في الوقت الذي تعاني فيه المنطقة العربية بلا استثناء من أزمات اقتصادية طاحنة دفعت بعض الدول إلى اتخاذ عدد من الإجراءات التقشفية كرفع الدعم وتقليص الرواتب وغيرها، ودفعت الأخرى إلى مد يد التسول في الداخل والخارج على حد سواء، إلا أن مخزون الإنفاق على دراما شهر رمضان والأرقام المعلنة تقول عكس ذلك تمامًا.
فحين تتصدر مصر قائمة الدول العربية الأكثر إنفاقًا على دراما رمضان، وتتجاوز ميزانية الأعمال المقدمة في هذا الشهر 2.5 مليار جنيه بما يعادل 270 مليون دولار، تليها المملكة العربية السعودية بما يقرب من 40 مليون دولار، ثم الكويت والإمارات وسوريا بما قيمته 30 مليون دولار، فلا بد من وقفة مدققة لقراءة حالة “الشيزوفرينيا” التي أصابت المجتمع العربي.
“نون بوست” من خلال هذه الإطلالة يستعرض ميزانيات أبرز الأعمال الدرامية المقدمة في الوطن العربي، ومقارنتها بالحالة المعيشية للمواطن العربي في الآونة الأخيرة لتقف على حجم التناقض البين والانقسام الواضح في العقلية العربية.
رمضان في مصر: موسم للنجوم وتقشف للمواطن
“أكثر الفئات تكسبًا وربحية مهما كانت الأزمات التي تمر بها مصر هم الفنانون ولاعبو الكرة”، لم تأت تلك العبارة التي باتت تمثل عقيدة عند المصريين من فراغ، بل هي واقع معاش ومنهج حياة واضح للجميع.
والقارئ الجيد للأحداث على مر المحطات التاريخية الهامة التي مرت بها مصر منذ الملكية وحتى الآن يجد أن الممثلين والراقصات والمطربين ولاعبي الكرة هم أكثر الفئات المستفيدة مهما كانت مرارة الأزمة، فهم اعتادوا أن يأكلوا على جميع الموائد ويوظفوا شتى الأحداث بما يسمح لهم بتواجد يرضي غرورهم المجتمعي والمادي لاسيما مع شعب يفكر بعينيه ويقرر بعواطفه.
ومع بداية رمضان من كل عام، كثير ما كان يراهن البعض على أن هذا الموسم سيكون استثنائيًا، وأن الإنفاق على الدراما سيتراجع بصورة ملفتة، لاسيما في ظل حالة “الضنك” التي يحياها الشعب هذه الأيام والتي سبقتها والتي ستليها، وأن الفنانين سيقومون بدورهم الوطني في التنازل عن أجورهم العالية لصالح الوطن أو أبنائه ممن لا يجدون لقمة العيش، ومع ذلك يستيقظ الملايين من أبناء هذا الشعب المقهور على أرقام خرافية ما بين أجور للفنانين وميزانيات لإنتاج المسلسلات والأعمال الدرامية، في الوقت الذي قد يتخلى فيه المواطن عن حيائه وكرامته لأجل الحصول على دواء مدعم أو وجبة مخفضة، ومع ذلك لا يجد.
2.5 مليار جنيه ميزانية إنتاج 28 مسلسلاً وعملاً دراميًا مصريًا في رمضان هذا العام، دفع الكثير من المحللين والخبراء والمواطنين إلى التساؤل عن جدوى هذه الأعمال وهل الشعب المصري في هذه الظروف التي يمر بها بحاجة لمثل هذه الأعمال التي تبتلع بداخلها هذه المليارات؟
إبراهيم عارف رئيس تحرير جريدة “البيان” المصرية أكد أن مصر في رمضان تحيا حالة من “فصام الشخصية” فتشعر أنك في بلد آخر، فحين تشاهد حجم الأعمال الدرامية والمسلسلات والبرامج المتنوعة والإعلانات يُخيل إليك أنك تحيا في السويد مثلاً أو الولايات المتحدة، لكن سرعان ما تخرج للشارع لتجد مئات المتسولين في الشوارع والميادين العامة، لتجد عشرات الآلاف يتخذون من المقابر سكنًا وموطنًا لهم، لتجد العشرات يتناولون طعامهم من صناديق القمامة، حينها تشعر أنك في دولة غير الدولة.
عارف تساءل عن كيفية أن تسمح دولة بإنفاق هذه المليارات على الأعمال الساقطة التي تفسد على الناس صيامهم في الوقت الذي تعاني منه من أزمة اقتصادية طاحنة، ويكفي أن نقف على ما أعلنه البنك المركزي نهاية مارس الماضي، من ارتفاع حجم الدين الخارجي للبلاد بمقدار 6.5 مليار دولار ليصل بنهاية ديسمبر الماضي إلى 47.8 مليار دولار، حيث ذكر البنك في أحدث تقرير له، أن حجم الدين الخارجي المستحق على مصر بلغ في ديسمبر الفائت 47.8 مليار دولار مقارنة مع 41.3 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2014، كما بلغت أعباء خدمة الدين الخارجي “متوسط وطويل الأجل” نحو 3.2 مليار دولار خلال الفترة من يوليو إلى ديسمبر 2015، هي أقساط مسددة بقيمة 2.8 مليار دولار، وفوائد مدفوعة تقدر بـ 0.4 مليار دولار، حسب البنك المركزي.
