يؤكد عالم السياسة والفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، في كتابه “اللفياثان” على أن قادة وشعب أي كيان سياسي “دولة” حول العالم ملزمون بجعل هدفهم الأساسي هو الحفاظ على وجود كيانهم وبقائه وحمايته من المخاطر الخارجية التي يمكن أن تؤدي إلى اندثاره، لأنّ اضمحلال ذلك الكيان يعني العيش وسط فوضى سياسية واقتصادية عارمة تقضي على الحياة المستقرة التي يوفرها الكيان السياسي.
وللحفاظ على الكيان السياسي يشدد هوبز على ضرورة التحلي بقوة سياسية وعسكرية واقتصادية تصد مطامع الكيانات السياسية الأخرى التي تعيش في حالة تنافس سياسي وعسكري واقتصادي شديدة فيما بينها، حيث تسعى كل منها للانقضاض على الكيان السياسي الآخر ونهب خيراته بأي شكل من الأشكال.
تشكيل القوة السياسية والعسكرية التي يدعو إليها هوبز، لا يمكن أن تقوم لها قائمة بدون القوة الاقتصادية التي تعتبر الركيزة الأساسية للقوى الأخرى، إذ بغيرها لا تتكون القوات الأخرى.
تغيرت أسس ومحاور القوة الاقتصادية عبر التاريخ، إذ بدأت بالقوة البخارية وانتهت بالاقتصاد المعرفي، وقد قام الاقتصادي الروسي نيكولاي كوندراتييف برصد الدورات الديناميكية للقوة الاقتصادية عبر التاريخ باسم موجات كوندراتييف، إذ أشار إلى أن هناك 5 موجات اقتصادية أساسية في التاريخ هي:
1ـ موجة كوندراتييف الأولى “1780 ـ 1840”: القوة البخارية كانت المحرك الأساسي لديناميكية العمل الاقتصادي في ذلك العصر، حيث اعتمد الإنتاج الاقتصادي بشكل أساسي على القوة البخارية، وكانت بريطانيا هي العاصمة الاقتصادية للعالم في تلك الفترة، إذ إن الماكنة البخارية ظهرت لأول مرة في السطح بها، وبذلك اعتبرت الدولة الأقوى سياسيًا وعسكريًا في العالم.
ـ موجة كوندراتييف الثانية “1840 ـ 1890”: في تلك الفترة انتشرت القوة البخارية وتم اختراع السكك الحديدية وبعض الصناعات الفولاذية البخارية الثقيلة مثل السفن وعدد من المكائن، استمرت بريطانيا في تلك الفترة في الحفاظ على موقعها كأقوى الدول حول العالم، بفعل امتلاكها للسكك الحديدية التي ساهمت بشكل أساسي في نشر قوتها الاقتصادية والإنتاجية داخل مدنها وإلى الدول الأخرى.
ـ موجة كوندراتييف الثالثة “1890 ـ 1940”: عصر الكهرباء والصناعات الفولاذية الثقيلة، عقب اختراع التيار الكهربائي وشبكات التمديد الكهربائي على يد الأمريكي توماس ألفا أديسون، وعقب اختراع المواقد والمحركات الكهربائية في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت عملية الإنتاج الاقتصادي المتطورة والمعتمدة على القوة الكهربائية في الولايات المتحدة الأمريكية وأخرجت الاحتكار الاقتصادي من يد بريطانيا ليشمل الولايات المتحدة الأمريكية وعددًا من الدول الأخرى على رأسهما ألمانيا، ونتيجة للقوة الاقتصادية الأمريكية ظهرت القوة الأمريكية السياسية والعسكرية الواضحة في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ـ موجة كوندراتييف الرابعة “1940 ـ 1990”: الإنتاج الجماعي الضخم وإنتاج السيارات ووسائل المواصلات وبعض المواد الإلكترونية واحتياطي النفط هي العوامل التي حددت القوة الاقتصادية للدول في تلك الفترة، وتميزت تلك الفترة بتنوع القوى الاقتصادية، ولكن مع احتكار القوى السياسية على القطبين الأمريكي والروسي، وتشكل هذه الموجة والموجة التي ستليها محط تنبؤ لكوندراتييف الذي خط كتابه “الدورات الاقتصادية الرئاسية” عام 1925.
ـ موجة كوندراتييف الخامسة “1990 ـ ليومنا هذا”: اتسمت هذه الموجة بسيطرة الحواسيب والأجهزة الإلكترونية على القوة الاقتصادية للدول، وأصبح يُطلق على الدول المُخترعة والمطورة لأنظمة الحواسيب والمعلومات بالدول ذات الاقتصاد المعرفي، بمعنى أصبح الاقتصاد المعرفي هو أحد أهم المعايير الأساسية المحددة لتطور الدول وتقدمها، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان والصين وكوريا الجنوبية وغيرها هي الدول الرئيسية في هذا المجال الذي بات يشكل القوة الاقتصادية في عصرنا الحالي، والذي يتصف بانخفاض تكلفته الإنتاجية وتراكم أرباحه الهائلة مع مرور الوقت، على العكس من الأفرع الاقتصادية الأخرى التي قد تنخفض تكلفتها الإنتاجية ولكن تنخفض أرباحها لاكتفاء السوق منها بعد فترة من الزمن.
