تمدد الكون المتسارع هو واحدة من الحقائق العلمية التي نعرفها منذ حوالي رُبع القرن، فالكون لا يزداد اتساعًا فقط بشكل يجعل كافة المجرات تبتعد عن بعضها البعض مع الوقت، لكن معدل تمدده ذلك يزداد مع الوقت هو الآخر، مما يعني أن سرعة التباعد بيننا وبين بقية المجرات تتزايد مع الوقت، وهي مرحلة من تاريخ الكون بدأت مع ما يُسمى بعصر هيمنة الطاقة المُظلمة، والتي يُعتقد بأنها المسؤولة عن ذلك التمدد المتسارع، نظرًا لعدم قدرة كمية المادة التي نعرفها اليوم في الكون على القيام بإحداث ذلك التمدد.
هو اكتشاف ليس بهيّن بالطبع، وقد حصل مكتشفوه على جائزة نوبل للفيزياء عام 2011، وهُم ساول بيرلموتر وبراين شميت وأدم ريس، حيث قاموا برصد نوع معيّن من المستعرات (انفجارات النجوم بعد وفاتها) على مسافات بعيدة جدًا، لإثبات التمدد الحاصل في الكون (والذي يشير له الرقم المعروف بثابت هابل Hubble Constant)، مما دفعهم لاستنتاج وجود نسبة كبيرة من الطاقة المجهولة والمظلمة في الكون المسؤولة عن تمدد بهذا الشكل غير الممكن حدوثه عن طريق المادة المرئية فقط.
لم يكتف أي من العلماء الثلاثة على ما يبدو بما اكتشفوه أنذاك، وهو ما يفسر استمرارهم في دراسة نفس الموضوع حتى اليوم، وآدم ريس بالتحديد قد توّجت جهوده منذ أيام بالإعلان عن اكتشاف جديد: تمدد الكون بشكل أسرع مما نعتقد قليلًا، إذ قام فريقه البحثي باستخدام تليسكوب هابل الشهير والتابع لناسا لإثبات تمدد الكون الأسرع بحوالي 5 إلى 9 بالمائة مما اعتقدنا سابقًا، وهو اكتشاف مفاجئ على حد قول ريس، الذي يعمل الآن بمعهد علوم تليسكوب الفضاء وجامعة جون هوبكنز الأمريكية.
“هو اكتشاف يقدم لنا إشارة هامة على طريق فهم الأجزاء المجهولة والمبهمة من الكون، والتي تمثل 95% منه، مثل الطاقة المظلمة والمادة المظلمة والأشعة المظلمة،” هكذا علّق ريس على دراسته الأخيرة، والتي أدت للوصول إلى رقم جديد لمعدل تمدد الكون الحالي بدقة غير مسبوقة تضاءلت نسبة الشك فيها إلى 2.4 بالمائة فقط، وهو إنجاز وصل له فريق ريس بعد تطوير تقنيات جديدة لقياسات أفضل للمسافات بين المجرات البعيدة.
تمثل الطاقة المظلمة كما نعرف حوالي 68% بالمائة من الكون، ويُعزى لها التمدد السريع الذي نرصده حاليًا، أما المادة المظلمة وتمثل حوالي 27% فيُعزي لها ظهور الجاذبية بشكل أقوى مما تتيحه المادة العادية المتعارف عليها، وبالتالي فهي مادة فعلية وليست مجرد طاقة، لكنها مادة تختلف تمامًا عن المادة العادية المكونة من العناصر الكيميائية المعروفة في النجوم والكواكب، وهي النوع الأخير المكوّن للكون، والذي لا يتجاوز إذن 5%.
ما هي الأشعة المظلمة إذن؟ هي مفهوم جديد ظهر مؤخرًا لحل لغز آخر، وهو ببساطة أن المعدل الجديد الأسرع لتمدد الكون (أو الرقم الجديد لثابث هابل) لا يماثل المعدل المتوقع من مسار الكون بعد الانفجار الكبير، فحسابات ثابت هابل المختلفة التي تعتمد على رصد الأشعة المنتشرة في الكون منذ الانفجار الكبير تؤدي لرقم أصغر بحوالي 5 بالمائة في حالة مسبار WMAP التابع لناسا، وبحوالي 9 بالمائة في حالة القمر الاصطناعي بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية.
