عند الدخول إلى صفحة دار الافتاء المصرية على موقع فيسبوك، سيكون أحد أول ما ستقع عليه عيناك هو تصنيف الصفحة، فمؤسس الصفحة اختار تسميتها كصفحة لـ “مؤسسة حكومية”، يصبح هذا ذو أهمية خاصة في ضوء تصريح للدار على ذات الصفحة، والذي تم حذفه منذ بعض الوقت بعد أن أثار جدلًا واسعًا على شبكات التواصل الاجتماعي في مصر.
نص التصريح كالتالي
يمكن الزعم أن المنشور يلخص حالة شديدة التراكب من الالتباس والدوران حول الذات تميز المجال العام المصري وعلاقة الدولة بكل من المجتمع والدين، كما لا تقل الردود التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي في التباسها وتخبطها عن الواقع الذي أنتج كلا الظاهرتين، وهذا يدعونا إلى طرح مجموعة من الأسئلة فيما يخص هذه العلاقات التي لا يبدو أن أي طرف في مصر يحاول تعريف طبيعتها بجدية قبل محاولة الحديث عنها وإدلاء الرأي فيما يخصها.
هل مصر دولة إسلامية؟
ينص الدستور المصري على أن “الإسلام هو دين الدولة“، وهذا النص هو نص مربك بالضرورة، فهو يتناقض بالضرورة مع كل من المادة الرابعة والتي تنص على أن “السيادة للشعب وحده”؛ والمادة الأولى التي تنص على أن نظام الدولة نظام جمهوري ديموقراطي يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون.
لا نحاول هنا أن نقوم بقياس التزام الدولة المصرية بالدستور الذي قام رجالها بوضعه، ففي نهاية الأمر يمكن لأي مطلع على الشأن المصري أن يدرك أن الوضع المصري أسوأ بكثير حتى من دستور يفتقد لأي من معايير الجودة والتطبيق، إلا أننا نحاول أن نرسم تصور لفهم الدولة لنفسها، فالدولة تعرف نفسها على أن الإسلام دينها، إلا أنه يجب أن نطرح تساؤل هام هنا: هل الدولة شخص أو فرد كي يكون له ديانة؟
عندما نتحدث عن الدولة نلجأ إلى استخدام مجاز ولفظة مؤنثة هي “الدولة” للإشارة إلى ما نقصده في الحقيقة وهو مجموعة من المؤسسات والأجهزة التي تعني بإدارة بلد معين وتيسير حيوات من يعيش به من سكان، إلا أن هذا الشخص المتخيل ليس بشخص حقيقي في الواقع، لا يستطيع هذا الشخص ممارسة الصلوات الخمس ولا صيام رمضان ولا حتى نطق الشهادتين؛ فكيف يمكن أن يكون دين هذه الدولة هو الإسلام؟
من يعين المفتي؟ وماذا يفعل؟
يمثل هذا السؤال تمظهر ووضوح السؤال السابق في أبهى صوره، فالواقع أن كون دار الإفتاء مؤسسة حكومية ليس مجرد تعريف مكتوب على صفحة فيسبوك الخاصة بها، الدار فعلًا مؤسسة حكومية يقوم رئيس الجمهورية بتعيين رأسها ويقوم موظفوها بقبض مرتباتهم من الموازنة العامة للدولة، يصبح هؤلاء الموظفون وعلى رأسهم مفتي الديار المصرية بهذا الشكل وبالضرورة موظفين لدى الدولة المصرية لا المجال العام المنوط باستيعاب المنظومة القيمية للدين و”جماعة المؤمنين”.
إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن للمفتي ودار الإفتاء دور محوري في التحكم في سياسة الدولة ونظام التشريع بها، فدور الدار على أحسن الفروض هو دور استشاري تبدي رأيها فيما يعرض عليها من تشريعات تنتجها المؤسسات السياسية (البرلمان إذا افترضنا وجود نظام ديموقراطي في مصر، أو النخبة السياسية العسكرية والدولتية إذا تحدثنا واقعيًا)، ففي أقل الأمور تفاهة وجانبية، لا يستطيع المفتي إلغاء حكم نهائي بالإعدام حتى عند رفضه إذا أراد القاضي تنفيذه في نهاية الأمر.
إذن، ما هي قدسية المجتمع التي تحدثت عنها الدار؟ وأي مجتمع؟
تستمر الدار في ممارسة تقليد تاريخي للدولة المصرية، وهو الحفاظ على تعريفات هامة كالمجتمع والدولة وغيرها في أكثر الصور غموضًا والتباسًا، فأي تعريف دقيق لأي من هذه المصطلحات يحتاج بالضرورة إلى نقاش وتوافق اجتماعي واسع، وكلها أشياء لا تصب في مصالح نظام سلطوي شمولي لا يلقي بالًا للشعب أو شرعيته، كما أن توافر تعريفات واضحة لهذه المصطلحات كفيل بخلق معايير واضحة يمكن على أساسها محاسبة الإدارة السياسية للدولة لفشلها في الاستماع أو تحقيق ما به المصلحة العامة لهذه القطاعات، وهذا بالضرورة ليس في مصلحة إدارة سياسية قوامها الرئيسي هو الفساد والقمع.
تستمر الدولة المصرية (ودار الافتاء أحد أذرعها) في الاعتماد على مجموعة من الادعاءات القيمية والأخلاقية في ضبط سيطرتها على المجال العام، فالحديث عما يصح ولا يصح يحكم إلى حد كبير مجموعة كبيرة من القرارت السياسية المحورية والممارسات القمعية داخل مصر بشكل يومي، لم يكن من محض الصدفة أن أول ما قامت به قوات الجيش عند اعتقال مجموعة من الفتيات في ميدان التحرير كان الكشف على عذريتهن، فالأخلاقية في هذا السياق معبد تستطيع الدولة وقوات الأمن استخدامه بشكل كفء لبسط سلطتها على المجتمع تحت زعم الحفاظ على الأخلاق العامة، ومن أفضل من مؤسسة دينية رسمية ككاهن لهذا المعبد يحدد ما هو أخلاقي وما ليس كذلك.
ما دخل الدولة بالصيام؟
مرة أخرى نرجع إلى تصنيف الدولة المصرية لدينها على أنه الإسلام، والدولة تعمل على إظهار ذلك بشكل مستمر عبر تبعية كل من دار الافتاء والأزهر والأوقاف بشكل مباشر لها، كما أنها تعمل على ضمان التزام المجتمع بقدسية شهر رمضان المعظم عبر تأكد شرطة المرافق العامة بشكل يومي من إغلاق المقاهي وتغطيتها والتأكيد على وقف بيع الخمور طوال الشهر الكريم، إلا أن ذات الدولة المسلمة تقوم بتحصيل مليارات الجنيهات كل عام من ضرائب الخمور والتبغ بالإضافة إلى استثناء المقاهي الكبيرة والأكثر تكلفة والمعروفة بالكافيهات بالعمل بدون أي قيود في نهار رمضان.
وهنا يصح التساؤل: ما الذي يحكم قيام الدولة في لحظة ما بالتعامل وفقًا لدينها الذي يحدده الدستور، أو بالتعامل وفقًا لكونها دولة جمهورية مصدر شرعيتها وسلطتها هو الشعب بغض النظر عن توجهاته الدينية؟