فوجئ العديد من المراقبين للأحداث في الشرق الأوسط بالوثائق التي تكشف أنَّ مؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني تواصل سرًا مع الولايات المتحدة للحصول على المساعدة والتعاون عندما كان في المنفى، وذلك قبل ثورة عام 1979.
في 27 يناير عام 1979، أرسل آية الله روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الرجل الذي وصف الولايات المتحدة بــ “الشيطان الأعظم”، رسالة سريّة إلى واشنطن.
من منزله في المنفى خارج باريس، عرض الزعيم الجريء للثورة الإيرانية صفقة على إدارة كارتر، وقال إنَّ القادة العسكريين الإيرانيين يستمعون إليكم، ولكن الشعب الإيراني يتبع أوامري.
اقترح الخميني أنّه إذا استخدم الرئيس جيمي كارتر نفوذه على الجيش لتمهيد الطريق لتوليه السلطة مرة أخرى، سيقوم بتهدئة الأمة، وبالتالي استعادة الاستقرار، وحماية مصالح أمريكا والمواطنين في إيران.
في ذلك الوقت، كان المشهد الإيراني فوضويًا للغاية؛ حيث اشتبك المتظاهرون مع قوات الأمن، وأُغلقت المحلات التجارية وتمّ تعليق الخدمات العامة. وفي الوقت نفسه، أوقفت الإضرابات العمّالية تدفق النفط، مما هدّد المصالح الغربية الحيوية.
نجح كارتر في إقناع حاكم إيران الأوتوقراطي، محمد رضا شاه بهلوي، المعروف باسم الشاه، بمغادرة البلاد لقضاء “إجازة” في الخارج، تاركًا وراءه رئيس وزراء لا يحظى بشعبية كبيرة وجيش في حالة من الفوضى، عبارة عن قوة من 400 ألف رجل مع اعتماد كبير على الأسلحة والمشورة الأمريكية.
خاف الخميني من الجيش الغاضب لأنَّ كبار قادته كانوا يكرهونه. والأكثر إثارة للقلق، أنهم كانوا يجتمعون يوميًا بجنرال أمريكي من القوات الجوية معروف باسم روبرت هويسر، الذي أرسله الرئيس كارتر في مهمة غامضة إلى طهران.
عاد آية الله إلى إيران بعد 15 عامًا قضاها في المنفى، وجعل “عُطلة” الشاه دائمة. وكان له مطلب شخصي. في أول رسالة شخصية، أخبر الخميني البيت الأبيض أنّه لا داعي للذعر من احتمال خسارة حليف استراتيجي منذ 37 عامًا، وأكّد أنه سيكون صديقًا للولايات المتحدة أيضًا.
“سترون أننا لا نحمل أي عداء خاص تجاه الأمريكيين”، هكذا قال الخميني، وتعهّد بأنَّ الجمهورية الإسلامية ستكون “دولة إنسانية، وستعمل في صالح قضية السلام والهدوء للبشرية جمعاء”.
رسالة الخميني هي جزء من مجموعة من الوثائق التي كشفت عنها الحكومة الأمريكية مؤخرًا، والتي تضم بعض البرقيات الدبلوماسية، والمذكرات السياسة، ومحاضر الجلسات، وتحكي قصة غير معروفة إلى حد كبير حول العلاقة السريّة بين أمريكا والخميني، رجل الدين الغامض الذي ألهم الأصولية الإسلامية المعادية للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم.
تصف هذه القصة بشكل تفصيلي كيف توسط الخميني في عودته إلى إيران باستخدام لهجة من الاحترام والمرونة تجاه الولايات المتحدة، الأمر لم يتم الكشف عنه من قبل.
في الواقع، كانت رسالة آية الله تتويجًا لأسبوعين من المحادثات المباشرة بين رئيس هيئة الأركان وممثل عن حكومة الولايات المتحدة في فرنسا، في عملية سريّة ساعدت في تمهيد الطريق لعودة الخميني لإيران والصعود السريع للسلطة، وعقود من التوترات الشديدة بين إيران وأمريكا.
في السردية الرسمية الإيرانية للثورة، تحدى الخميني بشجاعة الولايات المتحدة وهزم “الشيطان الأعظم” في جهود مستميتة للحفاظ على بقاء الشاه في السلطة.