لغز جديد
لغز جديد إذن لم يتوقع العلماء ظهوره، فالخط المرسوم وفق دراسات الكون المبكر لا يتصل بشكل متناغم مع الخط الذي ترسمه دراسات الكون المعاصر، وهو اختلاف يعني أننا لا نملك الفهم الصحيح الكافي لتفسير الكون وتاريخه كما يقول ريس، فالأمر أشبه بمحاولة رسم صورة بالاعتماد على بيانات هابل وبلانك وWMAP؛ بالأشعة الخلفية الكونية التي خلفها الانفجار الكبير قادمة من الماضي، ودراسات ريس للكون المعاصر قادمة من الحاضر، غير أن الصورة للمفاجأة تظهر بشكل منكسر بين ضفتي التاريخ الكوني، مما يعني الحاجة إلى إعادة النظر في مفاهيمنا ونظرياتنا.
لا تحتاج النظريات الخاصة بالكون والطاقة والكتلة فيه إلى إعادة نظر شاملة بالطبع، والتي أثبتتها دراسات عديدة على مدار القرن المنصرم، ولكن لإدخال مفاهيم جديدة أو تصحيح مفاهيم قديمة للأخذ في الاعتبار التمدد الأسرع المكتشف مؤخرًا، وإحدى التفسيرات المقدمة لذلك التباين هي تصحيح الدور الذي تلعبه الطاقة المظلمة، والتي يعتقد البعض حاليًا أنها ليست فقط اللاعب الرئيسي في تمدد الكون، ولكن ربما المسؤول أيضًا عن التمدد بشكل أسرع نتيجة قيامها بإبعاد المجرات عن بعضها البعض بقوة أكبر لسبب لا نعرفه حتى اليوم وربما يتعلق بتفاعلها مع المادة العادية المكونة لتلك المجرات.
على الناحية الأخرى يقدم البعض تفسيرًا آخر يطرح مفهومًا جديدًا، وهو أن يكون التاريخ المبكر للكون قد احتوى على جُسيم سريع تقترب سرعته من سرعة الضوء، وأن يكون قد ساهم في خلق نوع من “الأشعة المظلمة” في هذه المرحلة بشكل أدى لبث طاقة إضافية للطاقة التي بثها الانفجار الكبير، وبالتالي الوصول لمعدل أسرع مع الوقت لتمدد الكون من المعدل الأبطأ الذي وصلت له دراسات سابقة اعتمادًا على الانفجار الكبير والطاقة المظلمة فقط، غير أن هناك من سيرفض هذا الاتجاه لأنه يضيف عنصرًا مجهولًا جديدًا للطاقة المظلمة والمادة المظلمة، ويزيدنا بعدًا عن الوصول لنظرية شاملة عن الكون.
كل تلك الدراسات والتباينات تعني أن نظرية أينشتاين عن الجاذبية، والتي تلقت دفعة معنوية كبيرة مع اكتشاف الموجات الجذبوية أواخر العام الماضي، لا تزال ناقصة في تفسيرها لعلاقة المادة بالطاقة وتشكيلهما للكون على نطاق واسع، وهو ما يعني استمرار البحوث في ذلك الاتجاه بين فرق بحثية مختلفة من بينها فريق آدم ريس، والذي يطمح للوصول إلى معدل شك لا يتجاوز 1% لرقم ثابت هابل في المستقبل القريب، وربما الوصول لبحوث نظرية جديدة أكثر دقة واتفاقًا مع البيانات المرصودة.
على أي حال، يبدو اتجاه حل الألغاز المستمر منذ حوالي عقد وكأنه قد اصطدم بلغز جديد “مُظلم” في فهمنا للكون في الطريق لحل لغز الطاقة المظلمة والمادة المظلمة، وبينما تزداد الدراسات في محاولة تصحيح ذلك الفهم، فإن الرقعة المظلمة في نظرياتنا تزداد تمددًا على الأرجح هي الأخرى مع تمدد الكون.
*هذا المقال منقول من مجلة أسترونومي