزم الصمت مع المختلفين معه.
- وهو محق عندما يندد بموقفهم في مصر عندما لجأوا إلى مطالبة الجيش بعزل الرئيس عن طريق تنفيذ انقلاب، بدلاً من اللجوء للوسائل الديموقراطية مثل الإضراب العام.
- كما يشير إلى عجزه عن أن يفتح بشكل حاسم طريقًا ثالثًا إقليميًا، مساويًا في معارضته لقطبي الثورة المضادة الإقليميين المتنافسين: النظام القديم والأصوليين الإسلاميين، وكلاهما عدو شرس للتطلعات التقدمية الرئيسية للربيع العربي.
- وهو ينتقد تراث اليسار الإقليمي على مدى السنوات الأخيرة في تحالفاته مع أحد القطبين الرجعيين الآخرين ضد الآخر، فقد أيد قسم من اليسار النظم القائمة باسم مواجهة الأصولية الإسلامية، التي وصفها خطأ بأنها “فاشية” بغية تبرير خيانته لكل شيء ينبغي للتقدميين النضال من أجله في الجزائر وتونس ومصر تحديدًا، وسعى جزء آخر من اليسار الإقليمي، بدافع من معارضته الأصيلة والحاسمة للنظم الديكتاتورية، إلى إقامة تحالفات مع الإخوان في سوريا 2005 أو المجلس الوطني بعد الثورة، وهو ينتقد إخفاق أطراف اليسار العربي الرئيسية في الماضي في الحفاظ على اتساقها مع القيم التي تعلنها، أو التي ينبغي لأي يسار حقيقي أن يعلنها.
ثم نجده بعد هذا كله، يعول على هذا اليسار في قيادة ربيع عربي حديد، باعتباره مفتاح ذلك الربيع، بما يحقق الانتقال إلى عصر جديد من التنمية الإنسانية والتحرر لمجمل المنطقة الناطقة بالعربية ولأبعد منها، من خلال بناء القيادات التقدمية الحازمة في استقلالها التي غابت حتى الآن على نحو بالغ القسوة.
داعيًا اليسار العربي إلى السير على حدة تحقيق ذلك، وإن اضطر إلى التحالف التكتيكي فليكن هذا عبر شق طريقه الأساسي الخاص على مسافة متساوية من كلا المعسكرين الرجعيين: الأصولية الرجعية والأنظمة الاستبدادية الفاسدة.
ولتكن التحالفات تكتيكية قصيرة الأمد، ولكن ينبغي ألا يجري أبدًا تصوير الشيطان كملاك في تلك المناسبات، كنعت الإخوان بـ “الإصلاحية” أو نعت قوى النظام القيم بأ “العلمانية” في محاولة لتجميل طبيعتهما الرجعية بعمق (ص 191-192).
والسؤال المطروح هنا: أين هو اليسار العربي في حياة المواطن العربي وواقعه؟ وكيف ليسار يعاني من هذه الأمراض التي ذكرها المؤلف أن يكون مفتاح ربيع حقيقي للعرب؟ وكيف ستتم هذه التحالفات التكتيكية، أين هي القوى السياسية التي يمكن أن تتحالف مع يسار ينظر لها كشيطان، ويتخذها جسرًا للعبور إلى السلطة؟
لكن النقطة الإيجابية، حقيقة، في حديث الصراحة الذي وجهه المؤلف لليسار، أنه ينطبق على جميع القوى السياسية المعارضة في عالمنا العربي، ولو استبدلنا “اليسار” بـ “اليمين”، أو أي تسمية تراها عزيزي القارئ لأي قوة سياسية أخرى، ستجد أن النقد يناسبها تمامًا.
وهو الأمر الذي يجعل السؤال الحقيقي هو: متى تفرز مجتمعاتنا العربية تيارًا سياسيًا يستطيع أن يستوعب جل المواطنين العرب في كل قطر في عملية التغيير السياسي، ويبرأ – في نفس الوقت – من أمراض القوى السياسية الحالية الظفولية المميتة؟؟
خاتمة
صحيح أن الربيع العربي من 2013، قد تحول إلى شتاء عربي، قاس وقارس، وهناك شعور كاسح بالردة والانتكاسة إلى ما هو أسوأ من قبل انتفاضة 2011، إلا أن الانتفاضات العربية، قد حققت بعض الإنجازات الإيجابية، إلى جانب اقتحام “إرادة الشعب” للساحة.
فالإمكانية الثورية الهائلة التي انطلقت في عموم المنطقة الناطقة بالعربية أبعد ما تكون عن الانطفاء، فهي لا تزال حية تمامًا، حتى عندما تحترق تحت رماد حرب أهلية، كتلك التي تدمر سورية، فمن المؤكد أن مواسم أخرى ستأتي، وهذا هو مصدر الأمل كما يقول المؤلف بحق.