كما ارتفعت نسبة رصيد الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي لتبلغ 13% بنهاية ديسمبر الماضي، مقابل 12.1% في ديسمبر 2014، أما فيما يتعلق بالدين العام المحلي فقد أوضح البنك أن إجمالي هذا الدين ارتفع إلى 2.368 تريليون جنيه بنهاية ديسمبر الماضي.
السيد الربوة، الباحث والمحلل السياسي، عبر عن الحالة الشيزوفرينية التي تمر بها مصر في رمضان بأنها “دونت ميكس” ومؤشر واضح على فقدان وعي قطاع عريض من هذا الشعب، الذي لم يفكر ولو دقيقة واحدة في اتخاذ أي موقف حيال هذا السفه ولو بالمقاطعة.
الربوة استعرض في تعليقه أحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية، والذي كشف عن احتلال مصر للمركز الأول عالميًا في الإصابة بمرض فيروس “سي” والفشل الكلوي، إذ هناك ما يقرب من 9 ملايين مصري مريض بفيروس سي، و2.6 مليون مريض بالفشل الكلوي، إضافة إلى ما يزيد عن 5 ملايين مصاب بمرض السكري، ملفتًا أن التقرير الصادر عن المنظمة الأممية كشف أن نسبة الإصابة ببعض هذه الأمراض في زيادة مرعبة تصل في بعضها إلى 22% سنويًا كما هو الحال في فيروس سي، بما يعني أن الفيروس يصيب نحو 165.000 شخص في مصر كل عام، مختتمًا حديثه بأنه أليس من الأولى أن تحول هذه الأرقام الفلكية المخصصة للدراما إلى علاج هؤلاء المرضى أو المساعدة في تحسين المناخ الصحي الخاص بهم؟
من جانبهم فقد شن عدد من المواطنين هجومًا شديدًا ضد الفنانين والحكومة في آن واحد، متهمين إياهم بالعبث في مقدرات الشعب وسرقة أمواله وإيداعها في “جيوب” الممثلين والراقصين والمطربين.
مسعد السيد، مرشد سياحي، تساءل: بأي حق يحصل عادل إمام على 40 مليون جنيه نظير أجره في إحدى المسلسلات في الوقت الذي يأكل الناس فيه من “الزبالة” ؟ وتابع: أليس من العدل لو تم توزيع هذه الملايين على المواطنين ممن لم يجدوا قوت يومهم في رمضان؟ المواطن لا يحتاج لمسلسل ولا لبرنامج في رمضان، فقط يحتاج لعشرة جنيهات أو مائة جنيه ليطعم بهم أسرته وعائلته، لاسيما في ظل ارتفاع الأسعار الجنوني الذي ما شهدته مصر منذ الملك أحمس.
شريف عبدالكريم، موظف، طالب الحكومة بوقف إنتاج الأعمال الدرامية في رمضان لمدة خمسة أعوام، وتحويل ميزانيات إنتاجها – بالجبر – إلى تحسين الخدمات الصحية والتموينية للمواطنين، متسائلاً: هل يجرؤ الرئيس أن يخصم من أجور هؤلاء الفنانين كما يخصم من أجور الموظفين لصالح الدولة؟ وتابع: لماذا لم نسمع عن تبرعات من الفنانين لصالح المواطنين الفقراء أو تخصيص جزء من أجورهم لتحسين خدمة ما؟ فقط لا نراهم إلا في المناسبات الوطنية والرسمية يقومون بدور الواعظ والمحفز وكأنهم رسل سلام وخير للوطن ومع ذلك يتقاضون عن هذا “الشو الإعلامي” أجرًا أيضًا فهم لا يبحثون إلا على “اللقطة” وفقط؟ هل نحن في دولة حقا؟
الطريف أن ميزانية إنتاج المسلسلات الدرامية لم تكن وحدها مثار سخرية واستنكار وتعجب، فهناك البرامج التي اتخذت من هذا الشهر المبارك موسمًا لإفساد عقول وأذواق المواطنين، ومع ذلك فقد خُصصت لها ميزانيات غير مسبوقة، ويكفي للتعرف على هذا الواقع المؤلم الوقوف على أجور الفنانين ضيوف برنامج “رامز يلعب بالنار” مقابل الظهور في البرنامج فقط، فها هو أنطونيو بانديراس يتقاضى مليون جنيه، ستيفن سيجال مليون ونصف جنيه، غادة عادل 133 ألف جنيه، أمير كرارة 100 ألف جنيه، صابر الرباعي 20 ألف دولار، راغب علامة 25 ألف دولار، علا غانم 75 ألف جنيه، نرمين الفقي 70 ألف جنيه.
