هذه التدوينة ليست لها أية أغراض سياسية أو شخصية، وليست للنقد أو للتشويه، هي فقط من أجل التقليل من الصور النمطية التي يرسمها الشعوب لبعضهم، والتي تجعلنا نقدس أشياءً لا يجب علينا في الأصل تقديسها، كما تجعلنا لا نرضى بما نملك ونظل في حالة تذمر مستمر، السعي للأفضل ليس جريمة، بل هو هدف نبيل، ولكن كذلك التطلع للغير بنظرة فوقية أو نظرة طبقية تجعله في مكانة لا يستحقها هو أمر غير منطقي كذلك.
هذا ينطبق بشدة إذا عقدت مقارنة بين الشعب التركي والشعب العربي، فالشعب العربي عاشق للشعب التركي منذ الأزل، ومنذ موسم المسلسلات التركية المدبلجة والتي غزت قنوات التلفزيون العربي لسنوات عدة ومازالت، بالإضافة إلى الرحلات السياحية المستمرة بين إسطنبول وبلدان الشرق الأوسط، وموقعها الجغرافي ومصالحها السياسية المشتركة مع البلاد العربية، ولا ننسى هنا التاريخ المشترك من إمبراطورية واحدة شملت تلك البلاد تحت حكم العثمانين، كل ذلك وأكثر جعل تركيا في قلب الوطن العربي، يتطلع إليها بحب، واضعًا إياها في مكانة جنة الله في الأرض، وهذه التدوينة ليس هدفها النفي ولا التقليل من شأن أية بلد، ولا من حكم الأشخاص النسبي، ولكن غرضها فقط الكشف عن جانب من الشعب التركي أعدك أنك ستجده مسليًا أكثر مما تتصور، ولكنه بالتأكيد ليس بتلك المكانة المرموقة الخالية من الذنوب تلك.
المواقف المذكورة هنا هي مواقف شخصية بحتة لي ولمن يشاركونني الغربة هنا.
اليوم الأول
اليوم الأول في تركيا لكل من جاء هنا قاصدًا السياحة أو الدراسة أو العمل هو من أهم الأيام التي لا ينساها كل منا، بعيدًا عن أعباء السفر المعروفة في كل بلد، والأمور الروتينية المجبرين عليها، تأتي اللمسة التركية المشهورة وهي “لا يعتبر التركي عدم قدرته على التحدث بالإنجليزية مشكلة شخصية، بل يعتبر قدرتك أنت على عدم التحدث باللغة التركية مصيبة كونية”، يبدأ الأمر في المطار، الضابط يحمل في يده جواز سفر غير تركي، يتطلع إليك بين الفينة والأخرى، ومن ثم يبدأ الحديث بلغته الأم، لا أفهم، حتى وإن كررت تلك الجملة ثلاث مرات، لن يتردد في إقامة محادثة كاملة بلغته الأم وأنت بلغة الجسد، وصدقني، الأمر يصيبه بالنشوة أحيانًا.
عندما بدأنا في التأقلم والتحدث باللغة التركية، وكررنا العملية مرة أخرى في المطار، وجدنا أن الضابط نيته ليست سيئة على الإطلاق، الأتراك بطبعهم شعب ودود، ويمكنه أن يبدأ محادثة تخص الدين والكون والسياسة وحال الأولاد في المدارس، كل هذا وأنت غريب عنه، ولكن لا تنسى الشرط، يجب أن تتحدث بلغته، بلغته وفقط، لذا فالمحادثة الغريبة التي تدور بينك وبين ضابط الجوازات ما هي إلا محادثة ودية ولطيفة يحاول فيها الضابط الترحيب بك في بلده بطريقته الخاصة.
إذا رماك حظك السعيد بحقائبك في محطة الباصات، فأنت أسعدهم على وجه البسيطة، خاصة وإن وصلت إلى وجهتك في أي مدينة من المدن الثمانين الموجودة على الخريطة التركية، أنت الآن تريد الوصول إلى العنوان المطلوب، تحمل ورقة في يدك مكتوب فيها العنوان تفصيلًا وباللغة التركية وتحاول السؤال عن كيفية الذهاب إلى ذلك العنوان، يجب عليك أن تتردد قليلًا إذا قررت استخدام اللغة الإنجليزية، أو حتى العربية، اللهم إلا إذا صادفك تركي من أصل عربي، حينها يمكنه فهمك لكن لا أعدك في أن يرد عليك بالعربية.
عليك أن تتبع لغة الإشارة، هي الطريقة الفعالة هنا، وكلنا وصلنا إلى وجهتنا المقصودة بها، فالأتراك شعب يحب المساعدة، سيأخذك من يدك إلى وسيلة المواصلات التي يجب عليك أن تركبها، أو إلى سائق التاكسي وسيحدثه أنك تريد الذهاب إلى ذلك العنوان، وسيذكر أنك أجنبي، وربما ينعتك بالأبله لأنك لا تفهم اللغة التركية، لا عليك، المهم أنك ستصل إلى بيتك بتلك الطريقة، ولا ضرر في أن يستقل التركي معك سيارة الأجرة ليصل إلى بيته ومن ثم تصل أنت إلى وجهتك، وستدفع الأجرة لك وله، لا عليك، المهم أنك وصلت بسلام.
