اختتم معارضون عراقيون للنظام السياسي الحالي في العراق نهاية الشهر الماضي مؤتمرًا تأسيسًا، تمخض عنه كيانًا سياسيًا معارضًا جديدًا بمسمى “المشروع الوطني العراقي”، وتم الأعداد لهذا المؤتمر جيدًا من ناحية مكان انعقاده والحضور والمشاركين فيه، وقد غطت وسائل إعلامية هذا الحدث بشكل واسع، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات حول طبيعة اختلافه عن بقية المؤتمرات التي عُقدت طيلة السنوات الـ 13، والتي لم تحظ بنفس الاهتمام الذي حظي به هذا المؤتمر.
تأتي أهمية هذا المؤتمر من أهمية الضيوف الذين حضروه، حيث ضم طيفًا واسعًا من السياسيين السابقين الأوروبيين والأمريكيين وكذلك العرب، إضافة إلى المفكرين والمثقفين العالميين، وكانت مداخلات هؤلاء الضيوف، من النوع الذي لم نكن نسمعه من ذي قبل، لاعتبارات كثيرة ربما أهمها، هو عدم إغضاب الولايات المتحدة التي كانت راعية التغير المأساوي الذي حدث في العراق.
وكانت أقوى تلك التصريحات هو ما وصف به رئيس وزراء فرنسا الأسبق، الغزو الأمريكي للعراق، بأنه كان حلمًا خطيرًا وكارثيًا، وتساءل كيف يمكن أن يتم فرض الديمقراطية على بلدٍ بالقوة؟ مشيرًا إلى إنَّ سيادة العراق مشكوك فيها منذ سنة 2003، وكانت تصريحات الضيوف الآخرين تُجمع على تحميل إيران مسؤولية كبيرة في زعزعة استقرار العراق والسعي الحثيث للسيطرة عليه.
إن الجديد في هذا المؤتمر والذي يختلف فيه عن بقية المؤتمرات التي عقدت لنفس السبب، هو تبنيه طرحًا مدنيًا لا علاقة له بالمشاريع الإسلامية التي تتبناها معظم القوى السياسية الفاعلة بالعراق
الأمر الآخر الذي أعطى أهمية لهذا المؤتمر، هو تفاعل إيران الحساس معه، حيث حاولت إيران ممارسة ضغوط قوية على فرنسا للحيلولة دون استضافتها لهذا المؤتمر على أراضيها، ولكنها فشلت في مساعيها تلك، وجربت الحكومة العراقية أيضًا وبدفعٍ إيراني، لمحاولة ثني الإدارة الفرنسية عن استضافة المؤتمر على أراضيها ولكنها فشلت أيضًا.
كل هذه التحركات الإيرانية والعراقية تمثل وجود حالة خوف حقيقي من قبل الحكومتين، من أن يكتسب هذا الحراك السياسي الجديد للمعارضة العراقية في الخارج، شرعية ودعم دولي للحد الذي يمكنه تقويض العملية السياسية الحالية في العراق، والذي يعني نهاية للنفوذ الإيراني فيه، وفشل ذريع لتجربة الأحزاب الشيعية الموالية لها.
إن الجديد في هذا المؤتمر والذي يختلف فيه عن بقية المؤتمرات التي عقدت لنفس السبب، هو تبنيه طرحًا مدنيًا لا علاقة له بالمشاريع الإسلامية التي تتبناها معظم القوى السياسية الفاعلة بالعراق، وبالتالي فإن الغرب يجد أنَّ هناك لغة حوار مشتركة مع هؤلاء المؤتمرين في باريس، على عكس المؤتمرات السابقة، فهي إما لواجهات عربية إسلامية سنية، أو واجهات بعثية مرتبطة بالنظام السابق.
