هل هو تنسيق ميداني فرضه الواقع؟ أم تم بموجب اتفاق تم من خلف الكواليس، جعل من بشار الأسد جزءًا من معادلة الحل في سوريا؟!
الأقرب إلى التصور أن ما يجري في شمال وحول الرقة، وفي حلب، إنما يتم بموجب اتفاق فرض هذه الحالة من التنسيق العسكري الميداني، والذي لا يمكن له أن يتم من دون تفاهمات كاملة، منعًا لأية ارتباكات ونيران غير صديقة تتحول إلى حريق كبير لأن من بين أطرافه قوى كبرى وعظمى.
تسير العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري النظامي، بدعم ومساندة كاملَيْن من الطيران الحربي الروسي، في ريف الرقة الغربي، ومناطق أخرى حول المدينة، جنبًا إلى جنبٍ في تناغمٍ كامل مع العمليات التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية التي تُعتبر وحدات حماية الشعب الكردي (واي. بي. جي)، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي السوري (بي. واي. دي) عمودها الفقري، بدعم كامل أيضًا من الولايات المتحدة، في شمال وشمال شرق المدينة، بالإضافة إلى العمليات التي تقوم بها لاستعادة “منبج” في حلب.
هذا التنسيق بات معلنًا في وسائل إعلام عديدة، ولم يعد يتم بطريقة الأمر الواقع غير المُعلَن عنه رسميًّا.
صحيفة الكوميرسانت الروسية، عنونت تقريرًا لها حول المشهد العسكري الراهن في الرقة وما حولها، بعبارة لافتة للغاية تختصر الموقف بالكامل وهي: “موسكو وواشنطن تزحفان على الرقة”، وبالطبع يتم ذلك من خلال وكلاء الحرب على الأرض، سواء قوات سوريا الديمقراطية، أو الجيش النظامي الروسي والميليشيات التي تدعمه، وعلى رأسها “حزب الله” اللبناني.
الصحيفة الروسية قالت كذلك إن موسكو وواشنطن “قد تركتا الخلافات جانبًا، وبدأ تحالفهما في الزحف على الرقة عاصمة خلافة داعش المزعومة، بهدف تحرير مشترك للمدينة السورية”.
أهم ما جاء في تقرير “الكوميرسانت” هو العبارات التي وصَّفت بها الحالة الراهنة والتي تؤكد أن هناك جديد يتم من وراء الكواليس في صدد سوريا، حيث نقلت عن مصادر لها قولها إن انتهاء المرحلة الرئيسية من “عملية مكافحة الإرهاب الروسية الأمريكية المشتركة في سوريا والعراق” – وهي عبارة مهمة للغاية في صدد توصيف الواقع الراهن الذي يجري في بلاد الرافدين وسوريا – سوف يعتمد على مدى نجاح الجيش السوري في بلوغ الرقة، والمدة الزمنية التي سيستغرقها تحريرها من داعش والمجموعات المسلحة المنضوية معها.
هذا الحديث واضح للغاية في صدد التأكيد على أن هناك تنسيق كامل متفق عليه بين واشنطن وموسكو، تحول بموجبه الجيش النظامي السوري ونظام بشار الأسد، إلى جزء من الاستراتيجية الدولية لمكافحة الإرهاب، والحرب على تنظيم داعش.
واشنطن وموسكو تنسقان الحملة العسكرية بين حلفائهما في شمال سوريا وفي الرقة
ولو أننا قد وسَّعنا دائرة الرؤية قليلاً، خارج سوريا، ووضعنا ما يجري في العراق معه، وطبيعة التحالفات والأطراف المشاركة؛ سوف نجد أن إيران بدورها، وجماعات مثل حزب الله، وميليشيات الحشد الشعبي الشيعية في العراق، صارت ضمن وكلاء التحالف الجديد الناشب بين روسيا والولايات المتحدة، فيما يتعلق بتوجيه العمل العسكري في المشرق العربي بالكامل.
ولعل أبرز ملاحظة على هذا التحالف، أنه يضم أسوأ أعداء العرب السُّنَّة، وأنه يتضمن كذلك مجموعة من المشروعات التي تعمل على فرض واقع جيوسياسي جديد في هذه المنطقة، ونخص بالذكر في ذلك، الأكراد، وتحديدًا حزب الاتحاد الديمقراطي السوري (بي. واي. دي)، الذي يُعتبر في واقع الأمر، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، الذي يحارب للانفصال بجنوب شرق تركيا.
في مقابل هذا الزخم للحل العسكري، فإننا نجد أن مفاوضات جنيف قد ماتت تمامًا في تصريحات المسؤولين في القوى الأهم المتحكمة على الأرض، حيث يبدو وكأن المسؤولين الروس والأمريكيين قد اتفقوا على إفساح المجال أمام العمل العسكري لحسم بعض الأمور على الأرض، مما يستدعي أن تختفي ذكرى جنيف في الخلفية قليلاً!
