ما إن أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما فور دخوله السلطة أنه على استعداد لفتح باب الحوار مع طهران حتى سارع الجميع في التواصل مع وزارة الخارجية الأمريكية، بدءًا من الأتراك والإيرانيين المقربين من الغرب، وحتى دبلوماسي كندي ورئيس وزراء سابق لإسبانيا، وأخيرًا واحد من مستشاري السلطان قابوس العُماني، وقد ادعى جميعهم امتلاك صلات قوية بالإيرانيين تتيح لهم الوساطة للتوصل إلى اتفاق بين إيران والغرب، هكذا تحدث مارك لاندر بكتابه المنشور حديثًا “ألتر إيجوز،” والذي يسرد فيه سنوات عمله كمراسل لصحيفة نيويورك تايمز بالبيت الأبيض، وتفاصيل المحادثات التي استمرت لسنوات طويلة بين واشنطن وطهران حتى قبل دخول حسن روحاني إلى الرئاسة الإيرانية.
مئات بالفعل من ذوي المصالح في انفتاح الغرب على إيران تدفقوا على وزارة الخارجية الأمريكية أنذاك، ولم يكن غريبًا أن يكون من بينهم الإيرانيون الإصلاحيون بالخارج ممن كانوا ليستفيدوا أولًا من عودة العلاقات لطبيعتها بين الجمهورية الإسلامية التي ساهموا في تأسيسها من ناحية والاقتصادات الغربية كلها، وثانيًا من تعزيز جناحهم الإصلاحي في السياسية الإيرانية والتي شهدت هيمنة المحافظين أثناء فترتي رئاسة أحمدي نجاد بشكل غير مسبوق، علاوة على ذلك كان طبيعيًا وجود بعض الدبلوماسيين والمسؤولين الأوروبيين ممن وجهوا أنظارهم للغاز الإيراني، وكذلك الكثير من الأتراك أصحاب العلاقات المميزة مع طهران منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة.
بيد أن أيًا من هؤلاء النافذين بعلاقاتهم السياسية والاقتصادية والتجارية لم تسنح له الفرصة بالفعل للعب دور الوساطة الذي طمح له، في حين سُمِح لشخص غير متوقع على الإطلاق بلعب ذلك الدور، والذي التقاه المسؤول الأمريكي صاحب الأصول الإيرانية، ري تكيه، في رُدهات وزارة الخارجية الأمريكية مرة قبل أن يثبت بالفعل للمسؤولين الأمريكيين أن صلاته بالإيرانيين أفعال لا أقوال، وتبدأ رحلة وساطة سبقت في الحقيقة الاتفاق النووي، وطالت تبادل بعض المحتجزين هنا وهناك؛ إنه سالم بن ناصر الإسماعيلي مستشار السلطان العُماني قابوس بن سعيد آل سعيد.
من هو الإسماعيلي؟
وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في زيارة سابقة لعُمان وإلى يمينه سالم بن ناصر الإسماعيلي
وُلِد سالم عام 1958 في جزيرة زنجبار التي انضوت تحت لواء سلطنة عُمان حتى العام 1964، وقد فقد أسرته أثناء الصراعات على الجزيرة لينشأ يتيمًا في كنف القصر العُماني في مسقط، والذي أشرف على تعليمه في بريطانيا والولايات المتحدة، وهي صلات أتاحت له بناء إمبراطورية تجارية خاصة به منها بنك في عُمان وبناء منشأت صناعية قُرب العاصمة العُمانية، قبل أن يصبح عام 1996 رئيس الهيئة العامة لترويج الاستثمار وتنمية الصادرات، وتتبلور علاقاته الاقتصادية مع الشركات الأجنبية والأمريكية بالتحديد.
يظهر اسم الإسماعيلي لأول مرة في رسائل وزارة الخارجية الأمريكية عام 2006، حين رفض دعوة أمريكية لحضور منتدى اقتصادي أمريكي عربي نظرًا لعدم تصديق الكونجرس أنذاك على اتفاقية التجارة بين عُمان والولايات المتحدة، وهي فترة كان دوره يتبلور فيها ليتجاوز عالم الاقتصاد ويشمل لعب دور المستشار الخارجي للسلطان قابوس بتولي بعض الملفات مع الحكومات الأجنبية ومساعدة العُمانيين بالخارج ممن تورطوا في مشكلات كبيرة، ومن ثم بدء ظهوره في ملف العلاقات مع إيران عام 2009، وهو العام الذي قام فيه قابوس بزيارة علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في طهران، على الرُغم من التوتر الشديد أنذاك بين إيران والغرب نتيجة قمع التظاهرات المعارضة الشهيرة لانتخاب أحمدي نجاد لفترة ثانية كرئيس للجمهورية الإسلامية.
في نفس ذلك العام كان الإسماعيلي قد أجرى أول تواصل له مع الخارجية الأمريكية، وكان أوباما قد دخل البيت الأبيض لتوّه، وفي تلك الأثناء جرى أول لقاء له بالفعل مع المستشار الأمريكي لهيلاري كلينتون دنيس روس، والذي تلقى بعضًا من الكتب التي كتبها الإسماعيلي عن الجزيرة العربية وتاريخها كهدية، وتلقى أيضًا ورقة احتوت على عرض إيراني للتفاوض مع إدارة أوباما، مع تأكيدات من الإسماعيلي بقدرته على جلب الإيرانيين فعلًا لطاولة المفاوضات، وهي ورقه قال أنه كتبها بنفسه مع معارفه الإيرانيين، والذين اشتملوا على أحد قيادات الصناديق الائتمانية الدينية في إيران من أصحاب العلاقات القوية بخامنئي نفسه.
