غريب للمرة الأولى

راقبتها وهي تخطو ببطء إلى الغرفة وتبحث بعينيها عن مكان مناسب لها، وبعد أن استقرت مكانها بالفعل، وقفت على أقدامها ثانية واقتربت مني لتجلس بجواري.
هي امرأة أفغانية، ترافق ابنتها ابنتي في الحضانة في نفس المجموعة منذ عام مضى، ترتدي غطاءً للرأس ما يلبث أن ينسدل على كتفيها ساقطًا ليكشف عن شعرها الأفغاني الأسود، إلا أنه يكفي ليعلم معه الجميع أنها مسملة.
في العام الماضي لم يكن لها احتكاك كبير بالعاملين في الحضانة، كان زوجها والذي يجيد الألمانية هو المتكفل بكل ما تحتاجه ابنتهما في الحضانة، فهو من يحضر معنا اجتماعات أولياء الأمور، وهو من يتحدث مع المشرفات في أي مشكلة تخص ابنته، وكانت هي تكتفي بأن تحضر ابنتها للحضانة في الصباح أحيانًا، وتعود بها في آخر اليوم إلى المنزل، محاولة التحدث بكلمات بسيطة، توحي أنها مازالت في بداية تعلمها للغة الألمانية.
هذا العام قررت هي أن تحضر لأول مرة اجتماع أولياء الأمور في بداية السنة، لتدخل إلى الغرفة للمرة الأولى قلقة، لا تدري على وجه اليقين أين يمكنها أن تجلس، حتى حسمت أمرها أخيرًا بأن تستقر إلى جواري.
في مثل تلك الاجتماعات في الحضانة، يحاولون أن يكون الأمر أكثر تفاعلاً بين الآباء والأمهات والمشرفين على الأبناء، حيث نلعب بعض الألعاب البسيطة، أو ندخل حوارًا يكون الهدف منه ربط كل ولي أمر بابنه ليكون معلومًا للجميع.
بدأنا مرحلة التعارف الأولى، وبدأ الخجل يظهر عليها كلما اقترب دورها، حتى أفصحت أخيرًا أنها لا تعرف حقيقة ما هو اسم ابنة هذه الأم، ليساعدها الجميع بابتسامات مشجعة لتتمكن من التفاعل معنا، حيث إنها المرة الأولى لها، ولم تتمكن هي بعد من اللغة الألمانية بشكل قوي.
تذكرت نفسي وأنا أراقبها، تذكرتني قبل 8 أعوام وأنا أجلس مكانها، قلقة حائرة، أشعر أن العيون جميعها تتجه نحوي، نحو تلك المرأة بالحجاب، والتي مازالت تتهته بلغة أهل البلاد، تذكرت عدم فهمي للكلمات، وسؤالي ربما عدة مرات لأن يحاولوا تبسيط الكلمات لي لكي أفهم، أو ربما صمتي المطبق ومحاولة فهم ما يقولون من حركاتهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم.
تذكرت كيف كان وجهي يحمر خجلاً كلما حان دوري للكلام، فلا أجد الكلمات تخرج من بين شفتي إلا بصعوبة.
تذكرت كيف كنت أجد نفسي غريبة، غريبة في ملبسي، وفي لغتي، وفي أرض غريبة، وبلدة جديدة انتقلت إليها مؤخرًا، بلا عرب فيها يمكنني أن أتحدث معهم بلغتي، فلا أجد سبيلاً للتواصل مع الناس إلا بتحسين ألمانيتي في أسرع وقت ممكن، غريبة في غربات عدة تركت أثرها على نفسي.
إنها المرة الأولى التي أرى نفسي فيها من الجانب الآخر، ذلك الجانب الذي كنت أخشاه في بداية قراري بأن أندمج في ذلك المجتمع.
المرة الأولى التي أرى نفسي فيها وأنا أحتل مقعدًا من القوم، ولست غريبة عنهم، أراها وهي لا تعلم أن الأمر أيسر كثيرًا مما اعتقدته في ذلك اليوم منذ ثماني سنوات.
لم يكن الأمر حقيقة يستحق مني كل ذلك القلق وقتها، فلا الأنظار جميعًا تتوجه لذلك الغريب في مرته الأولى، ولا يواجه الناس عدم إلمامه باللغة باستياء كبير كما كنت أظن، بل بالعكس يحاول الأغلبية استيعاب الأمر وتبسيطه وعدم التركيز عليه.
يحاول الجميع مساعدتك لتندمج معهم، عندما يشاهدون أنك تحاول ذلك فعلاً، فلا يتركونك على الجانب لأنك غريب لا تعرف لغتهم، بل يُشعرونك بأن الأمر لا يستحق منك ذلك القلق الظاهر على وجهك وحركاتك، يحاولون التقرب إليك، والتحدث معك بلغة مبسطة يمكنك أن تفهمها.
تذكرت كيف أن ذلك اليوم لم يكن اليوم الوحيد لي كغريبة أولى، بل تكرر الأمر في أماكن عدة ومناسبات مختلفة، فلا يجب أن تكون غريبًا عن البلدة وأهلها لتكون غريبًا في مناسبة ما، بل ربما اشترك أبناؤك في نشاط جديد، لتصبح غريبًا على مجتمعه، فتواجه نفس الموقع، كغريب للمرة الأولى.
وأعلم أن الأمر سيتكرر مستقبلاً، لأكون غريبة للمرة الأولى في أماكن ومناسبات أخرى، إلا أن ما أعلمه اليوم، أن الأمر لا يستحق ذلك القلق المصاحب للموقف، وأن الآخرين على الجانب الآخر لا ينظرون لي كغريبة بتلك النظرة التي كنت أعتقدها.
أنت ستكون غريبًا للمرة الأولى في عدة مراحل ومحطات في حياتك، فلا داع لأن تفزع من تجربة هذا الأمر، بل حاول أن تستمتع بتجربتك الأولى في هذا المكان.