وربما كان هذا الوضع قد تواترت معلومات عنه إلى المعارضة السورية، فأتت استقالة محمد علوش من رئاسة وفد المعارضة السورية المفاوض في جنيف، باعتبار أن المفاوضات لم تعد ذات محلٍّ، في ظل كون الخصوم – بشار الأسد ومن والاه – قد صاروا جزءًا من استراتيجية رسمية تتبناها العواصم الدولية الكبرى المتحكمة فعليًّا في الأزمة السورية وصيروراتها، وتحديدًا موسكو وواشنطن.
الموقف التركي
يوم 6 يونيو أعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أن موسكو “ستدعم بقوة” الجيش السوري إذا تعرض لتهديدات في حلب ومحيطها، وأضاف: “بالنسبة لما يحدث في حلب ومحيطها، فقد حذرنا الأمريكيين، فهم يعرفون أننا سندعم بقوة الجيش السوري جوًا لمنع الإرهابيين من الاستيلاء على أراضٍ جديدة”.
هذا التصريح تم تفسيره في وسائل الإعلام، من خلال كلام لافروف نفسه، على أنه يخص الأمريكيين بشكل مباشر، إلا أنه ثمَّة بعض الأمور تشير إلى أن المقصود به تركيا، حيث إن العمليات التي يقوم بها التحالف العربي الكردي المدعوم من الولايات المتحدة في حلب، إنما يخدم على أهداف النظام السوري في الاستيلاء على مدينة الطبقة، التي تضم مطارها العسكري، وتُعتَبر خانقًا مهمًّا لوقف وصول أي دعم لتنظيم داعش في الرقة.
فعمليات قوات سوريا الديمقراطية في حلب، تستهدف وقف أية إمدادات تصل عبر الحدود التركية إلى داعش، وكذلك إلى فصائل مسلحة معارضة تنتمي إلى تيار السلفية الجهادية التي تعتبرها موسكو بالكامل تنظيمات إرهابية، بينما تميز الولايات المتحدة بين بعضها البعض، ولاسيما جبهة النصرة والتنظيمات المرتبطة بها، والتنظيمات الأخرى التي تدعمها تركيا والسعودية على وجه الخصوص، مثل “جيش الفتح”، و”أحرار الشام”، و”فيلق السلطان مراد”.
حديث لافروف يمس تركيا في أمر وقع قبل بضعة أيام، ولم يلقَ الاهتمام الإعلامي اللازم، ولكنه مثَّل سابقة حالة ربما خطيرة بالنسبة للروس على وجه الخصوص، وأثارت ضيق الولايات المتحدة من “الحليف” التركي، وتتعلق بتوغُّل قوة عسكرية تركية في شمال سوريا، وتحديدًا عند منطقة عفرين (“كرداج” بالكردية)، والتي تشترك مع ولايتَيْ هاطاي وكيليس التركيتَيْن، في حدود طولها 160 كيلومترًا، وتُعتبر من أهم مناطق سوريا الزراعية والسياحية.
تُعتبر عفرين من بين أهم النقاط الاستراتيجية التي يسعى الأكراد إلى السيطرة عليها، بينما ذلك بالنسبة لتركيا خط أحمر – خطوط تركية حمراء كثيرة تم كسرها في الحرب السورية بسبب السياسات الأمريكية في صدد دعم الأكراد، ومن بينها أي تواجد عسكري كردي غربي الفرات – وهي خط أحمر بالنسبة للأتراك لأكثر من سبب، بجانب العامل الكردي.
السبب الأول، يتعلق بكونها نقطة محورية لدخول وخروج المقاتلين السوريين والأجانب الذين يقاتلون النظام، وتمثل نقطة مهمة للمناورة والالتفاف على المناطق التي يسيطر عليها الأكراد وتنظيم الدولة والنظام السوري في مناطق شمال حلب والشمال السوري بشكل عام، للانتقال من منطقة إلى أخرى في الشمال والعمق السوريَّيْن بشكل عام.
السبب الثاني، يتعلق بأنها تمثل نقطة دفاعية مهمة لعمليات القصف التي يقوم بها تنظيم الدولة على كيليس.
المهم، أن قوة عسكرية تركية محدودة توغلت في عفرين وتمركزت فيها، وبينما تقول مصادر سورية وكردية إن القوة التركية قد انسحبت، تشير مصادر أخرى إلى أن هناك عناصر عسكرية تركية لم تزل بعد هناك.
في جانب آخر من الموقف التركي، أصدر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، يوم 7 يونيو، تصريحًا يقول إن تركيا حصلت على “تطمينات” أمريكية، بعدم بقاء أية قوات كردية في منطقة غرب الفرات، بعد انتهاء العمليات الحالية ضد تنظيم داعش.
لا أحد يدري مصدر ثقة أوغلو من أن الأمريكيين سوف يصدقون في تطميناتهم هذه، فالأمريكيون سبق وأن منحوا الأتراك العديد من الوعود فيما يتعلق بقضية دعم الأكراد بما لا يتجاوز مواجهة تنظيم داعش في مناطق تواجده، وألا يتجاوز ذلك إلى دعم مشروعهم السياسي في شمال وشمال شرق سوريا، وألا يصب هذا التعاون في مصلحة النظام السوري.
