“ينبغي على القادة الأفارقة أن يفكروا في التكامل السياسي بينهم حتى يفوتوا الفرصة على الدول الغربية التي تحاول إعادة استعمار القارة السمراء من جديد، لكن بوجوه حديثة، سواء عن طريق المساعدات أو الحرب على الإرهاب أو بث الأفكار الغربية الهدامة” بهذه العبارات استهل الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني خطابه خلال حفل تنصيبه أمام تسعة من رؤساء الدول الإفريقية، متهمًا الدول المانحة بمحاولة إعادة استعمار القارة السمراء.
تصريحات موسيفيني وإن اعتبرها معارضوه مجرد “تشويش” على جرائمه الديكتاتورية ومحاولة كسب الرأي العام الإفريقي ودعم الرؤساء الحضور لترشيحه لولاية رئاسية سادسة بما يخالف دستور البلاد، إلا أنها تنطوي على حقائق ودلالات لا يمكن إغفالها مطلقًا، وهو ما عبرت عنه صحيفة الأوبزرفر البريطانية بقولها: “لخص موسيفيني المشكلة في القارة السمراء وسبب اعتماد أغلب الدول الإفريقية على نظيرتها الغربية، بأنها ترجع إلى عدم وجود توافق في الآراء بشأن ما يجب فعله، وعدم جلوس القادة الأفارقة على مائدة الحوار، ووضع خطة حقيقية بشأن كيفية حل المشكلات بعيدًا عن الغرب”.
“نون بوست” يعرج سريعًا في هذه الإطلالة على الأبعاد الحقيقية والأهداف المنشودة وراء حزمة المنح والمساعدات التي تقدمها الدول الغربية والشرقية على حد سواء للقارة الإفريقية، في محاولة للإجابة على السؤال التالي: هل تسعى الدول المانحة إلى مساعدة الدول الإفريقية حقًا ومحاولة انتشالها من مستنقع الفقر الغارقة فيه، أم أن هذه المنح ما هي إلا غطاء وستار لإعادة استعمار القارة العجوز من جديد حسبما أشار الرئيس الأوغندي في تصريحاته؟
أمريكا: الاستعمار من باب الدفاع
“… إن الأفارقة بحاجة لإعادة الاستعمار لمائة عام آخرى فهم لا يعرفون شيئًا عن القيادة والاستقلال…” لم تكن تصريحات المرشح الأمريكي “ترامب” المسيئة للأفارقة من فراغ، فهي تعبر عن معتقد سياسي مترسخ في عقلية كثير من الأمريكان، لاسيما وهو الذي وصفهم بالكسل والغباء والشره للطعام والهوس بالجنس والعنف.
تتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر حضورًا وانتشارًا داخل القارة الإفريقية، لاسيما في المجالات العسكرية، والتي نجحت من خلالها في تصدير مفاهيم الإرهاب والتطرف في القيام بدور “العسكري” المدافع عن القارة المهلهلة اقتصاديًا وسياسيًا.
الحضور الأمريكي الطاغي في إفريقيا لم يكن لأجل “عيون” القارة السوداء، لكنه في المقام الأول دفاعًا عن مصالحها الاقتصادية والأمنية والسياسية، إذ تمثل القارة بعدًا استراتيجيًا هامًا لواشنطن خاصة وأن بها مضيقين يتحكمان في حركة الملاحة العالمية، فضلاً عن الموارد الطبيعية الهائلة والتي تمثل “الكنز المستقبلي” للدول الطامعة في خيرات هذه البقعة من الكرة الأرضية.
كذلك فإن مواجهة النفوذ الأوروبي والصيني والروسي في القارة الإفريقية كان على قائمة الأهداف التي تسعى الولايات المتحدة تحقيقها من خلال تواجدها الإفريقي، إذ إن ما يقرب من 25% من الغاز الصيني يأتي من إفريقيا، فضلاً عن اليورانيوم التي تسعى أوروبا وروسيا للسيطرة عليه، إضافة إلى الأماكن والمواقع الاستراتيجية الهامة الواقعة على شريط البحر الأحمر والمضايق المرورية به، والتي تلعب دورًا محوريًا في منظومة الأمن القومي لحلفاء أمريكا في المنطقة وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني.
