ترجمة وتحرير نون بوست
بعد مرور أكثر من 10 أعوام على فرض إسرائيل لحصار خانق على قطاع غزة، يُحذّر السكان الذين يقطنون القطاع، والذين يبلغ عددهم حوالي 1.8 مليون نسمة ونيف، بأنهم عانوا بما فيه الكفاية من الحصار، كما يتملكهم القلق على نحو متزايد حول جيل الأطفال الجديد الذي يشبّ غير مدرك لأي شيء من حولة سوى الحرب والحرمان والعزلة.
“اليوم أشرف الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة على عامه العاشر”، قال أبو ماهر، وهو صياد يبلغ من العمر 62 عامًا يجلس بميناء للصيد في غزة، لصحيفة الميدل إيست آي، وتابع:”المشكلة ليست معنا، فنحن قد رأينا ما يكفي من الحروب في حياتنا، ولكن المشكلة تكمن لدى الأطفال الصغار غير الملومين، الذين يولدون ضمن عقلية الحصار، ويكرهون بطبيعة الحال سجانيهم”.
على مدى العقد الماضي، قاست غزة من ثلاثة اعتداءات عسكرية إسرائيلية برًا وبحرًا وجوًا، حيث خلّفت تلك الاعتداءات السافرة آلاف القتلى من الفلسطينيين، والعديد من الجرحى والمشوهين، فضلًا عن تدميرها لغالبية البنية التحتية للقطاع وتقويضها لاقتصاده الهش.
خرج يوم الأربعاء الماضي المئات من الفلسطينيين ملوّحين بالأعلام الفلسطينية بمناسبة الذكرى السادسة للغارة التي شنتها القوات الخاصة الإسرائيلية عام 2010 على سفينة مرمرة، السفينة التركية المحملة بالمساعدات التي كانت متجهة إلى غزة؛ مما أسفر عن سقوط 10 نشطاء ضمنها.
كرّم المتظاهرون ذكرياتهم من خلال رمي أزهار القرنفل ذات الألوان الزاهية في البحر الأبيض المتوسط وذلك كجزء من أحداث أسبوع عالمي يحتفي بمرور عقد على الحصار باستخدام وسم (هاشتاغ) EndGazaSiege# .
يُعتبر على نطاق واسع بأن الحصار قد ابتُدر على غزة عندما تم فرض عقوبات اقتصادية من قِبل إسرائيل واللجنة الرباعية للشرق الأوسط (المؤلفة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا)، ردًا على فوز حماس بالانتخابات الفلسطينية في يناير من عام 2006، حيث تم تشديد القيود بعد ذلك بشكل أكبر عندما سيطرت حماس على قطاع غزة في عام 2007.
كان من بين المحتجين الذين خرجوا الأسبوع الماضي، الكثير من الأطفال الصغار، الذين حملوا لافتات تندد الحصار، الواقع الذي لم يعرفوا شيئًا سواه على مدى كامل حياتهم القصيرة؛ فخلال تلك الوقفة، سار رهف، وهو صبي يبلغ من العمر تسع سنوات، بصمت وهو يحمل لافتة كُتب عليها “معاناتي… مأساة لكل أصحاب البيوت المدمرة”.
تجمع المتظاهرون في ذات الموقع الذي لوّح فيه الآلاف من سكان غزة بأعلام مماثلة في عام 2008 لاستقبال عدد من قوارب مساعدات (حرروا غزة) التي نجحت في كسر الحصار المفروض على القطاع في تلك السنة.
يتذكر أبو ماهر ذلك اليوم كلحظة مجيدة، لحظة شعر بها بالفخر لحماية غزة والدفاع عنها من قِبل الناشطين الدوليين الذين كانوا مهتمين بالقطاع لدرجة خاطروا بها بحياتهم بغية إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية وإرسال رسالة لدعم الشعب المحاصر ضمن الجيب البحري، ولكن على الرغم من بذل عدة جهود مماثلة منذ ذلك الحين من قِبل الناشطين الدوليين لكسر الحصار من خلال دخول لغزة عن طريق البحر، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل بعد التصدي لها من قِبل البحرية الإسرائيلية.