فالأتراك منذ البداية، على دراية كاملة بحقيقة الموقف السياسي لأكراد سوريا بشكل عام، حيث لم يدعموا فكرة الثورة منذ البداية على نظام بشار، ولا يشاركون في أية تنسيقية أو تشكيل سياسي يخص المعارضة السورية.
وكل ذلك تم تجاوزه، فأعلن الأكراد فيدراليتهم في منطقة كردستان سوريا أو “روج آفا” – التي تضم عفرين بالمناسبة، بجانب عين العرب (كوباني) ومنطقة الجزيرة – والآن تنسق قوات سوريا الديمقراطية مع الجيش النظامي السوري بشكل كامل على الأرض، في حلب وفي الرقة وريفها.
تحديات ميدانية
لا تسير الأمور كما هي الآن من دون معوقات، فهناك الكثير من المشكلات التي تسببها الجماعات الجهادية الأخرى، وخصوصًا “جبهة النُّصرة”، والفصائل المنتمية إلى تنظيم “أحرار الشام”، والتي تشن حاليًا هجومًا كبيرًا على جيش النظام السوري والقوى الكردية في محيط حلب.
هذا الوضع قد يحتم في لحظة ما على النظام السوري، إرسال قوات إضافية إلى حلب، مما قد يضعِف من عملياته ضد داعش في الرقة وما حولها.
وتستغل “جبهة النُّصرة” على وجه الخصوص في ذلك، توقف الغارات الجوية الروسية والسورية على مواقعها التي تداخلت مع نقاط تشكيلات أخرى مسلحة مصنَّفة “معتدلة”، بموجب هدنة 3 يونيو التي بادرت إليها روسيا، بعد اتفاق مع الأمريكيين في هذا الصدد.
دمشق حاولت من خلال خلط الأوراق، لتقييد العمليات التي يقوم بها “أحرار الشام” على وجه الخصوص، فتقدمت إلى كل من مجلس الأمن الدولي والأمانة العامة للأمم المتحدة، برسائل تتهم تركيا بـ” بالوقوف وراء خطط إرهابية منتظمة”.
معارك حلب قد تحسم معارك الرقة وما حولها
كما نقل مركز “حميميم” الروسي للمصالحة عن سكان محليين في أحياء حلب التي تصاعدت فيها عمليات القتال بين الجيش السوري والجماعات المسلحة، قولهم إن هناك مجموعات مسلحة تضم في قوامها عسكريين أتراك، قد ظهرت في تلك المناطق، معضدة التقارير السابقة الخاصة بتواجد قوة عسكرية تركية في عفرين.
وترمي موسكو ودمشق من وراء هذا التحرك، إلى إحداث “إزعاج” للأتراك، بحيث يتوقفون عن دعم الفصائل المسلحة من مناطق التماس في شمال سوريا، وخصوصًا بعد وصول أسلحة “غير مسبوقة” لها، مثل مدفعية ميدان وهاونات وراجمات صواريخ، بالإضافة إلى وسائل دفاع جوي، وهذه الأخيرة بالذات، تُعتبر أحد أسوأ الاستفزازات بالنسبة للروس، حيث إنها من بين الخطوط الحمراء التي تفرضها حتى الولايات المتحدة، على حلفائها الإقليميين الداعمين للمعارضة السورية المسلحة، لأنها تعني تغيير كامل في معادلة القوة في سوريا بشكل غير مرغوب فيه من الأطراف الدولية الحاكمة للحرب هناك.
الطريف في الأمر، أن تقارير أشارت إلى أن مروحيات حربية أمريكية قد ألقت ذخائرًا وقذائفًا جديدة “بالخطأ”، لتنظيم داعش، كان من المفترض أن تصل إلى وحدات “الجيش السوري الحر” المتمركزة هناك.
……..
ويبقى في الأخير، أن كل هذا يعني أن الأزمة السورية قد أفلتت – للأبد ربما – من قبضة التحالف الإقليمي الهش الذي يدعم المعارضة السورية المسلحة، ويجمع بين كل من السعودية وكل من تركيا وقطر – التي يوجد بينهما تباينات كبرى في المواقف إزاء الإخوان المسلمين وثورات الربيع العربي وإيران – بعد أن تقدم الروس بخطة متكاملة لإنهاء الصراع في سوريا، شريطة أن يتم وضع كل الفصائل المسلحة في سوريا في قائمة واحدة، هي قائمة “المنظمات الإرهابية”، بما يشرعن استهدافها.
ولئن كانت الولايات المتحدة في الوقت الراهن، لا تزال تبدي ممانعة للمطالب الروسية في هذا الصدد بالكامل، إلا أنه يبقى أن الأمريكيين قد نزلوا على كثيرٍ من المواقف الروسية في الحرب في سوريا، مما يؤشر إلى أنه تحت طائلة رغبة الإدارة الأمريكية الحالية في إحداث أي اختراق في الأزمة السورية، بما يرتبط بها من ملفات، وخصوصًا مكافحة الإرهاب وداعش، قد تقود إلى المزيد من المواءمات مع الروس في هذا الصدد.