والملاحظ أن الولايات المتحدة نجحت في اختراق إفريقيا عسكريًا من خلال علاقاتها العسكرية مع ما يقرب من 49 دولة إفريقية، وضخ مئات الملايين من الدولارات في التدريب والتسليح لجيوش عدة دول مثل مالي والجزائر والنيجر وتشاد وموريتانيا ونيجيريا والسنغال، وغيرها، وهو ما تجسد في إنشاء منظمة “أفريكوم ” وتعني “القيادة الأمريكية في إفريقيا” والتي تم إنشاؤها في أكتوبر 2007م كقيادة مؤقتة تحت القيادة الأمريكية الأوروبية، وهي عبارة عن قوات موحدة، تحت وزارة الدفاع الأمريكية، مقرها قاعدة شتوتغارت بألمانيا، ومسؤولة عن علاقات أمريكا مع جميع دول إفريقيا.
التقارير الأمنية الصادرة عن مراكز الأبحاث الاستراتيجية تشير إلى القوات الأمريكية المتواجدة في إفريقيا تتجاوز عشرات الآلاف إلا أن المعلن رسميًا أن هذه القوات تتراوح ما بين 5-10 آلاف مقاتل، يشاركون بمعدل مهمة في اليوم مع الجيوش الإفريقية في مهامها العسكرية داخل وخارج بلدانهم.
وحسب التقارير فإنه وبالرغم من هذا التواجد العسكري الأمريكي المكثف إفريقيًا، إلا أن قاعدة “ليمونيه” في جيبوتي، والمنشأة في 2002، تعد القاعدة العسكرية الأمريكية الوحيدة المعلن عنها بشكل رسمي حتى الأن، والتي بدأت بقوام 900 جندي أمريكي فقط، وصل الآن إلى ما يقرب من 4000 جندي، وقد أصبحت هذه القاعدة العسكرية مقر قوة العمل المشتركة Combined Joint Task Force CJTF “أفريكوم” وتقوم هذه القاعدة بمراقبة المجال الجوي والبحري والبري لست دول أفريقية هي: السودان وأريتريا الصومال وجيبوتي وكينيا، واليمن من آسيا ودول الشرق الأوسط، أي أنها أحد أهم القواعد الأمريكية في العالم تقريبًا.
جدير بالذكر أن عدد القوات الأمريكية في أوغندا بلغ 300 فرد إضافةً إلى طائرة مراقبة، بينما في نيجيريا يصل عددهم إلى حوالي 120 فردًا، في الصومال هناك حوالي 20 فردًا لتقديم المشورة والتدريب، في النيجر حوالي 100 فرد، في جنوب السودان 45 عسكريًّا وصلوا هناك لحماية المواطنين الأمريكيين، وفي كينيا 60 عسكريًّا، بينما تنطلق العمليات التجسسية للولايات المتحدة من بوركينا فاسو.
القاعدة العسكرية الأمريكية في جيبوتي “ليمونيه”
الصين: وتغيير البوصلة
“… لقد عادت الصين إلى الأمم المتحدة محمولة على أعناق الإخوة الأفارقة، ولن ننسى أبدًا أن الممثلين الأفارقة صفقوا ورقصوا في قاعة اجتماع الدورة الـ 26 للجمعية العامة الأممية في عام 1971 تعبيرًا عن فرحهم لاستعادة جمهورية الصين الشعبية مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة…” بهذه الكلمات استهل الزعيم الصيني ماو تسي تونج كلمته الأسطورية التي أشاد فيها بعمق العلاقات التاريخية بين الصين ودول إفريقيا، والتي ناشد من خلالها الصينيين بإعادة النظر في رؤيتهم للأفارقة، وضرورة وضع هذه القارة العجوز على قائمة توجهات الصين خلال السنوات القادمة، ومن هنا كانت البداية.
لم تدخر الصين – ثاني أكبر اقتصاديات العالم – جهدًا في تفعيل خطواتها نحو التواجد الإفريقي، وهو ما تجسد وبقوة في عام 2000 حيث منتدى العلاقات الإفريقية الصينية، الذي يعد انطلاقة حقيقية نحو علاقات أكثر قوة ومتانة، فبعد أن كان حجم التبادل التجاري في ذلك العام 10 مليارات دولار، قفز في خلال عشر سنوات فقط إلى 115 مليار دولار.
ولم تكتف الصين بتوسيع دائرة علاقاتها الاقتصادية والاستثمارية الإفريقية عبر الاتفاقيات المبرمة فحسب، بل تجاوزات ذلك بمراحل حيث تبادل الزيارات بين زعماء إفريقيا والصين، وهو ما شكل هاجسًا للأمريكيين والأوروبيين، حسبما أشار موقع “إيكسينهاينيت” الصيني والذي أكد أن الزيارات رفيعة المستوى المتكررة من الجانب الصيني إلى البلدان الإفريقية، تأتي في إطار وعي وإدراك بكين لأهمية القارة الكبيرة وتصميمها على الوفاء بوعودها لتنفيذ نتائج قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي “فوكاك” الذي عقد في جوهانسبرج ديسمبر 2015.
