إنه لمدرك منذ أمد العصور أن المجتمعات مرآة لبعضها البعض، وأن التاريخ ما هو إلا صفحات تنسخ جُلها أو ملامح منها، وتتكرر بتكرر الظروف والأسباب، ولعل ذلك يسقط الضوء على مستقبل مجتمعنا العربي المنهك حالًا طبقًا للمجتمعات التي عاصرت ترهلها وثوراتها التي أوقعتها في اضطراب بين وحداتها مثلما يحدث الآن في وطننا العربي من اضطراب في وحدات المجتمع من الموارد البشرية إلى الثروات الطبيعية.
إن وطننا العربي انتفض في موجة تكاد تبلغ ست سنوات حتى يومنا هذا، وتلك الانتفاضة كانت نابعة من عمق الشعوب ومن قاع أوساطها حتى ترقت إلى التحكم في عملية التغيير، وعصفت بحكومات أوطانها المستبدة التي جف في زمنها الرزق وقست فيها مناحي الحياة، فنجحت تلك الثورات وما باتت إلا وهي حائرة الرأي ومشتتة الفكر، وصانعوها متباينون لا يتفقون إلا على خلاف بعضهم البعض، فكيف تُبنى أوطان الثورات بفرق متعددة، وقد كرست كل تشكيلة من الأيديولوجيات نشاطها على أن تشي بمنافستها الأخرى، وتمادت تلك التشكيلات في الظهور والوشاية غير منتبهين إلى أعداء ثوراتهم المسلحين وفلول طواغيتهم من النخب والأراذل حتى تفرقوا إلى قطبين، وانقسما أولهما قطب يزعم الحداثية والتطور، وينادي بالعلمانية والعولمة، وآخر يدعي الأصولية والمحافظة، والرجوع إلى الجذور.
إن القطبين لا يزالون يستنزفون طاقاتهم في معارضة بعضهم الآخر ونسوا صنيعهم الثوري الذي يُسرق يومًا بعد يوم وهم في غفلة من أمرهم، يرفضون التوسط بين مذاهبهم، لأن في صميمهم وعقائدهم أغاليط تفسد تآلفهم، تكدر صفوهم، وتثبط العزائم في معركتهم المشتركة، ألا ومنها مغالطة نيرفانا!
يظل العلمانيون والأصوليون يتمنعون الحوار والتوافق بينهم في حل نزاعهم الثقافي المحتدم المشتعل في القضايا المجتمعية المختلف عليها، وتتمثل تلك القضايا في تحديد مفهوم الحرية ومدى أقصاها، وكذلك مفهوم المساواة ومضمونها الإجمالي، فيعتبر تحاورهم هذا ومناقشتهم هذه أولى خطوات فض الاشتباك الأيديولوجي، ولكن كل منهم لا يريد التوسط في الرأي، ولا الاتفاق على نقاط تنهي خلافهم؛ حتى يبقوا على حالتهم المناقضة لبعضهم الآخر ظنًا كل منهم أنه بذلك يتصالح مع توجهاته ومع أيديولوجيته التي تحتم عليه أن يفرض فكره بأي السبل دون التشارك، لأن كل منهم حاسبًا أجندته نافذة يجب أن تطبق كافة فإما يجني الكل والتوسط يأتي بثماره كاملة وإما فلا أو كما يقولون في المجتمع البريطاني “Nothing or All”، وذلك يهدي إلى النيرفانا التي تخترق منطقهم، وتبدد سماحتهم المجتمعية، وتكلل عقلانيتهم.
وقد ظهر مفهوم “مغالطة نيرفانا” على يد الاقتصادي الأمريكي هارولد ديمسيتش في عام 1969 من الميلاد حين كان يظهر دورها في تردي وتقدم الاقتصاد الأمريكي ومدى فاعليتها عليه، وأيضًا أول من لمح عنها كان الفيلسوف الفرنسي فولتير عندما وصف في مؤلفه المشهور “La Bégueule” عام 1772 ميلاديًا أنه قد يكون الكامل عدو الجيد، أو بمعنى آخر قد يكون عدم الوصول للكمال يفقد الجيد قيمته وحسنته، فبدور تلك الأغلوطة في التأثير على الخلاف الأيديولوجي المجتمعي وجب بيان مضمونها بالرغم من أن تلك المغالطة ليست هي السبب الوحيد وأن هناك أسباب أخرى بالطبع تعيق التوسط أهمها الكبر، والمغالاة، والمغالطات المنطقية.
ومن المغالطات الأخرى أنه دائمًا معلوم أن ليس من أحد يطيق التوسط بين أمره وأمر مناقضه، فكل منهم يظن مكابرًا أن التنازل عن بعض أفكاره أمر باهت مفتقد الشرف والبطولة، ومن ظنهم هذا تدور في ذهن كلا الطرفين فكرة تدفعهم إلى التطرف إلى معتقدهم، وهي أن الإخلاص في الدفاع عن المعتقد، والتفاني في دفع الشبهات، والتبرير للأغلاط زاعمين أنه خيرٌ من التنازل شبرًا من أجل توسط غير معلوم نتيجته ولا مدروس عواقبه.
الكل في خطئه الفكري والكل يريد الفائدة المطلقة والرهان الرابح لا محالة، ذلك يتعرى كثيرًا من المنطقية ويفتقد الواقعية، ويدعو للإقصاء الذي هو في حد ذاته استبداد غير مقبول عقلًا ولا فطرة، لأن باستبداد الفكر لأحد الطرفين على آخر يلغي وجود المستبَد بإلغاء صفة التفكير عنه وتهميش فكره فكما قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، وذلك يعتبر جرمٌ كبيرٌ لا يغتفر.
أخيرًا لا بد من أن يراجع كل طرف نفسه، ويتصالح مع فطرته التي فُطر عليها، وأن يقبل الحل الوسط ويسعى إليه بالبراثن والأسنان، فإن كل طرف إن كان يؤمن بخلق الله للظلام والنور كما قال “ماني” قديمًا فليؤمن أن هناك أيضًا منتصف بين هذين الحدين، وليأخذوا من اليوم عبرة فليس اليوم نهارًا وليلاً فقط، ولكن هناك فجر ونهار، وغسق وليل، فاعتبروا يا أولي الألباب.