علاقات تاريخية تلك التي تجمع بين الهنود والإيرانيين، بدءًا من هجرة الشعوب الآرية من آسيا الوسطى إلى الجنوب، والتي أرست قواعد الثقافتين الفارسية بإيران والهندية الأكبر بشمال الهند، وشكلت اثنتين من أبرز الأديان في تلك المنطقة هي الزرادشتية بإيران والهندوسية بالهند، وحتى دخول الإسلام بلونه الفارسي إلى شمال الهند، وتحول الدول المسلمة المتعاقبة على حكم دلهي إلى اللغة الفارسية كلغة أساسية علاوة على كونها اللغة الأدبية الرئيسية لمعظم مسلمي القارة الهندية قبل تبلور الأوردو وهيمنة الإنجليزية.
لم يتوقف الأمر عند الروابط الثقافية بل ووصل إلى المصالح السياسية والاقتصادية والتي لم تتعارض كثيرًا لم تختلف على مدار قرون شهدت تحالف سلطان المغول المسلمين في الهند مع الصفويين في إيران، ثم علاقات متينة بين ملوك القاجار الإيرانيين والهند البريطانية، وأخيرًا الصداقة الوطيدة التي دشنتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع الهند بعد تباعد وجيز سببته سياسات الشاه ونظامه البهلوي القريب من الغرب، والذي اعتمد طوال النصف الثاني من القرن العشرين على التحالف مع باكستان، في حين لجأت الهند للانحياز ناحية السوفييت بقيادة جواهر لال نهرو وابنته من بعده، وهو ما جعلها ترحب نسبيًا بسقوط نظام الشاه على يد الثورة الإسلامية، في حين توجس منها النظام العسكري في باكستان.
تنافر واضح اتسمت به على العكس العلاقات بين البلدين من ناحية وباكستان من ناحية على مدار العقود الثلاثة لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران، فالنظام الشيعي بالأساس في طهران لطالما شعر بالتهديد من دعم المتطرفين في أفغانستان، وهي سياسة تبنتها الاستخبارات الباكستانية بين الحين والآخر لدعم موقعها في أفغانستان، في حين ظلت الهند تعاني من معضلة انفصالها عن الجيرة المباشرة مع إيران وانقطاعها عن الاتصال بآسيا الوسطى كما كانت على مدار تاريخها لآلاف السنين نتيجة لظهور دولة باكستان وسيطرة الأخيرة على الجزء الشمالي من كشمير والمتصل بأفغانستان وطاجيكستان، الأمر الذي جعل من إيران البوابة الوحيدة الممكنة للهند للوصول إلى جيرانها التاريخيين في تلك المنطقة.
تشابهار: بين الجغرافيا والاقتصاد
ميناء تشابهار الإيراني وخط الممر الاقتصادي الذي يطمح البلدان تدشينه مع أفغانستان
ليس كثيرًا إذن الثمن الذي قررت دلهي استثماره في ميناء تشابهار الإيراني المطل على البحر العربي، وهو نصف مليار دولار، بعد أن وقع رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي بالفعل على اتفاق بدء الأعمال في بناء ميناء ضخم في تلك المدينة الصغيرة، وتعهده بتشكيل منطقة تجارة حرة تستثمر فيها 16 مليار دولار مستقبلًا في المدينة، علاوة على تدشين ممر اقتصادي وتجاري منطلقًا من الميناء وصولًا إلى أفغانستان، بما يشمله ذلك من تطوير البنية التحتية وبناء طرق جديدة وسكك حديدية ناحية الحدود الأفغانية الإيرانية.
كل ذلك تم في زيارة هي الأولى لرئيس الوزراء الهندي إلى إيران منذ توقيع الاتفاق النووي بين الدول الغربية وإيران العام الماضي، في إشارة واضحة لرغبة الهنود اقتناص نصيبهم من كعكة النمو الإيراني التي يتوقع أن تنطلق بقوة خلال العقد المقبل، لا سيما وأنهم من أوائل الدول التي تمتعت بعلاقات اقتصادية متينة مع إيران وونجحت في الالتفاف على منظومة العقوبات الغربية في السابق إلى جانب الصين وروسيا وتركيا.
لا تقتصر أهمية تشابهار بالنسبة للهند على تجاوز باكستان للوصول إلى آسيا الوسطى، بل وتأمين مصدر موثوق للغاز الطبيعي لعقود طويلة بالنظر لحاجات الاقتصاد الهندي من الغاز والتي تضاعفت بين عامي 2000 و2012، ويتوقع تضاعفها مرتين أخرتين وصولًا لعام 2050، وبالنظر كذلك للبرود الذي يتسم به تنفيذ مشروع خط الأنابيب الممتد من تركمنستان الغنية بالغاز عبر أفغانستان وباكستان وإلى الهند، أولًا نتيجة انعدام الاستقرار في أفغانستان وسهولة استهدافه، وثانيًا نتيجة مروره عبر باكستان والتي قد تهدد بإغلاقه أو تتغافل عن استهدافه على الأقل على أراضيها للضغط على الهند.