لكنَّ الوثائق تكشف أنَّ الخميني كان يعمل مع الولايات المتحدة أكثر مما اعترفت به أي حكومة في أي وقت مضى. وبعيدًا عن تحدى أمريكا، كان الخميني يتودد لإدارة كارتر، ويرسل إشارات هادئة تشير إلى أنّه يريد إجراء حوار ومن ثمّ يصوّر جمهورية إسلامية خاضعة لمصالح الولايات المتحدة.
حوار الخميني السريّ مع “الشيطان الأعظم”
حتى يومنا هذا، يزعم مسؤولو إدارة كارتر أنَّ واشنطن -على الرغم من الانقسام الحاد بشأن مسار العمل- دعمت الشاه وحكومته.
لكن الوثائق تُظهر سلوك أكثر دقة من جانب الولايات المتحدة من وراء الكواليس. بعد يومين فقط من مغادرة الشاه طهران، أخبرت الولايات المتحدة مبعوث الخميني بأنها توافق -من حيث المبدأ- على فكرة تغيير الدستور الإيراني، وإلغاء النظام الملكي. وقدّمت لآية الله معلومة هامّة تقول بأنَّ القادة العسكريين الإيرانيين أصبحوا أكثر مرونة بشأن مستقبلهم السياسي.
ما حدث قبل أربعة عقود بين أمريكا والخميني ليس تاريخًا دبلوماسيًا فحسب. لقد كانت لدى الولايات المتحدة رغبة في عقد صفقات مع ما تعتبرها الجهات البراغماتية داخل الجمهورية الإسلامية حتى يومنا هذا. وكذلك الإرث المناهض بشدة للولايات المتحدة الذي تركه الخميني لإيران.
رسالة إلى كينيدي
هذه ليست المرة الأولى التي يتواصل فيها الخميني مع واشنطن.
في عام 1963، ظهر آية الله باعتباره من أشد المنتقدين للشاه. في يونيو من نفس العام، ألقى خطابًا شديد اللهجة، وصب جام غضبه على الشاه، وكان يتعرض لضغط شديد من إدارة كينيدي، ومن ثمّ أطلق “الثورة البيضاء”، برنامج الإصلاح الزراعي الرئيسي ومنح المرأة حق التصويت.
اُعتقل الخميني، بعد ثلاثة أيام من اندلاع الاحتجاجات العنيفة التي أخمدها الجيش بسرعة.
وتكشف وثيقة أعلنت عنها وكالة المخابرات المركزية مؤخرًا أنّه في نوفمبر عام 1963، أرسل الخميني رسالة دعم نادرة لإدارة كينيدي أثناء احتجازه قيد الإقامة الجبرية في طهران.
وكان ذلك بعد بضعة أيام من إعدام اثنين من المنظمين المزعومين للاحتجاجات رميًا بالرصاص وقبيل زيارة تاريخية للرئيس السوفيتي لدولة لإيران، التي أثارت مخاوف الولايات المتحدة من ميل إيران نحو علاقة وديّة مع الاتحاد السوفياتي.
أراد الخميني الرئيس أن يوضح أنه لا يوجد لديه أي خلاف مع أمريكا.
“أوضح الخميني أنه لم يكن معارضًا للمصالح الأمريكية في إيران”، وفقًا لتحليل أجرته وكالة المخابرات المركزية عام 1980 بعنوان “الإسلام في إيران”، الذي تمّ نشر جزء منه في عام 2008 كما أخبر الخميني الولايات المتحدة أنَّ الوجود الأمريكي ضروري لمواجهة النفوذ السوفياتي والبريطاني.
لكنَّ برقية السفارة التي تحتوي على النص الكامل لرسالة الخميني بقيت طي الكتمان.
وليس من الواضح ما إذا قد قرأ الرئيس كينيدي هذه الرسالة أم لا. لكن بعد أسبوعين، تمّ اغتياله في ولاية تكساس.
وبعد مرور عام، تمّ طرد الخميني من إيران. ولذلك، شنّ هجومًا جديدًا على الشاه، وهذه المرة بسبب تمديد الحصانة القضائية للجنود الأمريكيين في إيران.
“الرئيس الاميركي يعلم أنّه الشخص الأكثر كراهية بين أمتنا”، هكذا أعلن الخميني قبل وقت قصير من الذهاب إلى المنفى.