جدير بالذكر أنه في أبريل الماضي شهد معدل التضخم السنوي ارتفاعًا ملحوظًا، مسجلاً 10.3%، مقارنة بـ 9% خلال شهر مارس 2016، وأرجعت وزارة المالية، في تقريرها الشهري، لرصد مؤشرات أبريل الماضي، ارتفاع معدﻻت التضخم في أبريل إلى ارتفاع معدل التضخم السنوي لمجموعة الطعام والشراب، التي سجلت 12.7% في أبريل، مقارنة بـ12.1 خلال شهر مارس.
وأوضحت نسب قياس معدلات التضخم فى مصر، تضاربًا بين مؤشري البنك المركزي المصري والجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، حيث أعلن الأول أن نسبة التضخم بلغت فى أبريل الماضي 9.51%، بينما أعلن الثاني أن النسبة بلغت فى نفس الشهر 10.9%، غير أن متوسط معدل التضخم السنوي خلال الفترة من يوليو إلى أبريل (2015- 2016) انخفض ليسجل 9.6% مقارنة بـ10.7% خلال نفس الفترة من العام المالي السابق.
أما الأرقام الرسمية الصادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بخصوص العشوائيات في مصر، فتدل علي أن عدد المناطق العشوائية المطلوب إزالتها علي مستوى الجمهورية يبلغ81 منطقة بينما عدد المناطق المطلوب تطويرها يصل إلي أكثر من 880 منطقة، وأن المساحة التي تشغلها العشوائيات تبلغ 344 ك. م2 يسكنها 10 ملايين و200 ألف نسمة.
الفنان المصري عادل إمام
الدراما الخليجية: تقليد خارج السرب
بالرغم من الشعارات الدينية التي يرفعها مسؤولو دول الخليج كون أن رمضان شهر للعبادات والطاعات والتقرب إلى الله عز وجل والبعد عن كل مفسدة أو معصية، فضلاً عن تعرض هذه الدول لهزات اقتصادية جراء تراجع أسعار النفط العالمية، وهو ما تجسد في العجز غير المسبوق في ميزانياتهم السنوية، وهو ما دفعهم للإعلان عن بعض الإجراءات التقشفية ومنها رفع الدعم تدريجيًا عن الوقود، إضافة إلى تقليص عدد العمالة الوافدة، وتأخر صرف الرواتب وانخفاضها، إلا أن المتابع لحال هذه المجتمعات في رمضان يخرج بنتيجة مختلفة تمامًا كما هو الحال في الشأن المصري.
المملكة العربية السعودية، قبلة الإسلام والمسلمين، وموطن كبار العلماء ورجال الدين، ها هي تنفق على دراما رمضان هذا العام ما يقرب من 40 مليون دولار تكلفة إنتاج عدد من المسلسلات والبرامج الدرامية الرمضانية.
الرقم قد يبدو قليلاً إذا ما قورن بالحال في مصر، لكن قياس هذا الرقم بالسنوات السابقة فضلاً عما طرأ على المجتمع السعودي من أزمات اقتصادية يجعل من الإصرار على المضي في هذا الطريق محل خلاف وجدل، فلماذا تصر دولة هي المدافع الأول عن الإسلام وقلعته المصونة على إنفاق هذه الأموال على أعمال قيل عنها حسب نقاد سعوديين أنها “سفه” ومضيعة للوقت ومفسدة للعقل والدين؟
مشهد من المسلسل السعودي “إقلاع اضطراري”
ولم تختلف الكويت والإمارات وسوريا وبعض الدول العربية الأخرى كثيرًا عن بلاد الحرمين، فقد أشارت التقارير إلى أن ميزانية دراما رمضان هذا العام في معظم هذه الدول تجاوزت حاجز الـ 30 مليون دولار بالرغم من الواقع المعيشي الذي يعاني منه بعض شعوب هذه الدول وفي مقدمتها سوريا.
ويبقى السؤال: إلى متى ستظل العقلية العربية عامة والمصرية بصورة خاصة أسيرة قفص “الفصام” الذي تحيا بداخله طيلة عقود طويلة؟ فالمنطق والعقل، والدين قبلهما يحثنا على الاتزان والتوازن في نفس الوقت، فكيف لأمة يحيا ملايينها القابعين تحت مستوى خط الفقر في خدمة حفنة من مترفيها ممن يتنعمون ليل نهار على أسرة الرغد والحياة الكريمة من جيوب وعرق الكادحين؟
وكيف لشعب يفترض فيه الوعي أن يظل “عبدًا” لشهواته وملذاته البصرية والجسدية، في الوقت الذي يعاني فيه من تشقق في رداء حياته المعيشية وتردي في أوضاعه الآنية والمستقبلية؟ وأين دور الدولة في السيطرة على هذه الحالة الفصامية التي أصابت الداخل بالجنون والخارج بالتعجب والاستنكار؟ ثم يبقى الاستنكار الأخير: هل مجتمع ينفق هذه المليارات على أعمال فنية ساقطة في شهر العبادات يدعي بعد ذلك الفقر والعوز والحاجة؟ ثم كيف له أن ينتظر معية الله ونصره وهو غارق في ملذات المعاصي ليل نهار في شهر الصوم والعبادات بمباركة من الدولة ورضا من الشعب؟