هو الحكم، هو العرش، هو الكرسي، هي من هي، هي السلطة، التي قال عنها سليمان الفارسي “حلوٌ مذاقها… مرٌ فراقها”، يبقى لتلك الحلوة المرة عشقٌ خاص، يزداد ذلك العشق كلما طال عمر من اعتلى عرشها واستلذّ بمتاعها، أمام مغريات النفوذ السياسي وهيمنة المال والسلطان والجاه الذي قلما ونادرًا جدًا تصمد أمامه المناعة الأخلاقية واعتبارات الصالح العام، حين يصبح الكرسي أحد أقوى محركات السلوك الإنساني في عالم السلطان ودنيا المتاع.
تختلف مستوياتها وتبعاتها سواءً على مستوى الدولة أو الحزب أو التنظيم أو المؤسسة أو القبيلة أو حتى على مستوى المجتمع الصغير الأول ألا وهي العائلة، يبقى لذلك الكرسي مزاياه ولن تخرج النفس عن هواها، وكلما زاد حجم السلطة زاد الهوى وانخفضت أمامها مضادات الجموح والغواية والهوى، وحينها ما أصعب الفراق حين تزيد شهية السلطة من غريزة حب البقاء.
حالة التعثر التي أصابت التحول السياسي في البلاد العربية كشفت عمق الأزمة التي يعاني منها المجتمع العربي بشكل عام.
في الحالة العربية منذ قرابة خمس سنوات اتضح عمق وانتشار الاستبداد داخل الأنظمة العربية، التي تعاملت مع من يسعى للخلاص منها إلى إلغائه من المشهد الوجودي وليس من المشهد السياسي فقط، حين أوشكت الجماهير إلى نزع الملك عنها، فشعرت أنها إلى نزع روحها أقرب، فرأيت ما رأيت يوم 14/8/2013 في ميدان رابعة العدوية في القاهرة وميدان النهضة في الجيزة، وما زال الكون أجمع يرى كل يوم ما يحصل في دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب، وليست عنكم صنعاء وتعز وعدن وبنغازي وطرابلس ببعيد.
عند الحديث عن الاستبداد وحب البقاء والاستحواذ، وعن السلطة عشقها وحبها وملذاتها، وكأنك فقط تعني الأنظمة العربية دون غيرها، لطول عمر استبدادها ولأنه استبداد فظ غليظ، يشعر بقسوته الجنين في رحم أمه قبل أن يرى نور الحياة، لكن ليس بعيدًا عن بنية الأنظمة الاستبدادية كثيرٌ من الأحزاب والمنظمات وبشكل عام كثير من الكيانات الحزبية والاجتماعية والنقابية التي ظلت ردحًا طويلًا من الزمن تحاكي تلك الأنظمة وتسير على خطاها، وتغطي الاستبداد خلال المراحل التاريخية التي مرت بها بأغطيةٍ كثيرة، تشابهت الأنظمة ومن شابهها في ارتدائها.
عادةً ما يلجأ من استلذ بدفء الكرسي إلى تشخيص غير دقيق للأحداث فيؤدي ذلك التشخيص إلى تعقيد سبل الحل، ثم يبني على ذلك التشخيص طروحات يعتقد أنها صالحة لكل المراحل، بينما لا يختلف واقع الحال في كثير من الكيانات في بنيتها وتركيبتها عن النظام السياسي العربي الذي أصبح نموذجًا لدولة الاستبداد.
حينها يجتهد ذلك الكيان المعتل كثيرًا في الاستعانة بكل ما يخدم حالة الركود الداخلي التي لا تخدم في ركودها واستكانتها سوى بقاء الهياكل التنظيمية على حالها، وتثار هنا فزّاعة الخوف الرهيبة من شيء اسمه التغير، ولعلّ أخطر ما يتم اللجوء إليه في سياق التبرير ما له علاقة بالنص الديني نقلًا أو تفسيرًا أو تأويلاً، إضافةً إلى العادات والتقاليد، وتبدو البراعة هنا في الاستناد إلى قوالب فكرية جاهزة لا تخدم إلا مسار الصعود الذي يراه حتى وإن كانت كل مؤشرات القياس تدل على أن ذلك الصعود هبوط.
حالة التعثّر التي أصابت التحول السياسي في البلاد العربية كشفت عمق الأزمة التي يعاني منها المجتمع العربي بشكل عام، أولا على صعيد النظم السياسية الحاكمة، التي أهلكت الحرث والنسل بفعل استبداد عميق طال عمره وعم بلائه، ثم على صعيد كثير من البنى والهياكل الحزبية والاجتماعية والتنظيمية.