وبعد خمسة عشر عامًا، استقر الخميني في باريس. وكان زعيم الحركة التي ستلغي النظام الملكي في إيران. وبالرغم من أنّه كان على وشك الفوز، إلّا أنَّ آية الله كان بحاجة أمريكا.
اللاعبون الرئيسيون
- إيران
آية الله روح الله الخميني: زعيم ديني شيعي، عاش في المنفى في باريس في مطلع عام 1979
آية الله محمد بهشتي: الرجل الثاني في القيادة بعد الخميني، وهو رجل دين شيعي ترى الولايات المتحدة أنّه سياسي براغماتي
إبراهيم يزدي: طبيب إيراني-أمريكي عاش في هيوستن، تكساس، أصبح المتحدث باسم الخميني وأحد مستشاريه
محمد رضا شاه بهلوي: آخر ملوك إيران، والمدعوم سابقًا من قِبل حكومة الولايات المتحدة
شابور بختيار: آخر رئيس وزراء في عهد الشاه
- إدارة كارتر
وليام سوليفان: سفير الولايات المتحدة في إيران
سايروس فانس: وزير الخارجية الأمريكي
وارن زيمرمان: المستشار السياسي في السفارة الأمريكية في فرنسا، والذي عمل كرسول الولايات المتحدة للخميني
روبرت هويسر: جنرال بالقوات الجوية الأمريكية، بعث به كارتر في مهمة سريّة إلى طهران في يناير عام 1979
بحلول يناير عام 1979، كان الخميني يحظى بزخم كبير، لكنه كان يخشى بشدة التدخل الأمريكي في اللحظة الأخيرة، وتكرار انقلاب عام 1953، عندما ساعدت وكالة الاستخبارات المركزية على عودة الشاه إلى السلطة.
أصبح الوضع متفجرًا بعد أن نشر رئيس وزراء الجديد، شابور بختيار، قوات ودبابات لإغلاق المطار، وتعطيل عودة الخميني المقررة في أواخر يناير عام 1979.
بيد أنَّ إيران على شفا حرب أهلية؛ حيث كانت فرق الحرس الإمبراطوري مستعدة للقتال حتى الموت من أجل ملكهم، وكان أتباع الإمام مستعدين للكفاح المسلّح والاستشهاد.
خشي البيت الأبيض من اندلاع حرب أهلية إيرانية سيكون لها آثار كبيرة على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. ومن بين الأمور التي كانت على المحك هي حياة الآلاف من المستشارين العسكريين الأمريكيين، وأمن نظم الأسلحة الأمريكية المتطورة في إيران، مثل طائرات F-14، وتدفق النفط، ومستقبل أهم مؤسسة في إيران، الجيش.
ومع ذلك، كان البيت الأبيض أقل انزعاجًا إزاء صعود الخميني، وسقوط الشاه.
لكن الرئيس كارتر كان قد رفض سابقًا مقترحًا لعقد صفقة بين الخميني والجيش.
في 9 نوفمبر عام 1978، في برقية بعنوان “التفكير فيما لا يمكن تصوّره”، حذّر سفير الولايات المتحدة في إيران، وليام سوليفان، من أنّه ستتم الإطاحة بالشاه. وقال إنَّ واشنطن يجب أن تُخرج الشاه وكبار جنرالاته من إيران، ومن ثمّ عقد صفقة بين صغار القادة والخميني.
تفاجأ الرئيس كارتر باقتراح سوليفان الجريء، وتسبب في تأزم العلاقة بينهما. ولكن بحلول أوائل يناير عام 1979، رأى كارتر أنَّ رحيل الشاه كان ضروريًا لتهدئة المعارضة.
وسط تقارير عن وقوع انقلاب عسكري وشيك، استدعى الرئيس كبار مستشاريه يوم 3 يناير. وبعد مناقشة قصيرة، قرروا تشجيع الشاه على المغادرة لقضاء عطلة في ولاية كاليفورنيا.
وقال الرئيس: “عدم انحياز إيران ليس من الضروري اعتباره نكسة للولايات المتحدة”.
في ذلك اليوم، أرسل كارتر الجنرال روبرت هويسر، نائب قائد القوات الأمريكية في أوروبا، إلى طهران لإخبار جنرالات الشاه بالهدوء وعدم الانقلاب ضد رئيس الوزراء بختيار.