بالنسبة لإيران فإن الميناء بشكل مباشر يجعلها تمتلك أول ميناء عميق مما يتيح لها القيام بنفسها بكافة أنواع التجارة المعتمدة على سفن الشحن كبيرة الحجم، بدلًا من اعتمادها المستمر حتى اليوم على الموانئ عميقة المياه في الإمارات كوسيط لاستقبال سُفن الشحن الكبيرة، بالإضافة إلى تشكيل علاقة تجارية خاصة بالهند ثالث أكبر اقتصاد في آسيا بعد الصين واليابان، وأقواها نموًا في الفترة المقبلة على الأرجح بعد تباطؤ العملاق الصيني، وهو ما يصب في تعزيز خطتها الاقتصادية المقبلة بعد رفع العقوبات.
ماذا يعني ذلك للملف الأفغاني؟
قيادات الهند وإيران وأفغانستان في لقاء جمعهم مؤخرًا
يشكل الميناء فرصة لتعزيز التجارة الأفغانية الهندية بشكل مباشر لأول مرة، وتوطيد دور الهند في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأفغاني من التأزم نتيجة تراجع الدور الغربي التقليدي فيه بعد الانسحاب وانصباب التركيز الأمريكي على شرق آسيا، وبالتالي فهو يبحث عن متنفس عن طريق الانفتاح بشكل أكبر على إيران والاستفادة من نموها الاقتصادي المقبل أولًا، ثم تعزيز الاتصال التجاري بكل من الصين والهند على السواء، وهو اتصال لا تطمح له فقط الدولة الأفغانية، ولكن مختلف اللاعبين المتحكمين في طرق التجارة غير الرسمية المختلفة وأبرزهم طالبان.
طالبان بالتحديد تمارس لعبة سياسية مزدوجة هذه الأيام بتعزيز سيطرتها في الأراضي التي حازتها بعد الانسحاب الأمريكي الجزئي، والتي تشكل اليوم أكبر سيطرة لها منذ عام 2001، وفتح مختلف قنوات التواصل السياسي والاقتصادي مع دول الجوار المختلفة لبث صورة باعتبارها لاعبًا سياسيًا ناضجًا وليس مجرد ميليشيا راديكالية على غرار ما قامت به في التسعينيات، وهو ما يفسر تقاربها مع إيران في السنوات الأخيرة، والمحادثات التي فتحتها مع الصين مقابل تغاضيها عن ملف مسلمي تركستان الشرقية، وأخيرًا فتح باب الحوار أيضًا مع روسيا عدوها التاريخي اللدود.
في خضم ظهور وتوسع داعش في أفغانستان سيكون منطقيًا لكافة الأطراف استغلال ذلك التوجه الجديد لطالبان لضرب الطرف الأكثر جنونًا الآن على الساحة الأفغانية، فداعش قد قررت أن تتولى هي زمام دعم المسلحين في تركستان الشرقية بالصين، مما أثار حفيظة الصين، ووجودها قُرب الحدود الأفغانية الباكستانية يعني رغبتها في خلق موطئ قدم لها داخل باكستان ومن ثم كشمير، وهو ما يهدد الهند بشكل واضح، علاوة على تهديد إيران بطبيعة الحال والتي تحارب داعش حلفاءها في العراق، ولذا فإن الجميع الآن على ما يبدو عازم على دعم طالبان ولو بشكل هادئ حتى اقتلاع داعش تمامًا من المنطقة، وهو دعم ستحاول طالبان استغلاله بالطبع لترسيخ دورها التاريخي على الساحة الأفغانية.
***
“إنه اتفاق سيغير مسار التاريخ بالمنطقة،” هكذا تحدث رئيس الوزراء الهندي مودي عن الاتفاق الثلاثي الموقع بينه وبين الرئيسين الإيراني والأفغاني لتدشين ممر تجاري يكسر احتكار باكستان لإيصال التجارة الأفغانية إلى المحيط الهندي، ويجعل إيران بديلًا قويًا لها، في تحقيق لهدف جيوسياسي لطالما طمحت له الهند منذ تقسيمها على يد البريطانيين إلى الهند وباكستان عام 1947، ولطالما طمحت له إيران كذلك لتعزيز موقعها في أفغانستان وتقويض الدور الباكستاني الراسخ فيها، وهو أمر سيشعل منافسة بالطبع بينهما وبين المحور الصيني الباكستاني المعروف، فالصين هي الأخرى ترعى ميناءً لا يبعد كثيرًا عن تشابهار على السواحل الباكستانية لجذب أفغانستان إلى مدارهما، وهي منافسة سيخرج منها الأفغان منتصرين في جميع الأحوال، وستنعش الاقتصادين الإيراني والباكستاني على السواء، في حين ستشكل فيصلًا واضحًا بين محوري الصين والهند.