اليوم، يقول سكان القطاع بأنهم يشعرون بالعزلة والوحدة على نحو متزايد، خاصة بعد أن دمرت الحروب الثلاثة التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي عشرات الآلاف من المنازل، مزّقت النسيج الاجتماعي في غزة، وتركت الأطفال يتامى والزوجات أرامل.
يشير الأطباء النفسيون بأن حالات اضطراب ما بعد الصدمة بين صفوف أطفال غزة تضاعفت منذ عام 2012، بالتزامن مع تصاعد حالات الصدمات والقضايا النفسية الأخرى على حد سواء، كما تشير تقارير المنظمات غير الحكومية أيضًا إلى حصول زيادة في العنف القائم على التمييز الجنسي، حيث دأبت جماعة عمل المساعدة وغيرها من الجماعات الإنسانية لتقديم الدعم للنساء المتضررات من النزاع واللواتي كنّ في أشد الحاجة للمشورة القانونية.
“سجانونا لا يسمحون لنا لا بالموت، ولا بالازدهار”
في الوقت عينه، لا يزال الحصار قائمًا بإحكام منذ فرضه؛ فمن خلال معبر إيريز مع إسرائيل، لا يُسمح بعبور سوى العاملين في المجال الإنساني وأولئك الذين يحملون تصاريحًا خاصة، كعدد قليل من رجال الأعمال الفلسطينيين الذين يتعاملون مع الشركات الإسرائيلية، كما تم السماح لبضع مئات من الفلسطينيين الذين كانوا في أمسّ الحاجة للعلاج الطبي العاجل أو للطلاب الذين يمتلكون إذنًا للدراسة في الخارج بمغادرة القطاع.
على الجانب الآخر، مازال معبر رفح، المعبر البري الرئيسي الآخر لغزة باتجاه مصر، مغلقًا إلى حد كبير منذ انتخابات عام 2006، على الرغم من تخفيف بعض ضوابط التنقل في عام 2010 في أعقاب هجوم إسرائيل على سفينة مرمرة، حيث سُمح حينها بمرور 167,000 شخصًا ذلك العام مقارنة مع 60,000 شخصًا في عام 2009.
بعد الثورة المصرية لعام 2011 والانتخاب اللاحق للرئيس المصري محمد مرسي، ظفر سكان غزة بالمزيد من الحرية لفترة وجيزة، حيث تم السماح بعبور حوالي 257,000 فلسطينيًا خلال سنة واحدة، ولكن انخفضت هذه الأرقام بشكل حاد بعد الإطاحة بمرسي في عام 2013، حيث لم يفتح معبر رفح أبوابه العام الماضي سوى لـ21 يومًا فقط.
يقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الانسان، الذي يقع مقره بجنيف، بأن الحصار المفروض أدى إلى تضاعف مستوى المعاناة الإنسانية في قطاع غزة، حيث يُعتقد بأن 6 من بين كل 10 أسر اليوم تعاني من نقص حاد بالغذاء، وتُصنف في خانة الخطر من الناحية التغذوية.
مجموعة من الأطفال يحتجون في ميناء غزة حول إمدادات الدواء، الحق في السفر، وإنهاء الحصار.
بالمثل، حذّرت الأمم المتحدة مسبقًا بأن الأوضاع في غزة ستتحول لتصبح غير صالحة للعيش بتاتًا بحلول عام 2020.
تقول أم فؤاد جابر، أحد سكان غزة وتبلغ من العمر 42 عامًا، لصحيفة الميدل إيست آي بأن الناس ببساطة لا يعرفون ما الذي يتوجب عليهم فعله بعد اليوم، والطريقة الوحيدة التي يشعر السكان بأنهم يستطيعون من خلالها الاستمرار، هي مواصلتهم بالمقاومة والبقاء والدفاع عن أراضي أجدادهم.
“سجانونا لا يسمحون لنا لا بالموت، ولا بالازدهار”، قالت جابر، وتابعت موضحة بأن الأوضاع ضمن القطاع شهدت تدهورًا هائلًا في ظل الحصار، لدرجة أضحى العثور فيها على مياه نظيفة للشرب مهمة عسيرة؛ فالنقص الذي يشهده القطاع تنامى على نطاق واسع، كما تشير جابر، وعندما تصل المياه إلى الصنابير، لا توجد طريقة لمعرفة ما إذا كانت تلك المياه نظيفة أم قذرة.