وعلى الرغم من التوجه العلماني للمؤتمرين بباريس، فإن الغرب وحرصًا منه على عدم التورط في مشاريع فاشلة مشابهة للمشاريع التي دعمها في فترة التسعينات لإسقاط نظام صدام، والتي أدت إلى هذه الكارثة التي نعيشها في العراق، لم تدعم هذا المؤتمر بشكل مباشر، حتى ترى مدى تأثير هذا المؤتمر على الشارع العراقي أولًا، ثم مدى فعاليته في التحرك الإقليمي ثانيًا، بعد ذلك سوف تقرر دعمه من عدم دعمه.
من هذا فيتوجب على المؤسسين لهذا الكيان السياسي الجديد، إذا ما أرادوا لهذا العمل أن يكون ذا جدوى وتأثير على الوضع العراقي كما يخططون، أن يقوموا بجهود جبارة وعلى اتجاهين: أولهما التوجه للجماهير العراقية بمختلف أطيافها، لكسب ثقتهم والحصول على شرعيّة تمثيلهم، والأمر الثاني، التحرك على الدول الإقليمية والدولية، التي تهتم بتغير الحالة العراقية إلى أفضل مما هي عليه الآن، ومحاولة الحصول على دعمهم السياسي لمساعيهم، وهو تحدٍ كبير ستثبت الأيام والشهور القادمة، نجاحهم في ذلك التحدي من عدمه.
ولكن هل يتوقع المسؤولون عن هذا الكيان السياسي الجديد، أنهم قادرون على تقويض الحكومة العراقية الحالية والمدعومة بأكثر من مئة ميليشيا مسلحة وتساندها دول مجاورة قوية هي إيران، فقط من خلال الجهد السياسي الذي يبذلونه في الخارج؟
لقد كانت الولايات المتحدة في فترة التسعينات تُنظم صفوف المعارضة العراقية وتضخ الأموال عليهم ولمدة تجاوزت الـ 10 سنوات، ولم تفلح بالنهاية أن تسقط نظام صدام إلا بالتدخل العسكري المباشر.
وعلى هذا الأساس فإننا نتوقع أن كل تلك المساعي للمعارضة العراقية سوف تكون هواءً في شبك إذا لم تراع موضوع إشراك المقاومة العراقية السابقة بأمرها لكي تكون ذراعها في إدارة التغيير بالعراق، إلا أننا لم نر مشاركة فاعلة للمقاومة العراقية في مؤتمر باريس، على الرغم من إعلان جمال الضاري، بأن هناك ممثلين لهم كانوا مشاركين في المؤتمر.
الأمر الآخر الذي يشكل تحديًا كبيرًا لهذا الكيان السياسي الجديد، وهو موضوع تنظيم داعش وطروحاته الفكرية الراديكالية، كون هذا التنظيم يتبنى طرحًا إسلاميًا راديكاليًا يستهوي الكثير من شباب أهل السنة، بل ويتغذى هذا التنظيم على الممارسات الطائفية التي تقوم بها الحكومة العراقية الحالية، فإذا أراد الكيان السياسي الجديد أن يسحب البساط من هذا التنظيم وتعريته فكريًا أمام شباب أهل السنة، فيجب عليه أن يتبنى فكرًا إسلاميًا ذا فهم وسطي، يبيَّن من خلاله لشباب أهل السنة ما في التطرف من مخاطر على وجودهم وعلى وطنهم، ويجب أن يدعم هذا الفهم مجموعة من ألمع المفكرين الإسلاميين ذوي الطرح والفهم الوسطي للإسلام، ويحاول أن يقنعهم بمشروعهم السياسي الجديد للحصول على دعمهم الفكري والإسلامي.
إنَّ تجاوز التحديات التي تعترض المشروع الوطني العراقي ليست سهلة، ويجب عليه مجابهتها والعمل على تجاوزها بنجاح، وإلا فإن هذا الكيان السياسي الجديد لن يكون أكثر من محاولة كغيرها من المحاولات التي لا تقدم شيئًا جديدًا لحل المشكلة العراقية.