أنهت حركة النهضة مؤتمرها العاشر بعدد من المخرجات الهامة منها ما نال حظه من التناول الإعلامي والفكري كقضية فصل العمل السياسي عن الدعوي ومنها ما لم ينل القدر نفسه كتقييم فترة الحكم في ظل الترويكا وما بعدها من اعتماد سياسة التوافق وكذلك رؤية الحركة في مختلف التحديات التي تواجه الدولة التونسية وأبرزها التحدي الاقتصادي وقضية الإرهاب.
لم تخف قيادات الحركة وجود تباينات داخلية وآراء متنوعة تجاه معظم القضايا التي تناولها المؤتمر وإن اعتمدت كافة الخيارات بنسب توافق كبيرة، أبرز النقاط التي شهدت اختلاف في وجهات النظر دارت حول طريقة تشكيل المكتب التنفيذي بين من دعا لتعديل البند الخاص بحق رئيس الحركة في اقتراح أعضاء المكتب ومن ثم تزكية الأعضاء المقترحين من قبل مجلس الشوري، حيث كانت الدعوة لانتخاب أغلبية المكتب التنفيذي من مجلس الشورى بهدف الحد من مركزية القرار والدفع نحو قيادة تشاركية للحركة، وبعد نقاشات حادة ومعمقة وصل المؤتمر إلى ثلاثة خيارات: صوت 58% لصالح بقاء البند كما هو وهي أقل نسبة مئوية في المؤتمر، مقابل 36% لصالح المزج بين اختيارات الرئيس والشورى ونسبة أقل بكثير لانتخاب المكتب مباشرة من المؤتمر العام.
وجاء إعلان القيادي عبدالحميد الجلاصي المعروف باختلافه مع الغنوشي تجاه عدد من القضايا، عدم نيته التواجد في المكتب التنفيذي القادم ليضع رئيس الحركة أمام فرصة اختيار فريق عمل متجانس يستطيع إنجاز التحديات التي تواجه الحركة خلال الأربع سنوات القادمة، ومثلت الصور المؤثرة بين الرجلين خلال المؤتمر محاولة للتعبير عن روح الوحدة والإخوة رغم تباين وجهات النظر الذي دفع الجلاصي للاستقالة من المكتب التنفيذي في الفترة من يناير – مارس 2015 قبل تراجعه عن القرار وتصريحه عن احتياج الحركة لمزيد من الديموقراطية، وهذه الاختلافات الطبيعية هي جزء من ضريبة الحرية التي لم تعتدها الحركة، ففي مقابلة الاستبداد والقمع غالبًا ما تقل مساحات الاختلاف وتصبح الأولوية للوحدة والتماسك الداخلي.
انتخاب الغنوشي رئيسًا للحركة بأغلبية كبيرة (ما يقرب من 80%) عبر عن الثقة في مؤسس الحركة وزعيمها التاريخي والتوافق حول رؤيته السياسية التي ساهمت في إنقاذ مسار الديموقراطية بتونس وتخطي الكثير من الصعاب وجعل النهضة رقم صعب في المعادلة السياسية والحزبية في البلاد، إلا أنه عبر كذلك عن هوة كبيرة بين الغنوشي وباقي قيادات الحركة، وقد يجد البعض تبريرًا لذلك بأن أغلب قيادات الحركة ساندت الرجل ولم تنافسه.
على كلٍ سيجد النهضاويون أنفسهم أمام هذا التحدي في 2020 حيث لن يسمح نظام الحركة للغنوشي بالترشح مرة أخرى ولا شك أن التنافس لخلافة الرجل ستكون خطوة هامة في تاريخ الحركة.
رغم القرار البارز الذي أعلنه المؤتمر حول التمييز بين العمل السياسي وباقي الأنشطة المجتمعية ومن بينها المسار الدعوي الذي ألقت به الحركة على كاهل المجتمع المدني، بينما اعتبر النهضة حزب إسلامي ديموقراطي بتعبير زعيمها يتخصص في العمل السياسي الحزبي ويشارك في عملية الإصلاح من خلال تنافسه على السلطة وإدارة الدولة، إلا أنه وبالرغم من ذلك تم انتخاب القيادات الدعوية والمجتمعية مثل الحبيب اللوز والصادق شورو في مجلس شورى الحركة.
ما يطرح تساؤلات عن الصورة التي سيتحرك فيها النهضاويون للعمل في المسارات الدعوية والمجتمعية، وهل سيعني ذلك تخليهم عن انتمائهم الحزبي أو على الأقل تولي مناصب حزبية أم لا؟ وهو التحدي الصعب الذي سيواجهه مثقفو ودعاة الحركة، فعليهم تأسيس الجمعيات والمنظمات المختلفة التي تخدم فكرتهم الإسلامية وتساهم مع غيرها في مسار نهضة تونس، لكن ليس من بوابة السياسة الحزبية وليست بأدوات الحكومة وهو ما سيفيد بشكل غير مباشر الحركة ويزيد من نسب تصويتها وجمهورها العام، كما سيفيد تونس ويحد من تأثير وانتشار الأفكار المغلوطة عن الإسلام سواء كانت علمانية متطرفة أو حركات العنف الديني التي تواجه الدولة.