الموقع الصيني أضاف أن التعاون المتبادل والاحترام والجدية في التعامل هو أساس العلاقة بين الصين والدول الإفريقية، وليس الوعود الكاذبة في إشارة للوعود التي قطعتها واشنطن على نفسها بتحسين اقتصاديات القارة الإفريقية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة.
الخارجية الصينية تؤكد أن التعاون مع بكين يكتسب يومًا بعد يوم مزيدًا من الشعبية لدى الدول الإفريقية، لاسيما في ظل ما يحصدونه من نتائج إيجابية على كافة المستويات جراء هذا التعاون، وتعد نيجريا أكبر مثال لتجسيد هذا الواقع، فبالرغم من كونها – نيجيريا – البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكان وأكبر اقتصاد في إفريقيا، إلا أنها تسعى وبكل قوة لتعميق تعاونها مع بكين وتلعب دورًا نموذجيًا في التعاون بين الصين وإفريقيا.
الصين لم تكتف بالتعاون الاقتصادي فحسب، بل سارت هي الأخرى على خطى الولايات المتحدة في البحث عن موطئ قدم عسكري في القارة السمراء، وذلك من خلال تقديم المساعدات والمنح من أجل المشاركة في تأسيس البنى التحتية لجيوش تلك الدول، إضافة إلى إنشائها قاعدة عسكرية لها في جيبوتي، بهدف الإشراف على العمليات “التجارية والاقتصادية والأمنية” للصين في القارة.
الرئيس الصيني خلال مشاركته في منتدى التعاون الصيني – الإفريقي بجوهانسبرج 2015
روسيا: وإعادة بناء العلاقات
لم تجد روسيا بدًا من اللحاق بالركب الأمريكي والصيني والأوروبي في القارة السمراء، فبالرغم مما تواجهه موسكو من أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية في الآونة الأخيرة، إلا أن هذا لم يمنعها من حضور قوي في إفريقيا، خاصة وأن هذا الحضور أصبح خيارًا روسيًا استراتيجيًا يعكسه حجم العمليات العسكرية شرق البحر المتوسط في سوريا، والانتشار العسكري في البحر المتوسط وتعكسه العلاقات المتطورة مع دول في شمال إفريقيا كمصر والجزائر وتونس وربما ليبيا في المستقبل.
وفي قراءة تاريخية سريعة نجد أن دول شمال إفريقيا كانت الهدف الأهم أمام الإدارة الروسية على مر التاريخ، واحتلت هذه المنطقة من القارة الاهتمام الأكبر لدى النظم الروسية الحاكمة مهما كانت توجهاتها، بدءًا بالمرحلة الإمبراطورية القيصرية، ثم الروسية مرورًا بالسوفيتية، وذلك من منطلق الامتداد الجغرافي والطبيعة الجيوسياسية لتلك المنطقة، فضلاً عن طبيعة المصالح الروسية المصيرية الرئيسية الحاكمة لحدود حركتها الدولية كدولة ذات دور، لاسيما وأن هذه المنطقة تحتل نفس المساحة من الاهتمام لدى المنافس الأمريكي والخصم الأوروبي في ذات الوقت.
ثم جاءت التطورات والتحولات التي شهدتها بعض دول القارة الإفريقية من أحداث الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وما تلاها من أزمات بالمغرب والجزائر، فضلاً عن تنامي جماعات الإرهاب والتطرف في نيجريا وتشاد وكينيا، والتوغل الأمريكي الصيني في الشريط الحدودي للبحر الأحمر بطول القارة، لتضع موسكو أمام تحد حقيقي لقدراتها في الدفاع عن وجودها ودورها الدولي، وهو ما دفعها للبحث عن حضور من نوع جديد داخل أدغال القارة الإفريقية لاسيما في دول القرن الإفريقي وحوض النيل، ولاشك أن مغازلتها لإثيوبيا من خلال المشاركة في تمويل سد النهضة، وفتح صفحة جديدة مع السودان وجيبوتي، فضلاً عن الإعلان عن الاستعداد للمساهمة في بناء سدود الكونغو وكينيا يعكس هذا التوجه الجديد في الفكر الروسي تجاه القارة الإفريقية.