لكن بختيار لم يكن لديه أي دعم حقيقي بين المعارضة التي كانت تصفه بأنّه وكيل الشاه.
أشاد سوليفان بشجاعة بختيار في وجهه، ولكن وراء ظهره، أبلغ واشنطن أن الرجل كان “خياليًا”، من النوع المغامر، ولن يأخذ “التعليمات” من الولايات المتحدة.
رأت وزارة الخارجية الأمريكية حكومته بأنها “ليست قابلة للحياة”. أيّده البيت الأبيض بقوة بشكل علني، ولكنه بحث طرق الإطاحة به في انقلاب عسكري بشكل سريّ.
“يجب ألّا يكون هناك أي خوف بشأن النفط. ليس صحيحًا أننا لن نبيع النفط للولايات المتحدة” هكذا قال الخميني لزائر أمريكي في فرنسا في 5 يناير، وحثّه على نقل رسالته إلى واشنطن. نقل الزائر رسالة الخميني وأرسل الملاحظات إلى السفارة الأمريكية.
وفي اجتماع مهمّ في غرفة العمليات في البيت الأبيض يوم 11 يناير، توقّعت وكالة المخابرات المركزية أنَّ الخميني سيتراجع ويسمح للرجل الثاني في القيادة، آية الله محمد بهشتي، بإدارة الحكومة.
رأى المسؤولون الأمريكيون أنَّ بهشتي سياسي نادر: رجل الدين واقعي يتحدث الإنجليزية تلقى تعليمًا جامعيًا، لديه خبرة من العيش في الغرب، وتربطه علاقات وثيقة بالخميني. باختصار، كان هو الشخص المناسب الذي يمكن أن تتفاوض معه أمريكا.
وقال رئيس مكتب استخبارات وزارة الخارجية آنذاك، فيليب ستودارد: “نحن نقلّل من قدر الخميني إذا اعتبرناه مجرد رمز للتعليم المنفصل ومعارض لحقوق المرأة”.
شعر الرئيس كارتر بارتياح شديد بعد وصول الجنرال هويسر إلى طهران. لقد كان هويسر بارعًا في اتباع الأوامر، وكان يحظى بثقة القادة العسكريين الإيرانيين.
بعد وصوله إلى طهران، كانت مهمة هويسر هي معرفة آراء كبار ضباط الجيش وإقناعهم بوضع هيبتهم جانبًا ومقابلة بهشتي. كانت الولايات المتحدة تعتقد أنَّ مثل هذا الاجتماع سيؤدي إلى “توافق” الجيش مع الخميني.
وللمساعدة في كسر حالة الجمود، تغاضى الرئيس كارتر عن مكانته الخاصة. وفي مساء يوم 14 يناير، أرسل وزير الخارجية الأمريكي سايروس فانس برقية إلى سفارتيّ الولايات المتحدة في باريس وطهران: “لقد قررنا أنّه من المستحسن إنشاء قناة أمريكية مباشرة بحاشية الخميني”.
لقاءات سرية
في ظهر يوم 15 يناير، وصل المستشار السياسي وارن زيمرمان من السفارة الأمريكية في فرنسا في فندق هادئ في بلدة نوفل لوشاتو، خارج باريس، حيث يعيش الخميني. وكان زيمرمان قد اقترض سيارة رئيسه “البيجو”، التي لا تحمل لوحات دبلوماسية، لتجنب تعقبه.
وقال زيمرمان: “دخلت وكانت هناك غرفة طعام كبيرة فارغة، ورجل يجلس على طاولة، وكان هذا الرجل هو يزدي”.
وكان هذا الرجل هو إبراهيم يزدي كبير مستشاري الخميني، وهو طبيب إيراني أمريكي.
وقال أحد سكّان هيوستن، بولاية تكساس، إنَّ يزدي تربطه علاقات مع مسؤولين أمريكيين في واشنطن من خلال عميلة قام بها ريتشارد كوتمان، عميل سابق لدى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كان قد تحوّل إلى باحث ليبرالي، مناهض الشاه.
