لا نعرف حقيقةً، ماذا كان يقصد الرئيس عبد الفتاج السيسي عندما تحدث عن تأييده لحرية الصحافة والإعلام في خطاباته ولقاءاته السابقة، إلا أنه على ما يبدو فإن للرجل “فلسفته” الخاصة، والتي تخالف في الحقيقة أي مفهوم يتعلق بالصحافة والإعلام أو حرية الرأي والتعبير.
الأمر المؤكد هو أن الرئيس يتحرك بخطوات ثابتة نحو إعلام وصحافة “وطنيين” بمفهومه، وبدا الكثير من ملامحهما خلال فترة حكمه الماضية، حيث يقتصر دورهما على نشر الإيجابيات والهمس في أذن المسؤول والطبطبة، بالإضافة إلى بعض العتاب الرقيق، الذي لا يكدر الصفو العام.
إلا أن الخطوة الأبرز نحو تحقيق هذا النوع من الإعلام، يبدو أنها تحدث الآن على قدمٍ وساق، فرجال الأعمال المقربون من السلطة أو كما يسميهم البعض بـ “رجالتنا”، مستمرون في شراء وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، حتى تكاد تتمركز جميع وسائل الإعلام المصرية في أيدي 4 أو 5 أشخاص.
وخلال الأيام الماضية، قام رجل الأعمال أبو هشيمة مالك صحيفة اليوم السابع بشراء قنوات “أون تي في”، المملوكة لنجيب ساويرس، بجانب استحواذه على نسبة 51% من مجموعة “برزنتيشن” الإعلامية، فيما قام رجل الأعمل محمد الأمين مالك قنوان “سي بي سي” بدمج قنواته مع شبكة تليفزيون النهار تحت كيان واحد، بجانب تردد أخبار عن توحيد العديد من القنوات والصحف والمواقع الإلكترونية تحت مظلة واحدة.
إن ما يحدث من احتكار عدد قليل من رجال الأعمل لمعظم الصحف والقنوات، هي من الظواهر التي تحاول الحكومات الديمقراطية المنتخبة بنزاهة، التصدي لها حول العالم، خوفًا من سيطرة بضعة أشخاص على الرأي العام بهدف دعم مصالحهم الشخصية.
المشكلة في مصر، أن السلطة هي من تشجع رجال الأعمال على احتكار وسائل الإعلام، فيما تستطيع التعبير عنه بعبارة تحالف رأس المال مع السلطة، فمعروف مدى قرب الأسماء السابق ذكرها من السلطة المصرية، والذي يظهر بوضوح في السياسة التحريرية للصحف والقنوات التابعة لهم.
في الوقت الذي تؤيد فيه السلطة المصرية احتكار عدد قليل من رجال الأعمال لجميع وسائل الإعلام والصحافة، كانت الرئيسة الأرجنتينية كرستينا فرنانديز دي كيرشنر، تخوض مواجهة شرسة مع مجموعة “كلارين” الإعلامية طيلة السنوات الماضية، للقضاء على احتكار رجال الأعمال لوسائل الإعلام الأرجنتينية.
و”كلارين” تعد أكبر مؤسسة صحافية وإعلامية أرجنتينية، إذ تمتلك مجموعة متكاملة من القنوات التلفزيونية ومن الصحف المحلية والمحطات الإذاعية، بدأت في معارضة الحكومة الأرجنتينية بشدة في العام 2008 بعد زيادة الضرائب على الصادرات في القطاع الزراعي، والذي كان مرتبطًا بمصالح المدير التنفيذي لكلارين، هيكتور ماجنيتو.
بسبب هذا استمرت المشاحنات بين المجموعة وبين السلطة الأرجنتينية، حتى تم تقديم مشروع قانون “Audiovisual Media Law” في البرلمان الأرجنتيني في العام 2009، والذي بمقتضاه يتم تحجيم ملكية المجموعات الإعلامية العملاقة والقضاء على احتكارها للصحف ووسائل الإعلام، بما فيهم مجموعة كلارين.
بالطبع القانون وجه بمعارضة من جانب الكثيرين، إذ ادعى البعض أنه مخالف لمبدأ حرية الصحافة والإعلام، ولجأوا إلى المحكمة الدستورية لإبطال القانون، إلا أنه في النهاية حكمت المحكمة الدستورية بدستورية القانون في 29 أكتوبر 2013.
في أستراليا، يوجد أيضًا قانون مشابه للقانون الأرجنتيني، والذي نص على وجوب عدم استحواذ صاحب تراخيص بث تليفزيوني على نسبة مشاهدين تتعدى نسبة 75% من عدد السكان الكلي لأستراليا، حتى يتم ضمان تنوع الملكية وعدم اقتصارها على مجموعة واحدة من الممكن أن تهدف مصالحها الشخصية من خلال توجيه الرأي العام.
كنت أود أن أوجه رسالة إلى مجلس النواب المصري، لحثهم على تبني مثل هذه القوانين، إلا أنني في الحقيقة لا أعرف اسم أحدٍ منهم، وأستطيع أن أجزم أنه لا يوجد في مصر من يحفظ أسامي 10 نواب في هذا البرلمان الغامض.
وغالبًا إن سمع أحدهم عن مثل هذه القوانين، فلن يتحرك أحد، فكل المؤشرات بداية من انتخابات البرلمان نفسها، وصولاً إلى طريقة إدارة الأمور داخله، تشير إلى أن قرار المجلس على الأغلب غير صادر من المجلس نفسه.
ختامًا، كان من الممكن أن نقول إن ما يحدث هو كارثة على حرية الصحافة والإعلام في مصر، لكن في ظل الظروف الحالية كاعتقال الصحافيين واقتحام الداخلية للنقابة، فإن الكلام أو التشجيع على التصدي لهذه الظاهرة، يعتبر من أمور الرفاهية، لكن كل ما نتمناه في هذا الشأن هو أن يقف أحدهم في البرلمان ويحرك المياة الراكدة.