الليلة الأولى
ربما جربت أن تعيش في سكن جامعي في بلدك، وربما في بلد أجنبي، إلا أن تجربة السكن الجامعي مع الشعب التركي تختلف كثيرًا، وهي مسلية حقًا، سأتحدث عن تجربة السكن الجامعي للفتيات، فهذا حدث لي ولصديقاتي بالإجماع، عليك أن تعرف أن التركيات فتيات ودودات، إلا أنهن سطحيات وعاشقات للعلاقات السطحية، هذا ليس للتعميم، ولكنها حقيقة في أغلبيتهن، العلاقات السريعة السطحية هدفهن، سواء علاقات عاطفية أو صداقة، ويمكن استنتاج ذلك حينما تمكث الليلة الأولى كأجنبي في سكن جامعي في غرفة مليئة بالفتيات الأتراك، ويبدأ الاستجواب: كم عمرك؟ ماذا تدرسين؟ كم عدد أخواتك؟ ماذا يعمل كل من أبيك وأمك؟ كم عدد غرف بيتك؟ هل أنتِ مسلمة أم لا وما هو مذهبك؟ ثم يأتي السؤال الأهم، والذي سيستغرق الحديث عنه ساعة على الأقل، هل لديك حبيب؟ إذا كانت الإجابة بلا فستنالين قليلاً من نظرات الشفقة مع الدعوة بالنصيب القريب، والمهم أن يكون وسيمًا، أما إذا كانت الإجابة بنعم، فسيقتربون منك أكثر، وسيبدأون في استجواب في مستوى متقدم وسيستغرق وقتًا طويلًا، طويًلا جدًا.
أرض التناقض
تركيا دولة مسلمة، و99% من سكانها مسلمين، تركيا مليئة بالمساجد والشيوخ والمحجبات، كل ذلك صحيح، ولكن رغم كل هذا لا تنسى أن تركيا أرض التناقض، الأتراك حريصون كل الحرص على الاحتفال بالمناسبات الدينية، ويعطونها حقها كاملًا في الاحتفال، بداية من المأكولات والمشروبات، والصلاة وقراءة القرآن، إلا أنه يمكن للتركي المسلم ألا يعرف شيئًا عن دينه كليًا، ولا يقوم بأي فريضة من فرائضه، ولم يترب عليها من الأساس، ولكنه بكل بساطة يمكن أن يقول إنه لا يمكنه أن يتصادق مع مسيحي أو مسيحية، أو من الممكن أن يحتفل بالأعياد الإسلامية حق احتفالها، وتجده بجوارك على مائدة الإفطار في شهر رمضان ينتظر الآذان معك رغم أنه ليس بصائم من الأساس، وعندما تسأله عن سبب عدم صيامه يقول بأنه صعب جدًا ولا يقدر عليه.
من الوارد جدًا رغم وجود المحجبات في تركيا أن يتم سؤالك عن الحجاب، واتهامك بالرجعية في بعض الأحيان، وأن يتم التعجب منك إن كنت لا تشرب الكحوليات، وأن يتم استخدام جملة أن تركيا دولة علمانية، ويحق لك أن تفعل ما تريد بحرية، فأنت لست في بلدك التي تقيدك وتمنعك من كل أبواب الحرية التي تراها هنا.
الأسئلة الخارقة للعادة
مع وجود مختلف الجنسيات هنا، ومع اختلاطهم بالأتراك، يبدأ فضول الأتراك الشديد عن البلاد التي نأتي منها، ولكن لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فيتطور إلى أسئلة خارقة أحيانًا للعادة أو للمنطق، أيهما أقرب، وكل له نصيب على حسب بلده، فتسمع مثلاً، أنت من بلد الأهرامات، أتعيشون بداخلها؟ أو أنت من سوريا، أنتم تتحدثون الإنجليزية هناك أليس كذلك؟ شعب مصر أغنى من الأتراك بكثير، أنت من إفريقيا، أتعيشون مع الأسود؟ ناهيك أصلاً أن إفريقيا في منطق الأتراك هي دولة وليست قارة، حتى إنه من الممكن جدًا أن يتم مقارنة بين إفريقيا القارة وبين تركيا الدولة، كما أن العربي في ذهن الأتراك مرتبط بالبشرة السوداء، لذا حينما يقابلون عربي أبيض البشرة، يصابون بالحيرة، ويحاولون معرفة أصله إن كان له فرعًا أوروبيًا أو حتى تركيًا في عائلته.
الأتراك شعب مسلٍ للغاية، وليست الفكرة هنا الانتقاد كما ذكرت سابقًا، بل الفكرة الرئيسية أنه مهما حاولنا تكوين صورة نمطية عن شعب ما، ستكون بعيدة كليًا عن الحقيقة الأصلية، ولن يتم اكتشاف تلك الحقيقة غير بمعاشرة أهلها، ومهما تصورنا من تصورات وردية، ربما لا تكون وردية على الإطلاق، ولكنها من الممكن جدًا أن تكون مسلية، لم لا؟