إقامة صلة مباشرة مع الخميني كانت مسألة حسّاسة للغاية. إذا تمّ الكشف عنها، سيجري تفسيرها على أنها تحوّل في سياسة الولايات المتحدة، وهي إشارة واضحة للعالم كله أنَّ واشنطن تتخلى عن صديقه القديم، الشاه.
يوم 17 يناير، كتب الرئيس كارتر في مذكراته أنه كان يضغط بقوة لإبقاء الخميني خارج إيران. ولكن في اليوم التالي، أخبرت إدارته الخميني أنّها ليس لديها مشكلة مع عودته إلى إيران”.
وبالفعل، بدأت إدارة كارتر محادثات سريّة مع الخميني بهدف التوصل إلى اتفاق مضلّل بين آية الله والجيش. ومن الممكن أيضًا أنهم أرادوا إبطاء زخم الخميني أو معرفة نواياه. ولكن انتهى بهم المطاف بعدم تحقيق أي من تلك الأهداف.
أراد الخميني نصرًا حاسمًا، وليس مجرد صفقة. ولكن العلاقة التكتيكية مع واشنطن أفادته كثيرًا. الخميني، في الواقع، كانت لديه مجموعة من الأسئلة الأساسية لتحديد التزام كارتر تجاه نظام الشاه وتوجيه الجيش الإيراني.
لقد كانت أكبر مخاوف الخميني هي أن أمريكا كانت على وشك القيام بانقلاب في اللحظة الأخيرة لإنقاذ الشاه. وبدلًا من ذلك، تلقى إشارة واضحة أن الولايات المتحدة ترى أن الشاه انتهى، وتبحث عن وسيلة لحفظ ماء الوجه لحماية الجيش وتجنب استيلاء الشيوعيين على السلطة.
وردت واشنطن على أسئلة الخميني حول مستقبل النظام الملكي وتوجيه الجيش. والآن، جاء دور آية الله. أرادت إدارة كارتر معرفة مستقبل مصالح الولايات المتحدة الأساسية في إيران: الاستثمارات الأمريكية، وتدفق النفط، والعلاقات السياسية والعسكرية، ووجهات النظر حول الاتحاد السوفيتي.
أجاب الخميني عن تلك الأسئلة خطيًا في اليوم التالي، وأرسلها مع يزدي. وكتب الخميني: “سنبيع نفطنا لمن يشتريه بسعر عادل. وسوف يستمر تدفق النفط بعد قيام الجمهورية الإسلامية، باستثناء بلدين: جنوب أفريقيا وإسرائيل.”
الجمهورية الإسلامية، على عكس نظام الشاه، لن تكون بمثابة شرطي دول الخليج، لكنها لن تدخل في أعمال تصدير الثورة كذلك. وفي هذا السياق قال الخميني: “لن نطلب من الشعوب في السعودية والكويت والعراق أن يطردوا الأجانب من بلادهم”.
لقد أثارت الفوضى في إيران قلق معظم الدول العربية المجاورة التي كانت تخشى أنه بعد سقوط الشاه سوف تسيطر الجماعات الماركسية المسلّحة على إيران. وخلص تقييم وكالة المخابرات المركزية إلى أنَّ المحافظين العرب وجدوا أنّه من الصعب تصديق أنَّ الخميني أو النظام المرتبط بأفكاره يمكن أن يشكّلوا حكومة دائمة في إيران.
لكن آية الله سرعان ما قضى على جميع الجماعات الماركسية التي دعمت نضاله. وقبل تصفية اليسار، أطاح الخميني وأتباعه المتطرفين بالمعتدلين، بما في ذلك يزدي، على أساس أنهم كانوا من المؤيدين للولايات المتحدة وليسوا ثوريين حقيقيين.
في الواقع، كان لدى الخميني ثلاثة طلبات: تمهيد الطريق لعودته، الضغط على الحكومة الدستورية للاستقالة، وإجبار الجيش على الاستسلام. وحذّر أيضًا أنه إذا انهار الجيش، فإنَّ أتباعه سيوجهون العنف ضد المواطنين الأمريكيين في إيران.
في محادثة هاتفية يوم 27 يناير، أخبر وزير الدفاع هارولد براون الجنرال هويسر بشأن رسالة الخميني السريّة ومناقشاته مع الرئيس كارتر حول هذا الموضوع. أوضح براون لهويسر أنَّ عودة الخميني كانت مجرد مسألة “تكتيكية” منوطة بالسلطات الإيرانية.