على المستوى السياسي يبدو أن رفيق عبدالسلام وزير الخارجية السابق في حكومة الترويكا يحاول لعب دور أوغلو في تجربة العدالة والتنمية التركي؛ حيث ظهرت آثار تنظيراته خلال الفترة الماضية بوضوح في مخرجات المؤتمر وهو الداعي لتحول النهضة من الإسلام السياسي بطابعه الاحتجاجي والمتخاصم مع الدولة القومية الذي فقد عوامل بقائه بالتخلص من معضلة الاستبداد وتراجع عدوان الدولة على الهوية الإسلامية بنص دستور 2014 أن الإسلام دين الدولة.
ولا شك أن للتفاعل مع الواقع الجديد حيث التحول بعد الثورة إلى حزب حاكم ثم شريك في السلطة واختبار واقعية وعقلانية منظومة الدولة أثر على ذلك التصور الصلب القديم، وانطلاقًا من نظريته أن الواقعي البراجماتي العقلاني ينتهي أن يكون ثوريًا لكن الثوري الراديكالي الطوباوي ينتهي أن يكون فضويًا، ما يدفع النهضة للتحرك نحو حزب وطني مفتوح على كافة المواطنين ويسعى لاجتذاب الكفاءات والتكنوقراط ليمثلوا إضافة وتدعيم له.
وعلى هذا جاء تسهيل شروط الانخراط في الحركة والتخفف من الأيديولوجيا وهو تحدٍ سيكون على الحركة بذل الجهد في سبيل تأكيده خاصة مع تراجع الأحزاب المنافسة وانقساماتها الداخلية المتكررة ما يمنح النهضة فرصة كبيرة لأن تصبح الحزب الأهم وفرس الرهان على تحقيق تنمية حقيقية في بلد يواجه تحديات اقتصادية صعبة وفي مسار مشابه لنشأة العدالة والتنمية التركي 2002 الذي غير الخريطة الحزبية تمامًا لينفرد لمدة طويلة حتى الآن بصدارة المشهد السياسي في بلاده.
أدركت النهضة أنها بحاجة أكثر إلى التعامل مع منظومة الحكم وأنه ينقص قياداتها الكثير من أدوات ومهارات إدارة الدولة عندما سجلت في تقييم فترة الحكم أنها لم تكن مستعدة لها، وبدا أن الشعارات الإيديولوجية دينية كانت أو ثورية والتاريخ النضالي وتضحيات المنافي والسجون وحدها لا تكفي.
لذا يأتي اختيار النهضة أن تظل قريبة من مفاتيح الدولة كشريك للحزب الحاكم حتى تكتسب ما يؤهلها لإصلاح منظومة الحكم في المرحلة القادمة، إلا أن هذا التماهي مع النداء يهدد الحركة بتحميلها نتائج السياسات الحكومية في حال عدم تحقيق النجاح المنشود في تلك المرحلة الصعبة على أية حكومة، لذا تواجه الحركة تحدي أن تظل قريبة من أدوات السلطة وأن تكتسب الخبرات اللازمة وتبني الكوادر القادرة على تولي المهام الحكومية وبين ألا تتحمل نتائج الفشل إن حدثت، عبر أن تظل في مخيلة المواطن تجربة مختلفة عن النداء وإن اشتركا في الحكم.
سيكون التحدي الأصعب أمام النهضة هو إدارة هذا التغيير الحادث على مستوى الحركة بصورة تدريجية غير صادمة لمنخرطيها وجمهورها العام وعبر نجاحات جزئية تمنح الثقة والطمأنينة في هذا المسار خاصة لأولئك الذين أيدوا النهضة لأسباب دينية وأخوية بالأساس وهي الأسباب التي تهتز قليلاً بفتح باب العضوية وترسيخ هذا الانفتاح على المجتمع التونسي بتنوعاته لتنتقل النهضة من البيت الدافئ المغلق إلى مجتمع متنوع ومختلف سيفقد لدى بعض أنصاره رونقه ونقاءه الأول، كما ستقل حدة التصورات المقدسة لنموذج الدولة المنشودة وللقيادات المضحية والمرتبطة بصورة طوباوية حالمة في مخيلة الإسلاميين حينما يدركون بشريتهم وإنسانية التجربة وواقعية الخيارات السياسية المتاحة.