استعجلت القوى الدولية لإيجاد حل سياسي في ليبيا بعد جولات من المفاوضات الفاشلة التي لم تسفر عن شئ بين أطراف النزاع الليبي رغم محاولات حسم الصراع لصالح طرف عبر الوسيط الأممي، إلا أن الواقع المدني أحبط كل هذه المحاولات.
ظلت حالة الانقسام مهيمنة بين التيارات الإسلامية التي سيطرت على طرابلس ومصراته بعدما توحدت فيما بينها لمواجهة قائد عملية “الكرامة” اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي تحالف سياسيًا مع برلمان طبرق المنحل بحكم المحكمة الدستورية العليا.
في هذه الظروف نبت أمراء الحرب من كافة الأطراف، وكان على القوى الإقليمية إيجاد صيغة بديلة لهذا الانقسام بأسرع وقت ممكن، لإطلاق عملية عسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا الذي اتسع نشاطه وامتدت رقعته.
حيث كشفت مجلة “نيوزويك” الأمريكية عن تقديرات الاستخبارات الأمريكية، أن عدد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في ليبيا تضاعف في وقت أدى فيه تشديد الرقابة على الحدود، وشن حملة ضربات جوية منسقة إلى إلحاق خسائر بأعداد المقاتلين في سوريا.
ونقلت المجلة عن تقديرات الاستخبارات الأمريكية التي كشف عنها العديد من المسؤولين الأمريكيين، أن ثمة اعتقاد بأن عدد مقاتلي التنظيم يبلغ حوالي 6 آلاف و500 مسلح في ليبيا، وهو ضعف التقديرات السابقة.
لذا كانت الحاجة ملحة لشرعنة تدخل عسكري سريع في ليبيا يتجاوز الطرفين اللذين فشلا في ظل انقسامهما في مواجهة التنظيم، وقد أكدت ذلك تصريحات قوى دولية منها فرنسا وإيطاليا، والتي سارت في اتجاه الرغبة الحقيقية في توقيع اتفاق الصخيرات في المغرب بمن حضر، لتشكيل حكومة بأي ثمن، بغرض تشريع التدخل العسكري في ليبيا بحجة محاربة “داعش”.
حتى أن الأمم المتحدة تخطت دورها الذي يتوقف عند حد رعاية الجهود، لا إملاء الشروط، في قضية حل الأزمة الليبية، بعدما رفضت الإجماع الليبي الجديد الذي بدوره يرفض اتفاق الصخيرات، وبعد أن قدمت بعض الأطراف الليبية رؤية تقوم على مبدأ الحل من الداخل لا من الخارج.
انطلاق معركة سرت بعد تشكيل حكومة الوفاق
هدد المجتمع الدولي الرافضين لاتفاق الصخيرات بتوقيع عقوبات منها الحصار الاقتصادي، حتى وصل إلى بغيته، وأعلن المتحدث باسم المجلس الرئاسي الليبي، فتحي المجبري، أنه تم الاتفاق على تشكيل حكومة في ليبيا من 13 وزارة، وقد أعلن المهدي البرغثي وزيرًا للدفاع، وهي الحقيبة التي كانت عقبة تعترض تشكيل الحكومة برئاسة فايز السراج.
رفض طرفي الصراع في ليبيا هذه الحكومة لكن الدعم الدولي المقدم لها نجح في إقامتها كأمر واقع بين الأطراف، ومنها انطلقت فعليًا معركة حكومة الوفاق الوطني ضد تنظيم الدولة الإسلامية داعش بغية تحرير مدينة سرت.
في هذا الوقت تناقلت وسائل إعلام أميركية أن وزارة الدفاع الأمريكية نشرت 25 من جنودها في موقعين ليبيين بغرض نسج تحالف محلي لدعم الحرب ضد التنظيم، في وقت أعلنت الإدارة الأميركية عزمها على تخفيف القيود المفروضة على تسليح الجيش الليبي.
وهو ما يعني أن الهدف الرئيسي من هذه الحكومة هو إطلاق هذه المعركة بدعم دولي، دون الالتفات إلى مآلات التوافق الهش الذي تم في الصخيرات.