كانت الإدارة الأمريكية ممتنة أن الخميني وافق على وسائل اتصال مباشرة وتمنى مواصلة المحادثات، وفقًا لنسخة رُفعت عنها السرية من مسودة رد واشنطن على الخميني.
حذّرت الاستجابة المقترحة الخميني من إقامة حكومته، وأكّدت على أنّه يجب حل الأزمة من خلال الحوار مع السلطات الإيرانية.
تمّ إرسال النص إلى السفارة الأمريكية في طهران من أجل معرفة رد الفعل، حيث انتهى بها الأمر على الرف، ولم تصل إلى الخميني في فرنسا.
ولكن هذا لم يكن له أي أهمية؛ حيث كان آية الله في طريق عودته إلى إيران.
وصل الخميني إلى مطار طهران صباح يوم 1 فبراير، حيث الآلاف من المؤيدين. وفي غضون أيام قليلة، عيّن رئيس وزراء منافس.
في ذلك الوقت، لم يكن لدى الجيش أي مشاكل أساسية مع تغيير شكل الحكومة، وطالما أنَّ التغيير تمّ بشكل “قانوني وتدريجي”، وذلك وفق ما جاء في تقرير في 5 فبراير عام 1979 نشرته وكالة المخابرات المركزية في عام 2016.
في هذه المرحلة، تآكل تماسك الجيش بشكل كبير. وكان العديد من صغار الضباط والجنود المجنّدين يؤيدون الخميني. لم تكن القيادة العسكرية مستعدة لحرب أهلية شاملة. ومن وراء ظهر بختيار، عقدت اجتماعًا طارئًا وأعلنت الحياد. لقد استسلموا في الواقع. وهرب رئيس وزراء الشاه لإنقاذ حياته.
اليوم الذي فاز فيه الخميني بثورته الأولى، لم يكن الرئيس كارتر في واشنطن. خلال عطلة نهاية الأسبوع، ذهب إلى كامب ديفيد. وفي صباح يوم الأحد 11 فبراير، كان كارتر ووزير خارجيته في الكنيسة، ولم يكن من الممكن الوصول إليهما.
يعتقد الكثيرون أن إدارة كارتر التي عانت من فشل استخباراتي وانقسام داخلي، كانت إلى حد كبير مجرد مراقب سلبي للزوال السريع للشاه.
ولكن من الواضح الآن أنّه في المراحل النهائية للأزمة، عززت أمريكا رهاناتها من خلال الحفاظ على قدم ثابتة في كلا المعسكرين على أمل هبوط ناعم بعد سقوط نظام الشاه.
ومع ذلك، اتضح أنَّ مناورة كارتر كانت مجرد خطأ جسيم؛ إذ تمّ التغاضي عن الخطر الحقيقي، والتقليل من طموحات الخميني، وإساءة قراءة تحركاته.
وعلى عكس كارتر، واصل الخميني استراتيجية بثبات وخطط ببراعة. لقد كان الخميني يسير وفق رؤية واضحة لإقامة جمهورية إسلامية، وتعاون مع أمريكا وقدّم لها وعود فارغة، وفهم نواياها، وسار نحو النصر في النهاية.
وبعد أقل من عام، أعلن الخميني في الوقت الذي كان يسيطر فيه على بعض المسؤولين الأمريكيين وعشرات من الأمريكيين آخرين خلال أزمة الرهائن الإيرانية: “أمريكا لا يمكن أن تفعل شيئًا.”
وبعدها احتفل بالذكرى السنوية الأولى لفوزه مع إعلان كبير: إيران ستحارب الإمبريالية الأمريكية في جميع أنحاء العالم.
وفي النهاية قال الخميني: “سوف نصدر ثورتنا للعالم كله. إنها ثورة إسلامية”.
وما زلنا نسمع هتافات “الموت لأمريكا” في إيران، كما صوّت البرلمان الإيراني للحفاظ على هذا الشعار في نوفمبر الماضي. لذلك من الطبيعي الشعور بالدهشة تجاه الكشف عن أنَّ زعيم الثورة الإيرانية كان منفتحًا، حتى وإن كان سرًا، إزاء التعاون مع الولايات المتحدة في عام 1963 و1979.