بالإضافة إلى ذلك، تعد التغذية الكهربائية بدورها سلعة نادرة أيضًا، حيث لا تعرف الأسر متى سيتم تزويدها بساعات التغذية الكهربائية الشحيحة، لتعود لتغرق مرة أخرى في ظلام الانقطاع المستمر.
يشير مروان كرم، صاحب سوبر ماركت في غزة، لصحيفة الميدل إيست آي، بأن الحصول على اللوازم الأساسية هو أمر عسير للغاية، وفي كثير من الأحيان يعد الحصول على زبائن للمتجر أمرًا أشد صعوبة وعسرًا؛ فمع المسؤولية الجزئية التي تُلقى على كاهل الحصار للارتفاع الصاروخي في معدلات البطالة في غزة، والتي تبلغ رسميًا 40% ولكن يُعتقد على نطاق واسع بأنها أعلى من ذلك على أرض الواقع بكثير، لا يستطيع سوى عدد قليل من الأشخاص دفع ثمن البضائع التي يحتاجونها أمسّ الحاجة؛ ونتيجة لهذا الوضع المزري، سمح العديد من أصحاب المتاجر على مدى سنوات للأصدقاء والجيران بالحصول على البضائع التي تنقذ حياتهم من خلال توسيع هامش الديون، رغم أن أصحاب المحال يدركون بأن نصف تلك الديون لن يتم سدادها بتاتًا.
“غزة كمريض يعاني من مرض حاد، يُستبقى على قيد الحياة من خلال بضع قطرات علاج وريدية، لا تكفي ليزدهر ويشفى، ولكنها كافية لتبقيه على قيد الحياة لتجنب وصف السجانين بالقسوة والإهمال”، قال كرم.
من جانبها، تصرّ إسرائيل على أن الحصار هو إجراء وقائي أمني ضروري ردًا على التهديد الذي تفرضه على حدودها حماس وغيرها من المتشددين في غزة.
ولكن ردًا على ذلك، يقول ريتشارد فالك، مقرر الأمم المتحدة السابق الخاص بفلسطين، والذي يرأس مجلس أمناء المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، لصحيفة الميدل إيست آي بأن حصار غزة يرقى ليكون شكلًا من أشكال “العقاب الجماعي” الذي تفرضه إسرائيل على المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة.
“لا توجد محنة معاناة إنسانية أكثر إهانة للضمير الإنساني من الحصار الذي تفرضه إسرائيل منذ عقد كامل على سكان غزة ” قال فالك، وتابع: “هذه الإساءة المستمرة لحقوق الإنسان هي مثال هائل وفتّاك على العقاب الجماعي الذي يعاني منه السكان المدنيون المحاصرون في غزة، كما يعد هذا الحصار شاهدًا على عجز وتواطؤ المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة”.
لكن على الرغم من الوعي المتزايد حول محنة غزة، يشير السكان الذين يعيشون في ظل آثار الاحتلال بأنهم يشعرون كما لو تم إهمال ونسيان قضيتهم تمامًا؛ فالتحركات الأخيرة نحو المصالحة بين إسرائيل وتركيا، تلك العلاقة التي تقوضت أثر هجوم إسرائيل على سفينة مرمرة والذي راح ضحيته 8 مواطنين أتراك، صاعدت توجس الكثير من سكان القطاع من أن أنقرة ستتراجع عن مطالبتها بإنهاء الحصار على غزة، وذلك بالتلازم مع استمرار البلدان العربية الأخرى، بما في ذلك مصر والأردن وعدة دول خليجية، بالتقرب من إسرائيل.
في ميناء غزة، حيث تجمع النشطاء للاحتفاء بذكرى الحصار، حمل الأطفال صورًا تُظهر علامات اليأس والحرمان، “لا للجوع، نعم لرفع الحصار”، كُتب على إحدى اللافتات التي حملتها فتاة تبلغ من العمر ثماني سنوات.
بالمقابل، دعا أبو ماهر، الصياد الفلسطيني، إلى سماع صيحات الطفلة وآلاف الأطفال الآخرين في غزة، موضحًا بأن أطفال القطاع “يتوقون للحصول على مستقبل أفضل”، وأضاف قائلًا: “يجب علينا بناء جسور تفاهم ما بين الأمم، ولكن حتى نحقق ذلك يجب أن تُفتح الحدود”.
المصدر: ميدل إيست آي