هل ستستمر هذه الحكومة رغم كل هذه العقبات؟
حينما بدأت معركة تحرير سرت من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وجدت حكومة السراج نفسها مجبرة لاحتواء الكتائب الإسلامية التي تقاتل داعش وفي نفس الوقت ترفض هذه الحكومة المنبثقة عن الاتفاقات الدولية معتبرينها “حكومة إملاءات غربية”.
ولكن ضرورة القتال وخبرة هذه المليشيات أجبرت الحكومة على التعامل معها، في ظل عدم المقدرة على بناء جيش وطني حقيقي بعيدًا عن هذه الصراعات، لذا لن تستطيع هذه الحكومة أن تصمد طويلًا ما لم تحدث توافقًا حقيقيًا مع هذه الأطراف التي تقاتل معها من مصراتة وطرابلس.
كذلك على الجانب الآخر هناك أمراء الحرب الذين يتزعمهم اللواء المتقاعد “خليفة حفتر” الذي منى نفسه كثيرًا بدعم إقليمي لإحداث انقلاب عسكري بقوة المليشيات للسيطرة على الوضع في البلاد، وهو ما لم يحدث رغم إتاحة الفرصة له كثيرًا للقضاء على الإسلاميين في طرابلس إلا أن لم يُفلح، وهو ما دعا المجتمع الدولي للتدخل.
يتهم المحلل السياسي طارق مغريسي في مقال له نشرته مجلة الفورين بوليسي أن أصدقاء ليبيا المزعومين في المجتمع الدولي أهملوا عقبة الجنرال خليفة حفتر ومن معه من مجموعة عسكريي عهد القذافي أو أمراء الحرب، والمليشيات التي أطلقوا عليها اسم الجيش الوطني الليبي.
هذه العقبة التي لن تمكن حكومة الوفاق من فرض سيطرتها على كامل التراب الليبي وهو ما معناه أن الصراع سيتحول إلى تقسيم بين 3 جهات بدلًا من جهتين في السابق، لأن حفتر وأمراء الحرب نجحوا في خلق شبكة مصالح في منطقة برقة الذي يسيطرون على حقول نفطه تحت دعاوى حمايته من “داعش”.
يستدرك مغريسي في تحليله ويؤكد أن ما تحتاجه الحكومة الحالية هو شرعية الانجاز في مسألة القضاء على الفوضى وبسط كامل النفوذ على الأراضي الليبية، وهو ما يراه نفس ظروف ظهور الجنرال حفتر الذي قاد حملته تحت غطاء استعادة الاستقرار والأمن، ولكنه فشل في ذلك واستعاد الإسلاميون زمام المبادرة.
إن مسألة إعادة السيطرة على كافة أقاليم ليبيا هو التحدى الأكبر والعقبة الكبرى التي تقف أمامه “أمراء الحروب” المبتعثين مع عهد القذافي المنتشرين في طول البلاد وعرضها، وهو ما تحاول الحكومة فعله بدمج بعض أمراء الحرب هؤلاء في التشكيلات العسكرية التي من المفترض أن تكون نواة الجيش الوطني.
لكن ليس من الواضح حتى الآن إذا ما كانت هذه المليشيات وقاداتها سيقبلون بالتخلي عن أحلامهم التي خاضوا من أجلها حربًا ضد الإسلاميين في طرابلس أم لا، وكذلك ليس واضحًا ما إذا كان سيسمح اللواء المتقاعد خليفة حفتر لحكومة الوفاق الوطني بتنفيذ تعهداتها بالتنمية تجاه الأقاليم التي يسيطر عليها بحيث تشكل شرعية انجاز حقيقي اقتصادي لها أمام الشعب الليبي الذي يُعاني من صراع داخلي منذ 5 سنوات، ويحتاج إلى من يحسمه.
وهذا الأمر نفسه هو الذي يطرح تساؤلات حول موقف القوى الدولية من حفتر إذا ما رفض السماح لحكومة الوفاق الوطني بتفعيل مشروعها على الأراضي التي يسيطر عليها، وكذلك موقف هذه القوى من مصر والإمارات اللتين تقودان مشروع حفتر الاستئصالي وتدعمه بالمال والسلاح لفرضه.