ومع ذلك، فإنَّ نظرة أكثر تفصيلًا في مجرى التاريخ بعد توليه السلطة، والمسار الذي استمر حتى بعد وفاته في عام 1989، يروي لنا قصة مختلفة.
في فترة الثمانينات، كانت الولايات المتحدة الأمريكية، أو “الشيطان الأعظم” هي العدو اللدود لإيران، حيث ساعدت على إعادة إمداد واعادة تسليح إيران في حرب الثماني سنوات مع العراق فيما أصبح يعرف باسم فضيحة “إيران جيت”. هذا قد يصدم الذين آمنوا بالستار الزائف المناهض للولايات المتحدة الذي يدحض حقيقة أن إيران، في عهد الشاه قبل عام 1979، وتحت الملالي المتطرفين بعده، حاولت دائمًا التعاون مع “الإمبرياليين”.
قد يكون من المفاجئ للبعض أن المساعدات الأمريكية لإيران خلال الحرب بين إيران والعراق تمّ تسهيلها من جانب آخر من عدو لدود آخر إيران، وهي إسرائيل. لقد خدع “محور المقاومة” الإيراني الفارغ العديد من الذين ليسوا على دراية بتاريخ المنطقة والذين يعتمدون على وسائل الإعلام الرئيسية لتلقي المعلومات. من خلال إظهار الوقوف في وجه الغرب، واستغلال مشاعر المسلمين بالدونية، والإعلان في كل مرة تتبرع فيها ببنس واحد للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، خدعت إيران الملايين ببراعة تامة.
ومع ذلك، سقط القناع في هذه الأيام والحفلة التنكرية توشك على الانتهاء، مع كل المشاركين في هذه الساحة الدولية يكشفون عن حقيقتهم. إيران ليست صديقة للمظلومين ولا هي عدو للظالمين. إيران ليست المنقذ لكرامة المسلمين. إيران ليست مُسكّن المعاناة والبؤس والجوع في أفقر البلدان ذات الأغلبية المسلمة المحرومة في عالمنا اليوم. تحت حكم آيات الله، إيران هي الظالم والمستعبِد الجديد الذي يقمع شعوب الشرق الأوسط، ويمزق المجتمعات المحلية من خلال ثورة طائفية أصولية تم تصديرها منذ عام 1979. وبفضل الغرب نجحت إيران بغض النظر عن أحلامها الجامحة.
قبل خمس سنوات، كتبتُ عن كيف كانت إيران بعبع الغرب، التي يجري تشجعيها ودعمها لمواجهة الدول العربية المجاورة لترويعهم حتى يهرعوا إلى العم سام لزيادة مشتريات الأسلحة والاعتماد على الحماية السياسية والعسكرية الغربية. وكانت إيران سعيدة لفعل ما يكفي لإثارة الفزع في نفوسهم دون التورط. في الواقع، في عام 2011، نجا السفير السعودي في الولايات المتحدة آنذاك، ووزير الخارجية الحالي عادل الجبير، من محاولة اغتيال إيرانية على الأراضي الأمريكية.
كانت معظم البلدان غاضبة من أنَّ مثل هذا الشيء قد يحدث على أراضيها، خاصة القوة العظمى الوحيدة الحقيقية في العالم. ولكن ليس أمريكا، وبالتأكيد ليس بأي طريقة مجديّة. ربما من خلال النظر إليها على أنها حالة “لا ضرر، لا مخالفة”، أصدرت الولايات المتحدة بعض البيانات الصارمة للإدانة ودعم حلفائها السعوديين، ولكنها لم تفعل شيئًا بالأساس. وكان هذا في تناقض صارخ مع رد فعل الولايات المتحدة في عام 1993 عندما أطلقت 23 صاروخ كروز لقصف بغداد بعد أنَّ حاول العراق اغتيال الرئيس السابق جورج بوش الأب. لماذا تغطي أمريكا على طهران، وتعاقب بغداد؟
استمرت المسرحية عندما كانت إيران خاضعة لعقوبات بسبب برنامجها الخاص بالأسلحة النووية. في حين أنَّ الاقتصاد الإيراني يعاني بالفعل، كان الشعب الإيراني هو الذي يتحمّل العبء الأكبر. الحرس الثوري الإيراني، الهيكل العسكري الموازي والإمبراطورية التجارية في إيران، مازال مستمرًا من العمل دون عائق باستخدام العمليات الأمامية في دولة الإمارات العربية المتحدة، فضلًا عن استخدام الحكومة العراقية العميلة، المستعبَدة الآن للملالي، لتجاوز آثار العقوبات الغربية.