ولأن السلطة المطلقة مفسدةٌ مطلقة، وحينما تكون يكون العشق وتكون مرارة الفراق، لذلك تكون أهمية اللوائح والقوانين التي تكبح جِماح النفس وتزيحها جبرًا عن عرش السلطة، وتضبط السلوك البشري الذي يبقى دائمًا بحاجة إلى ناظمٍ وضابطٍ لا يطلِق للنفس عنانها وإلا استحلّت محرمًا واستباحت مقدسًا دفاعًا عن شهوةٍ خفيّةٍ تلبس أحيانًا ثوب الوطن وأخرى ثوب الدين.
وقد استقرت كثير من الجماعات البشرية بعد تجارب تاريخية كثيرة إلى هذه الضرورة المتمثلة بالانصياع لحكم القانون والضوابط واللوائح، على اختلاف تلك الجماعات في أصولها وأعراقها وفكرها السياسي، فليست المسألة منحصرةً في الحضارة الغربية الحديثة حاملة لواء الديمقراطية وتطبيق مبدأ سيادة القانون، كما أنها ليست من إنتاجاتها من الناحية النظرية أيضًا.
والجماعات التحررية والحركات التي ترى نفسها إصلاحية هي أولى بتطبيق النهج الشوري المؤسساتي في عملها وهو أمرٌ مقدّم على نقد الأنظمة الاستبدادية القائمة، ولن تكون مقنعةً لجمهورها وشعبها إن هي بقيت نسخةً مصغرةً عن نمط الدولة الاستبدادية حين يكون العامل المشترك بين هذه الدولة وتلك الجماعات والحركات الخلود والبقاء على الكرسي حتى الممات.
المستخلص من التجربة البشرية على اختلافها بين مدارس فكرية وسياسية مختلفة، هو علوّ سلطة القانون وتطبيق أحكامه على مختلف مستويات وشرائح المجتمع، يتجلّى ذلك الالتزام الحديدي بمبدأ المساواة أمام القانون في قسم سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – حين أقسم أن يد ابنته فاطمة – رضي الله عنها – ليست في حل من العقاب عند اقتراف الجريمة أو الاعتداء على حقوق البشر.
وحفاظًا على حقوق البشر لأنهم بشر وليس لأنهم صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو لأنهم جماعة المسلمين كانت وثيقة المدينة أو الميثاق الوطني الجامع إن جاز القول وذلك في المراحل الأولى لإرساء دولة الإسلام، وفي ذلك يبيِّن الدكتور عماد الدين خليل في دراسته للسيرة النبوية كيف نظّمت الوثيقة العلاقات بين الكتل البشرية المختلفة في المجتمع الجديد، فكانت الخطوة الثانية بعد المسجد ثم تلا ذلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
استقرت كثير من الجماعات البشرية بعد تجارب تاريخية كثيرة إلى هذه الضرورة المتمثلة بالانصياع لحكم القانون والضوابط واللوائح.
تبدو في دراسة الدكتور عماد الدين خليل أكثر من غيرها من الدراسات أهمية ذلك الميثاق الوطني الجامع، فهي دراسة علمية أكاديمية ليست ذات طابعي دفاعي، وكان الانشداد العاطفي فيها للسيرة النبوية العطرة مضبوطًا، فزاد ذلك من موضوعية الدراسة، كما زاد من قيمتها العلمية أيضًا حالة التجرّدِ التام في عرض الأحداث وتحليلها رغم أن منهجية الدراسة قامت على التركيز على الأحداث بعينها وإعطائها الحظ الكافي من العرض دون الالتزام بالتسلسل الزمني لأحداث السيرة.
التبكير في إصدار الوثيقة وتقديمها على أيّةِ مسألةٍ أخرى حتى لو كانت قضية بحجم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لعلّه يعني أهمية احتكام الناس لما يضبط إيقاع الحياة بين شرائح المجتمع المختلفة في كل شيء وأهمها في الدين والعرق والمصالح، وأمام مجتمع جديد في الجزيرة العربية لأول مرة هذا المجتمع الفتِي لا يقوم على رابطة الدم أو نظام القبيلة، ولعلّ في إضاءة الدكتور عماد الدين خليل علاجٌ لآفة كثير من الجماعات التي تطغى فيها اعتبارات الأخوة والمجاملة على مسائل المراجعة والمحاسبة والتقويم، مع أن ذلك كان من صميم منهج الخليفة الراشد الذي عند ذكره يذكر العدل، فلعلّها إضاءةٌ وتنوير في مسيرة البناء والتغيير.