تباعًا، قرر روس بالفعل تمرير المقترح إلى وزيرة الخارجية أنذاك هيلاري كلينتون، والتي طلبت منه أن يستمر في الحوار مع الإسماعيلي، وهي نفس الفترة التي عكف فيها رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس جون كيري، ووزير الخارجية الأمريكي لاحقًا، على لقاءات مع الإسماعيلي ببلدان مختلفة، في حوار استمر لسنوات كما نعرف الآن، وتضمن إنجازات عدة وليس فقط إنجاز الاتفاق النووي الأهم الذي تم الإعلان عن صورته النهائية العام الماضي.
رحلة الإسماعيلي بين إيران والغرب
الدكتور مجتبى أتارودي (اليسار) مع القائم بأعمال السفارة الإيرانية في عُمان رضا حسن زاده (الوسط) والإسماعيلي (اليمين) بعد إطلاق سراحه
في يوليو 2009، وفي ظل توتر الأجواء بين طهران وواشنطن، قامت إيران باعتقال ثلاثة مواطنين أمريكيين من متسلقي الجبال متهمةً إياهم بالتخابر لصالح الولايات المتحدة، وقد اعتقلتهم في الحقيقة على حدودها مع العراق، حيث أكد مسؤولون أمريكيون وعراقيون عديدون أنهم لم يعبروا الحدود إلى إيران أبدًا، وأنهم كانوا في رحلة ترفيهية ليس إلا، بيد أن ذلك لم يمنع إيران بالفعل من احتجازهم لأكثر من عام، حتى بدأ الإسماعيلي في الوساطة بين الطرفين، لينجح في الاتفاق على إطلاق سراح واحد منهم في سبتمبر 2010، ثم الاثنين الآخرَين بعد عام تقريبًا، وهي فترة شهدت زيارة دنيس روس بنفسه لعُمان للحديث مع الإسماعيلي، ثم زيارة هيلاري كلينتون للسلطان قابوس عام 2011 لمناقشة عرض الإسماعيلي بشكل خاص، وجون كيري كذلك عام 2012 قبل أن يتولى رسميًا حقيبة الخارجية الأمريكية.
بعد أن أثبت الإسماعيلي نجاحه في أول مهمة للوساطة بين طهران وواشنطن في أزمة المتسلقين، جاء الدور على إيران لتطلب مقابلًا في إطار قناة المحادثات السرية المفتوحة حديثًا بينها وبين الولايات المتحدة أنذاك، وكان الطلب بخصوص الدكتور مجتبى أتارودي، العالم الإيراني الذي اتهمته الولايات المتحدة بتهريب معدات نووية متطورة لإيران من أجل برنامجها النووي، واحتجزته بالفعل في أواخر العام 2011 في ولاية كاليفورنيا رُغم إنكار إيران لكافة التُهَم الموجهة لأتارودي، لينجح الإسماعيلي مرة أخرى في الوساطة لإطلاق سراحه عام 2013، وإن ظل بعض المسؤولين الأمريكيين على موقفهم من أن إطلاق سراحه لم يكن في إطار صفقة تبادل مع إيران مقابل تحرير المتسلقين.
في تلك الأثناء كان جون كيري من أكثر المتحمسين لفتح قناة اتصال مع الإيرانيين في ظل شغفه بتحقيق إنجازات دبلوماسية كبيرة تحت رئاسة أوباما، وكانت الرسالة التي قرر كيري إبلاغها للإيرانيين في ذلك الوقت -رُغم عدم توليه منصب الخارجية بعد- هي أن الولايات المتحدة لن تمانع في استمرار إيران بتخصيب اليورانيوم طالما تقيّدت بشروط أخرى في إطار اتفاق مستقبلي يمنعها من تطوير أسلحة بأي شكل، وهي رسالة تعامدت نوعًا ما مع مطلب خامنئي باعتراف الغرب بإيران كقوة نووية، وألا يتضمن أي اتفاق تفكيك البرنامج بأكمله أو تقويض القاعدة النووية نفسها بقدر ما يحتوي على تقييد لاستخدامها.
في 2013 زادت وتيرة المفاوضات بدخول كيري لوزارة الخارجية من ناحية، ووصول حسن روحاني الإصلاحي لرئاسة إيران من ناحية، واستمرت الوساطة العُمانية في إبلاغ الرسائل من وإلى طهران وواشنطن، كما استمرت الزيارات الأمريكية السرية عن طريق كبار مستشاري الخارجية من وإلى عُمان، حتى توصل الطرفان بالفعل لاتفاق مبدأي لأول مرة في نوفمبر من نفس العام، وهو اتفاق تبعته مفاوضات أكبر انتهت بالاتفاق النهائي العام الماضي، “لولا قنوات الاتصال العُمانية لظللنا حتى نهاية 2013 نتسائل عن كيفية التواصل مع الإيرانيين، ومع من بالتحديد،” هكذا تحدث نائب رئيس الأركان أنذاك جيك سوليفان في تصريح منسوب له بنفس الكتاب المذكور.