لم تكن هذه مجرد لعبة إيرانية ذكية خدعت الغرب؛ فمن غير المحتمل أنَّ الولايات المتحدة لم تستطع ببساطة نشر قدراتها الكبيرة في الاستخبارات والحرب الاقتصادية للتأكد من أنَّ الجبهات الإيرانية في دبي لن تكون قادرة على العمل وأنّه لن يتم غسيل عائدات الذهب والأرباح عبر تركيا. ولم تكن تركيا ولا دولة الإمارات العربية المتحدة قادرة على فعل أي شيء لوقف الولايات المتحدة.
ومن غير المعقول أيضًا أنَّ الولايات المتحدة لم تكن على علم بأن إيران ستستخدم العراق لتجاوز العقوبات من خلال شراء الحكومة العراقية أو بيع كل ما تحتاجه ثمّ نقله ببساطة عبر الحدود المشتركة بينهما. بالرغم من كل شيء، تمتلك الولايات المتحدة أكثر من عشر سنوات من الخبرة في حصار العراق نفسه داخل نظام عقوبات وحشي أودى بحياة أكثر من مليون مدني.
وبالعودة إلى ما يسمى محور المقاومة، تجنب الإيرانيون أيضًا مضاعفات للإجراءات التي من شأنها أن تؤدي إلى تعرّض بلدان أخرى للقصف والغزو. وفي مقابلة مع محطة تلفزيون قناة الميادين اللبنانية، أكّد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، أنَّ حزب الله يمتلك صواريخ إيرانية يصل مداها إلى 200 كم، وهذا يعني أن المنظمة قد تضرب أي مكان في إسرائيل وتعترف بأن إيران كانت تدعم بنشاط جماعة إرهابية. أتتذكرون عندما اُتهم العراق بذلك؟ لقد طمست الولايات المتحدة البلاد، وقصمت ظهر العراق، ولكن لم يكن بقدر ما فعلت إزاء التصريحات العلنية لوكيل إيران المعروف.
وقد تساءل الإعلامي الشهير فيصل القاسم، كيف يمكن لبلد مثل إيران تطلق على عملياتها العسكرية “الرسول الأعظم” قبول أن تتلقى قواتها الموالية لها في العراق الدعم الجوي من “الشيطان الأكبر”؟ يبدو أنَّ قدرات إيران في سرد القصص منقطعة النظير. إنها ترسم الانقسام بين الإسلام والغرب والصراع المستعصي الذي يجب أن يحدث نتيجة لذلك، ولكنها مستعدة أيضًا لقبول المساعدة والدعم والعون من الغرب، سواء في الحرب بين إيران والعراق أو من خلال تجاهل الغرب كل شيء يقوم به الإيرانيون. وقد كانت هذه هي السياسة العادية ومن ثمّ يجب على إيران أن تكون عملية وواقعية لتحقيق مصالحها.
الأسوأ من ذلك هو أنَّ الغرب يسمح لهذا أن يحدث، ثمّ يتفاجأ ويغضب عند تعرضه لهجوم من قِبل الجماعات الإرهابية مثل ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي لم يكن من المحتمل وجوده دون التدخل الطائفي الإيراني الذي وفر أرضية خصبة مثالية لتفاقم التطرف. هذا التواطؤ مع إيران لم يؤد فقط إلى نتائج عكسية على الأمن الغربي، ولكن أيضًا في حياة المجتمعات في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط التي كانت تتمزق بسبب ولع إيران بخلق المشاكل ليكون داعش هو الحل الوحيد لهذه المشكلة.
لقد حان الوقت ليتوقف الغرب عن التواطؤ مع إيران، والتصرف بحسن نية عند التعامل مع العالم العربي والإسلامي. حينها فقط يمكن للعالم أن يقضي بشكل جماعي على طاعون الإرهاب المتطرف، والتعامل معه على نحو فعّال.
المصدر: (1) – (2) – تقرير: إيوان 24