أما فيما يتعلق بالاقتصاد المعرفي، فيُعرف على أنه الاقتصاد الذي يعتمد على الثورة المعلوماتية، حيث يسعى إلى تحويل هذه المعلومات إلى أشياء ملموسة “تكنولوجيا” تساهم بشكل كبير في رفع مستوى الجودة والإنتاجية في الفروع الاقتصادية الأخرى، مما يزيد من إنتاج ودخل الدول.
ولكي يظهر الاقتصاد المعرفي على السطح فإنه يعتمد على عدة عناصر أساسية هي:
ـ المعرفة: تستند المعرفة إلى المعلومات والبيانات، وكلما رفعت الدولة من مستوى دعمها لعملية نشر المعلومات كلما كان هناك وعيًا وإلمامًا أكبر بهذه المعلومات، وإذ ربطت الدولة عملية نشر المعلومات بعملية توجيه إيجابية توعوية مدروسة، فإن استخدام المعلومات في الابتكار والإنتاج التكنولوجي سيكون على وتيرة مرتفعة.
ـ تكنولوجيا التواصل والمعلومات: المقصود بها الحواسيب وأنظمة معلومات التواصل الحديثة بكافة أنواعها.
ـ العاملون في مجال المعلومات: يقومون بمهمة الابتكار والتطوير، ويتأهلون لذلك غداة عمليات التوعية والتأهيل التي تقوم بها مؤسسات الدولة ومؤسسات التعليم ومؤسسات المجتمع المدني التي تشكل المصدر الأساسي للتوجيه والتأهيل، ليس شرط أن يكون هؤلاء العاملون يعملون في أروقة مراكز الحكومة بشكل مباشر، بل يُقصد بذلك كافة الأشخاص الذين يمتلكون القدرة للاختراع والتطوير.
يحتاج العاملون في مجال المعلومات إلى مصادر تمويلية متنوعة للتمكن من إجراء أبحاثهم الابتكارية والاختراعية، فعندما حاول مارك زوكربيرغ اختراع الفيس بوك، وعندما حاول نيكلاس زينشتروم ويانوس فريس اختراع السكاي بي لم يكن لديهم القدرة المالية الهائلة لاختراع ذلك وترخيصه والترويج له، لذا اتجهوا إلى ما يسمى بملائكة الاستثمار لإتمام ذلك.
قبل الخوض في تعريف ملائكة الاستثمار، لا بد من سرد المصادر التمويلية العامة التي يمكن للعاملين في مجال الأبحاث والاختراعات التمويلية الاعتماد عليها في إنجاز مشاريعهم:
ـ العائلة أو الأصدقاء: إذ كان المشروع بسيطًا يمكن أن يعتمد الإنسان على عائلته أو يتعاون مع أصدقائه لإتمامه.
ـ ملائكة الاستثمار
ـ سوق رأس المال الاستثماري أو رأس مال الخطر: هي عبارة عن شركات استثمارية تدعم المشاريع الوليدة، ولكنها التابعة لشركات قائمة.
ـ المنظمات الحكومية أو الاجتماعية.
ـ المصارف والبنوك التجارية.
ملائكة الاستثمار: هم عبارة عن مجموعة من رجال الأعمال أو الأثرياء الذين يدعمون المشاريع المعرفية الوليدة لفعل الخير أو للحصول على فرصة للاستثمار المستقبلي، ولا يوجد لهؤلاء عنوان أو سوق عمل محدد، بل هم أشخاص يقومون بدعم المشاريع بعد عرضهم بشكل فردي أو بعد التعرف على أصحابها صدفة أو عبر وسائل أخرى.
في حقيقة الأمر، كما أسلفنا في التعريف، ليس هناك نظام رسمي يراقب تحركات ملائكة الاستثمار وكمية دعمهم بالمقارنة من دولة إلى أخرى، ولكن عند النظر إلى الوطن العربي نُلاحظ أن تواجد ملائكة الاستثمار أو دعم ملائكة الاستثمار يكاد يكون معدوم بشكل شبه كامل.
والدليل على عدمه ليس الإحصاءات والدلائل البيانية، بل الواقع والحقيقة، إذ لم يُسمع ولم يُذاع منذ نهاية التسعينات وحتى الآن أن الأثرياء أو رجال الأعمال العرب أقدموا على دعم مشروع استثماري اقتصادي معرفي واحد، وإن خفي ولم نعلم عنه فهذا من بالغ سعادتنا، ولكن في الحقيقة الإطار العام لدعم المشاريع الاستثمارية الاقتصادية المعرفية في الوطن العربي ليس على المستوى المطلوب، على الرغم من حجم الثراء القوي الذي يمتلكه الوطن العربي.
تحيا الأمم الأخرى اليوم بفعل قوة اقتصادها المعرفي الذي أصبح يسيطر على كافة مناحي حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، وللأسف عند النظر إلى الأمم العربية نجدها وشعوبها قليلي الاهتمام في استثمار ثرائهم في المشاريع الاستثمارية المعرفية، وبالنظر إلى نظرية غوبز وبوضع حالة الأمم العربية نصب الأعين من ناحية اقتصادية واقعية نُلاحظ أنها تحتاج إلى عمل جاد وجهود حثيثة لتشكيل وعي شامل فيما يتعلق بدعم مشاريع المعرفة والتطوير والاستثمار بها من أجل النهوض بحال الأمة سياسيًا واقتصاديًا.