العاهل المغربي محمد السادس في ضيافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
أوروبا: التاريخ يعيد نفسه
“من الخطأ للقادة الأفارقة أن ينظروا إلى نظرائهم الأوروبيين على نحو المستعمرين الجدد، فغالبية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ليس لديهم تاريخ استعماري في إفريقيا…” بهذه الكلمات علق مبعوث الاتحاد الأوروبي في أوغندا كريستيان شميت على تصريحات الرئيس الأوغندي التي أشار فيها إلى أن الغرب يسعى لاعادة استعمار إفريقيا عن طريق المنح والمساعدات.
على مدار تاريخها الطويل نجحت أوروبا في فرض كلمتها وسيطرتها على القارة العجوز لعقود طويلة، حيث استغلت إمبراطوريات أوروبا القديمة حالة الفقر والضعف التي كانت عليها معظم دول إفريقيا لتمرير مخططات الاستعمار والسيطرة بصورة كاملة، إلى الحد الذي وصلت فيه في بعض الحقب التاريخية أن معظم دول القارة كانت أسيرة الاحتلال الأوروبي.
ثم جاءت القمة الإفريقية الأوروبية الثالثة التي عقدت في طرابلس 2010 والرابعة التي عقدت في بروكسيل 2014، لتعيد رسم خارطة العلاقات الأوروبية الإفريقية بصورة غير مسبوقة، وهو ما اتضح من خلال تصريحات الزعماء والقادة المشاركين في هاتين القمتين.
وتعد أحداث الربيع العربي أحد أبرز العوامل التي لعبت دورًا مؤثرًا في تشكيل بنية العلاقات الأوروبية الإفريقية، لاسيما رحيل نظام القذافي نفسه وتداعياته الأمنية والجيواستراتيجية على منطقة الساحل والصحراء، والذي مثّل أحد التحديات الكبرى التي دفعت الأوروبيين إلى أن يولوا وجوههم شطر إفريقيا مرة أخرى، لذا فلم يكن بمستغرب أن يطرح الرئيس الفرنسي هولاند في قمة بروكسل مبادرة إقامة تحالف أوروبي إفريقي لمواجهة الأخطار والتحديات المشتركة للجانبين، كما أنه لايمكن أن نفسر مبادرة هولاند وحماسته غير المعهودة بمعزل عن تصريحات الرئيس الراحل فرانسوا ميتران والتي قال فيها: “إن فرنسا بدون إفريقيا لن يكون لها تاريخ في القرن الحادي والعشرين”.
والمتابع للوجود الأوروبي في إفريقيا يجد أن الاستراتيجية الأوروبية الجديدة تجاه القارة العجوز تقوم على محورين اثنين: الأول: المحور الأمني، وهو ما يتضح في التدريب العسكري والإمدادات التي تقدمها باريس في شمال مالي ومناطق الساحل والصحراء، فثمة مخاوف أوروبية من تحديات الإرهاب والقرصنة البحرية والجريمة المنظمة وشبكات الإتجار في البشر وتهريب المخدرات والأسلحة وانعكاسات ذلك كله على الأمن الأوروبي.
أما الثاني: فهو المحور الاقتصادي، حيث يسعى الاتحاد الأوروبي جاهدًا للتوقيع على اتفاقيات شراكة اقتصادية جديدة مع الكيانات الإفريقية، بالرغم من الصعوبات التي يواجهها بسبب عدم تماشي هذه الاتفاقات مع توجهات منظمة التجارة العالمية من جهة، فضلاً عن عدم مراعاتها للأولويات التنموية الإفريقية من جهة أخرى
ومن ثم يمكن القول أن الحديث عن احتمالية الشراكة بين أوروبا وأمريكا وروسيا والصين من جانب، وإفريقيا من جانب آخر لا يبدو منطقيًا فضلاً عن بعده عن الواقع بصورة كبيرة، لاسيما حال قراءة الدوافع الخفية والأهداف التي تسعى لتحقيقها هذه الكيانات المانحة من وراء التعاون مع القارة الإفريقية، وهو ما تكشفه صفحات التاريخ المختلفة، وعليه فإن التوصيف الصحيح للتجمع الأوروبي الأمريكي الروسي الصيني الإفريقي هو نوع جديد من الهيمنة وإن اتخذ صفات أو ألقابًا جديدة، يدفع ذلك إلى البحث في محددات العلاقة ومستقبلها بحيث تتحول من حالة الهيمنة إلى حالة الشراكة المتكافئة.